خيالٌ دائمًا عَجِلُ
وقلبٌ دائمًا وَجِلُ
فذاك يُريدُ أطيارًا
وأطيافًا، ولا أملُ!
وهذا يبتغي القربى
بِخطوٍ كلُّه خَجَلُ
يسافرُ باسطًا كَفَّيهِ
للماءِ، ولا يَصِلُ!
...
أسافرُ واهمًا في أَمسِ
والآمالُ ترتحِلُ
لأني حين أنتقلُ
هنالك فالمُنى هَمَلُ
إلى حيث الصبا لعبٌ
وأحلامٌ ولا عمَلُ!
...
كبرتَ، وفي فؤادِ المرءِ
تنمو مثلَه عِلَلُ!
كَبِرْتَ وقلبُكَ المسكينُ
طفلٌ لم يَزَلْ يَهِلُ!
ومِن بلاء الأمم الضعيفة بنفسها أن انبعاثَها إلى التقليد -تقليد القوي- أشد من انبعاثها لتجديد تاريخها بأسباب القوة التي تدفع في أعصابها عنفوانَ الحياة.
والضعف يجعل محاكاة القويّ أصلًا في كل أعماله.
محمود شاكر
ومِن لطيف وَصف "محمود شاكر" للكاتب والشاعر:
"وهما فنُّ الحياةِ الذي يعملُ أبدًا في تجديد معانيها بالتأثير والبيان".
كان "ستالين" يصف الكُتّاب بأنهم "مهندسو الروح البشرية".
وقال الشيخ محمود شاكر:
"وعلّمني كتابُ سيبويه يومئذ أنّ اللغة هي الوجهُ الآخر للرياضيّات العُلْيا".
قلم رصاص 0.5 مللي..
"اللهم امنحني السكينةَ لأتقبلَ الأشياءَ التي لا أستطيعُ تغييرَها، والشجاعةَ لأغيرَ الأشياءَ التي أستطيعُ تغييرَها، والحكمة لأعرفَ الفرقَ بينهما".
"أهلُ مصرَ على كثرة عددهم وما يُنسَب من وفور المال إلى بلدهم، مساكينُ يعملونَ في البحر، ومجاهيدُ يدْأبونَ في البَـرّ، ..."*.
مساكينُ ومَجاهيدُ..
كأنما تواصَت سلسلةُ الفراعينِ فيما بينهم ألّا يُرِيحُونا!
ولا بأس.. "إنّ اللهَ يُعذّبُ الذين يُعذّبُون الناسَ".
_____
(*) نقله السيوطي عن القاضي الفاضل.
العزيز الغالي/ رُوح..
الشمسُ التي كانت تُدفئني في وجودك، صارت تحرقني في غيابك.
وطيفُك الشائقُ لم يعد يَزورُ قلبيَ المَشوق، والثقبُ الذي خَلَّفَه فَقدُك يزدادُ في قلبي ولا يلتئم، وأخشى أن يأكلَ فؤادي كلَّه.
لقد عاهدتَني إن غبتَ أن تُبقيَ لي ظِلَّك أنيسًا، فلماذا تقلَّصَ عني؟! متى علموكَ البخلَ وقد علمتَني الكَرَم!
كيف أنت؟
سؤال من كلمتين، وجوابُه يَفنَى دُونَه مدادي!
كيف أنا؟!
تُراني كيف أكون؟! فقد كنتُ بك.
الحياة بك، حياتي أنا بك، وقلبي مُبَعثَرٌ في غيابك. نعم.. بَعثَرَني فَقدُك، وما زلتُ ببالغِ الجهد ألملم بقايا نفسي من أرضٍ خَلَت مِن ظِلِّك، وهيهاتَ هيهاتَ لِما أريد!
في قلبي آهةٌ، بل آهات! كلٌّ منها حكايةٌ نَسَجتها لياليَّ، لياليَّ التي زادَها بُعدُك ظلمةً على ظُلمتِها، ولَغيابُك أشدُّ الظُّلمَتَين عليَّ!
كنتُ إذا امتلأتُ بالكتمان أنقذتني أذُنُك المُرهَفَةُ التي كانت تنصت لي، تسمعني، تُفرغني من كل أَسَايَ، وتَشرب من كأسي المُترَعة بالكروبِ سعيدًا لا تُضجرُك الحَكايا، ولَكأنك تشربُ كأسًا مُعَتّقةً باللذة، حتى لقد كنتُ أصيحُ بك في بَسمةٍ: أمجنون أنت؟! مجنون؟!
لكني لا أُواري عنك سِرًّا، ولا أُداري عنك حديثًا: كنتُ معك كالفراشة خِفةً وابتهاجًا، أخف بك، وأبتهج لوجودك.
فكيف تركتني في ظلمات المُوحشات: الليل والبُعد والحرمان! هنتُ عليك!
لكنك ما هنتَ عليَّ.
عليك السلام.. ولي وحدي الحرب..
لعلك تُسالمُني، وتسالمُني الدنيا معك.
طبتَ غائبًا وحاضرًا، وناسيًا وذاكِرًا.
من أرضِ الغياب..
المرسل والمرسل إليه: روحٌ واحدةٌ جرَّبوها في جِسمَين، فكل نصفٍ وحده يَئنّ.
في قلبي منذ صباح أمسِ غَضَبٌ مَكتومٌ يتلهَّبُ في صدري، فإذا جاءكَ حينَ ضِيقةِ صدرٍ، أوشكَ أن يكون قنبلةً موقوتة!
وكأنني أُحسُّه وأقبضُ على مكانه بيديَّ، كتلةٌ متحجرةٌ في صدري الضيِّقِ لا تجدُ مَنفذًا.
وأعوذ بالله من غضبه وعقابه وشرِّ عبادِه، ومن همزات الشياطين وأن يَحضرون.
وقد رُوي في الخبر:
"أَلا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تُوقَدُ فِي جَوْفِ ابْنِ آدَمَ".
ويُروَى: فَإِنَّهُ يُوقِدُ فِي فُؤَادِ ابْنِ آدَمَ النَّارَ!
ووالله لَهِيَ نار..
ونعوذ بالله من النار.
ما رأيتُ أقربَ للسعادةِ مِنَ الأغبياء!
وكلما هبطَ دركةً في سُلَّمِ الغباءِ؛ ارتقى درجةً في سُلّم السعادة، حتى تتم سعادتُه إذا صار "حمارًا" بالتمام والكمال!
والغبي لا يبالي، وهذا مِن طالعِ سَعدِه!
وقد كادت أن تُجمعَ الأممُ أن أطيبَ العيشِ عيشُ الذي لا يُبالي!
فأنصُحك يا رائِمَ السَّعدِ العاجل: كُن حِمارًا!
فإن لم تستطع؛ فتشبَّه بالحمير، تَسْعَد..
فإن لم تعجبْك النصيحةُ مني، فخذها من أستاذ البلاغة الجرجاني، نصحَك فقال:
وعِشْ حماراً تَعِشْ سعيداً
فالسَّعدُ في طالِعِ البهائِمِ!
أرأيتَ؟!
ما غَشَشْتُك..
فإن هَالَتْك صُورُ السعداء في كل جانب، فلا تفزعْ، فقد أنباك ابنُ لَنْكَك البصري قديمًا:
لا تخدَعَنْكَ اللِّحَى ولا الصورُ
تسعةُ أعشارِ مَن ترى بقرُ!
فإن كنتَ آسيًا مِثلي، ولم تفلح أن تعيشَ حمارًا، فصالِح أَساك..
نحن الذين اختارَنا الحزنُ إذ عادَتْنا الحَمير!
وأستغفر اللهَ فقد أسأتُ للبهائم.
مشكلة الإنسان: أنه يحب أن يعيشَ دورَ الإله أحيانًا!
وإنْ هو إلا هباءةٌ لا تُذكَر في ملكوت السمـٰوات والأرض! لا يملك مِن أمرِ نفسِه شيئًا، فهو عن ما سوى ذلك أعجز.
جماعة الخير، أنا محاسب..
ولا أديب ولا كاتب ولا خطاط ولا بتاع لغة عربية ولا مدرس ولا شيخ!
ولا حتى بحب المحاسبة ولا نافع فيها!
للمرة الألف..
قلم رفيع، سن ريشة..
كتابة تقليدية، لا تقليد..
هذا النوع من الكتابة هو الذي استقر عليه قلمي منذ أكثر من عشر سنوات، مع التغيير الطفيف مع الأيام كعادة أي شيء.
وهو خط أقربُ ما يكون للرقعة، ويكاد يكون خطي المعتاد في كتاباتي العادية، والامتحانات ما لم يَعجَلوا علينا..
وكنتُ صغيرًا لا يَحسُنُ خطي بالقلم العادي إلا نَسخًا بطيئًا، ثم مَنَّ اللهُ عليَّ وتعلمتُ شيئًا من السرعة مع بعض الجودة فكان النتاج: مثل هذا الخط، وليسَ يرضيني بعدُ والله، بل أغبط بعض الخطوط، ومنهم مثلًا: خط الشيخ بدر آل مرعي!
لأكثرَ مِن عشرة أيام، لم يطاوِعْني البيانُ في شيءٍ، وكنتُ أفتح "المفكرة" وأكتب وأمحو وأملّ وأضجر، بلا فائدة.
واليوم يتدفقُ عليَّ شيءٌ غيرُ قليلٍ من ألوان المعاني والخواطر، تمامًا كما تتقلب بنا أحوال السماء يومًا بعد يومٍ، بينما تكون اليومَ مشمسةً، يُمطرُك غَدُها، فوابلٌ أو طَلٌّ.
أثبتُّ شيئًا مما عرضَ في خاطري، وتركتُ أشياءَ حتى لا يملَّ القارئون، مع علمي أنها إن لم تُقيَّد بالحبال الواثقة، طارت في البريّة طالقة.
وسبحان الذي يفتحُ ويُمسك!
﴿ما يَفتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحمَةٍ فَلا مُمسِكَ لَها وَما يُمسِك فَلا مُرسِلَ لَهُ مِن بَعدِهِ وَهُوَ العَزيزُ الحَكيمُ﴾
ورضي الله عمن قال:
"عرفتُ اللهَ سبحانه بفَسخ العزائم وحلِّ العقود ونقض الهمم".
وكأنما هذه الحداثةُ قد اجتمعَ فيها الصَخَبُ من كلِّ لونٍ، كل ما حولَك يعلو شاهقًا وصارخًا وبَرَّاقًا..
إلا الإنسان.. خفَتَ صوتُه، وخَبَا ضوءُه، وتضاءَلَ وتقازَمَ!
الألفاظ الجديدة كالضيوف، نأخذُ بأيديها أولَ الأمرِ نُجلِسُها على ما نختاره لها من الأرائك، فإذا صار الضيفُ مع الأيامِ "صاحب بيت" اختار الموضعَ الملائمَ بنفسه.
Читать полностью…ما استدفأَ القلبُ العَرِيُّ في شتاءِ الغَمّ بِمثلِ ذِكرِ الله..
وما استظلَّ الفؤادُ الشَجِيُّ من حرارةِ الحزنِ بمثل ذِكر الله..
وما بَرُدَت النفسُ المُلتاعةُ من الهم بمثل ذِكر الله..
وما اطمأنت الروحُ القلقةُ بمثل ذكر الله..
و"لا يزال لسانُك رطبًا بذكر الله"..
و"مَثَلُ الذي يذكرُ ربَّه والذي لا يذكرُ ربّه، كمثل الحي والميت".
مِن لطيف وَصف "محمود شاكر" للمرأة:
"وهي فنُّ الحياةِ الذي يَشتهي أبدًا أن يُبدِعَ، حتى في الأذى"!
- قال له يومًا صديقٌ: ما أراك إلا خَيالًا!
- سأله صاحِبُنا في عَجَبٍ: ولمَ؟!
- قال: لا أدري على وجه التمام كيف أُجيب!
لكنك أخفُّ مما ينبغي، وأسرعُ ذهابًا مما يجب!
خِفَّةٌ تشبه النسيم، وذهابٌ يشبه الريح!
ما هكذا يكون الناس، إن لهم ظِلًّا أثقلَ، وحضورًا أظهرَ، وبقاءً أطولَ.
كيف أُبصرُكَ بعينيَّ وأُخْطِئُك كِيانًا ثابتًا ملموسًا محسوسًا؟! إنك -على ما أراكَ- طيفٌ!
أنتَ لستَ ممدوحًا عندي ولا مذمومًا، لكن هذه خِفَّةٌ لا تُحتَمَل، أَلَا كان حضورُك أطغى ووجودُك أبقى؟!
- اشتعلَت في رأسِ صاحبِنا شُعَلُ الحيرةِ من جديد، ما عاد يدري كيف يُجيب، إن تركه وما قالَ فقد أَقَرَّه، وإن عارضه بلا بينةٍ فكأن لَّم يَفُه بشيء.
قَرَّر أن يَلِج بابَ القولِ بلا وجهةٍ، يسيرُ لعلَّ الكلامَ يَنسجُ من بعضه بعضَ ما يُسعفه فيُبِين.
تنحنحَ بلا حاجةٍ، إلا طردًا لِزائرِ التوتر من حَلقه، وقال:
أَيْ صاحبي، إنَّ حديثَنا الساعةَ لَهو خيرُ بينةٍ أني واقعٌ مُحيطٌ بك، ولستُ طَيفًا من خَيال، ولا صديقًا من ورق!
إن القلبَ قُلَّبٌ لا يَكفُّ عن القلقلة، ولئن أَثبَتُّه على ما أحبّ، عاتبني الحكيمُ عقلي على ما ينفع، والعقلُ رَسولٌ مِلْحاحٌ لا يَكفُّ عن عتابِ الجوارح، وعتابُه على شِدَّةِ الخِفَّةِ أخفُّ عليَّ من تقريعه إيايَ على الثِقَل.. فأنا أتَّقِي سُمَّ كلماته.
والنفسُ تنزِع كثيرًا إلى ما لا تحب إبقاءً لما تحب، واختيارًا لهامشٍ من الأمان يَسعُها أن تتمددَ فيه في حِماها لا حِمى الناس.
والروحُ في جِيئةٍ وذهابٍ بين المطلوبات التي لا تنتهي، والأماني التي لا تُعَدّ، والخيبات التي لم تَرِد على أحد! بل لعلها وردت.
أيْ صاحبي، لَنَفسي أعزُّ عليَّ من حرفٍ يَنِدُّ من شَفَةٍ غليظةٍ لِترميَني بلحنِ القول أنْ: ما أثقلَه!
لا أحدَ أعزُّ عليَّ من نفسي لأُلقِيَ إليه مفاتيحَ حِمايَ يستثقلني أو يستخفّني، فلمَ أجازف؟!
أيْ، صديقي.. انتهيتُ!
#صاحبُنا
(مُعادٌ مَكرُور)
على جبيني كُتِبَ مَصيري، لكني ما رأيتُه..
كأنما نُقِشَ بمدادٍ من الروح، فما أَعلمُ كُنهَهُ.
أسير في سِكَكِ الحياةِ به، أحملُه بينَ عينيَّ، يعرفُني ولا أعرفُه، يُبصرُني ولا أُبصِرُه، يعلمُ مَصيري ولا أعلمُه!
أخطو أُيَمِّمُ أمرًا، فلا أدري.. أقريبٌ ما آتيه أم بعيدٌ، أكائنٌ أم لا يكونُ! أيَلِيني الخيرُ الذي أنا أبتغيه أم الشرُّ الذي هو يبتغيني!
لا أدري، لكنه يدري.
مَحوتُ نقشَ المصيرِ، بفكرةٍ داميةٍ، لم أهتدِ -بعدَ طولِ تجريبٍ- لِغَيرِها!
مَحوتُ جبهتي نفسَها، فلم يَشغَلْني هَولُ الآتي بعدَها..
لكني نظرتُ فإذا بهَولٍ جديد أشدَّ هَولًا!
يا للمصيبة! أفرَحٌ ذا أم تَرَح؟!
لقد ثُقِبَت ذاكرتي! بل نُقِّبَت! بل مُزِّقَت! دخلَ العلمُ في الوَهمِ في الطعامِ في الأيامِ في الناسِ في الإحساسِ، كلُّ شيءٍ في كلِّ شيء!
أصبحتُ كائنًا مُرقَّعًا من ألفِ تناقض!
صرتُ كرجلٍ كنتُ أتخيلُه دومًا ويتراءى لي طيفًا:
رجلٌ كأنما صُبَّ في قَالَبِ تكوينه كلُّ الأضداد!
جربتُ الأمرَ على بيتِ شعرٍ قديمٍ كنتُ أحفظه:
كِلِيني لِهَمٍّ يا أُميمةَ ناصِبِ
وليلٍ أُقاسيهِ بطيءِ الكواكبِ!
فكان لا يُوَاتيني إلا مِزَقًا منثورةً من ألف مكان وزمان وشعور! وما ذَكَّرَني به إلا قولُ عجوزٍ لعجوزٍ:
سيبيني في هَمّي!
كان ثقبُ الذاكرةِ عظيمًا كالثقوب السوداء، ربما سقطَت عليَّ منه مَجَرَّةٌ بأَسْرِها، وربما قذفَ عليَّ شخصًا واراه الترابُ من ألف عام، وأعجبُ ما كان:
يومًا ما، قذفَ عليَّ ورقةً باليةً مُطَبَّقَةً، الْتَقَطْتُها في فضولٍ عَجِلًا وَجِلًا، بأنفاسٍ متسارعةٍ وأناملَ مرتعشةٍ، فَتحْتُها فإذا مخطوطٌ بها: مَصيري!
فعلمتُ ألَّا فِرارَ!
كلما خَطرَ بذهني أو مَرَّ بي قولُ الرافعي: "أيها القلبُ المسكينُ، أين أذهبُ بك؟!" يَمورُ قلبي مَورًا، وأُحِسُّ كأن فؤادي هواءٌ!
كلمةٌ بسيطةٌ مَخزونٌ فيها شعورٌ هائلٌ، لو قُدِّرَ له أن ينفجرَ لَكان شيئًا فَتَّاكًا يهابُه العالَمُ!
بالأمسِ مررتُ على نقلٍ لدستويفسكي، نقله الأستاذ فايز محمد، وفيه:
"هل تدركُ يا سيدي العزيز، هل تدركُ ما معنى ألا يعرفَ الإنسانُ إلى أين يذهب؟
لا.. إنك لا تستطيع أن تدركَ هذا!"
تظنها كلمةً هيّنة؟!
إنها جملةٌ تُشِعُّ حرارةً، بل نارًا، لا يُحسُّها إلا مَن يُعانيها.
وبالأمسِ القريب، قرأتُ نقلًا لـ"ريلكه" لم يكن حرفًا، بل كان حَرقًا:
"احترسْ أيها التائهُ، فالطريقُ تسيرُ هي أيضًا"!
اللهم ربَّنا، هادي الحَيَاري في ظُلُمات الحياة، اهدنا إليك صراطًا مستقيمًا.
اهدني لأرشَدِ أَمري واعْزِمْ لي عليه، وأعوذ بك مِن شَرِّ نفسي.
نَضعُ هذا القلمَ المُرهَق، راحةً مِن عناءِ الحضور، واستبقاءً لبعض الخِفّة، ولَملَمةً لِبعض النفسِ المسكوبة، واستجلابًا لبعض الروح المَسلوبة، واستجماعًا لهَمٍّ يطيرُ شَعاعًا وآمالٍ تذهبُ عباديدَ، وبحثًا عن بعضِ السَّكينة المفقودة، ومراعاةً لخاطرِ هذا القلبِ المسكين، أُفسِّحُه بين الوحشة والأُنس، ولْيخترْ ما يشاءُ مستريحًا أو غيرَ مستريح..
ودمتم بخيرٍ..
ليس لي مِن جَميل البيان شيءٌ يدعوك أن تسأَلَني عنه: كيف أتعلمُه؟
ما بي شيء، ولا عندي شيء، ولا مني شيء، اللهم إلا مَحضُ فضلِ الله عليَّ.
وما أنا والله بالذي يَتشَبَّعُ بما لم يُعطَه، ولَعمري هذا مِن أبغضِ الخُلُقِ إليَّ، أعوذ بالله من ذلك أو أن أصيرَ كذلك.
وما أحرفي المعوَجّةُ التي تراها شيئًا، إلا نقاطًا جُمِعت لي على مدى السنين، شيئًا فشيئًا، بِسَعيٍ كَسيحٍ ونُثارٍ لن تتخيلَه كيفَ كان، ولا تبلغُ شسعَ نعلِ بيانِ ذي بيان.
ويا صاحبي الشادي بيانًا، مُبتغاك لا يُوصلك إليه مِثلي، كَبِّر لِتكْبُرَ.
وأما صاحبُك الذي يحادثُك، فإنما يجبرُ كَسرَ بيانِه بجبيرةِ رُوحه، فأمزجُ كلَّ بيانٍ بعصَبي وروحي، حتى إنك لَتجدُ بعضَ حروفي يَتقاطرُ من جوانبها ماءُ نفسي الذي أغمسُها فيه وأغسلُها به وأمزجها به مَزجًا، صادقَ الشعورِ مرهفَ الإحساس.
وهذا شيء قد يُقيمُ لي شيئًا مِن عَرَجِ البيان، فيأتيك على كَسرِه مَجبورًا، وعلى عُرْيِه مَستورًا.
وإن كانت معانيّ الحيَّةُ تتراقصُ في قلبي سعيًا ورَكضًا.
لكن، وكما أقولُ لك دومًا:
"في رأسي رقصاتٌ كثيرةٌ، ولكنَّ رِجْلَيَّ مكسورتان"!
ودُم بِخير.
أخيرًا:
أنا "محمد أحمد" هكذا فقط، كالماء بلا لون ولا طعم ولا رائحة، وكالهواء لا تقبض على شيء منه في يديك، وكالطيف: يزورك حينًا ثم يَنمحي فكأنه لم يكن.
الأسماء المميزة تصنع للأشخاص تماثيلَ صلبةً في الذاكرة..
أما أنا.. فأتساقط من ثقوب الذاكرة، وإن بقيتُ فيها طيفًا بلا معالم.
وبخاصة: ههنا..
وكلُّ ملاقٍ لي يسأل عن اسمي، أو أخبره به، يعرف أو ينكر، إذ: ما محمد أحمد بين الملايين! كأنك طارقٌ يسألونك: من بالباب؟ فتقول: أنا!
لأنني ههنا طيفٌ حقًّا، لا صورةَ لي في أذهانكم ولا معرفة!
وصارت صورةُ صفحتي في الفيسبوك أشهرَ من صورتي الحقيقية، والحمد لله..
حتى أنني قد لقيتُ صديقًا عزيزًا لي هنا، في معرض الكتاب، فقلت -كعادتي-: محمد أحمد ومش هتعرفني! فقال: عارفك.. بتاع الصورة السودا! قلت: هو ذاك!
وقد قالها غيرُه غيرَ مرة.
فالأمر عجيب وغريب ومريب ومريح في آن.
وأما أبعدُ ما قيل لي عن اسمي وصورتي، فكلام فوق الواقع بل وفوق الخيال!
أنقله لجماله لا لحقيقته، قاله لي صديقٌ يقطرُ جمالًا ولطفًا وودًّا ورقةً:
"والله يا حبيبي لك من اسمك نصيب، اسم مبهم جدًّا، ولكنه صار علمًا في الوسط الأدبي، فلا يُذكر "محمد أحمد" على إبهامه وكثرة حامليه، إلا وأنت المتبادر إلى الذهن، فصارت تركيبته هي أنت، كنصيب صورتك منه تمامًا، لا يُنظَر إليها على إبهامها إلا والنور الذي فيها دليل وقارها، فأنت لا تعرف هل هو نور منبعث من وجه هذا العجوز يضيء الدنيا من هذه النافذة الصغيرة رغم الظلام الذي حوله، أم هو نور من الملائكة يجعله ظاهرًا وبارزًا وعلمًا وسط ظلام الدنيا الذي فيها. كذلك أتخيلك، كأن هذا الضوء هو أدبك، وكأنك في هيئتك كهيئة ذلك الشيخ الجليل، رُغم ثقل ما عليه صلد ثابت، لك منه وقاره وله منك أنك تُشبهه!"
والله يسامحه بقى! ويسامحكم، ويسامحني.
____
ثرثرة ليلية.. حلوة بس غبية!
والله يا رفاقَ القلمِ لا أُخفيكم رأيي:
بعضُ الكتبِ الأدبية المشهورة لا تزيد بيانًا عما يمكن أن تنتقيَه من منشورات بعضكم في صفحته هنا!
ما بَرَقَت في نفسي سَنِيَّةُ حاجةٍ في الدنيا أو الآخرة إلا وجدتُ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم قد ضَمَّنَها ما عَلَّمَنا من الدعاء.
اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ على معلم الناس الخيرَ وعلى آله وصحبه.
ما حيلةُ العزيزِ المُكرَهِ على ما يُلاقي، إلا أن يستقبلَ ما يأتيه رافعًا رأسَه، قويًّا عَزمُه، شديدةً شكيمتُه.
ما حيلتُه إلا أن يُلاقيَ ما يُلاقيه، ثابتًا لا هاربًا، مطمئنًا لا راهبًا، شامخًا، أَنِفًا، أَبِيًّا، عزيزًا كما هي عادتُه.
ما حيلتُه إلا أن يستقبلَ صروفَ دهرِه صابرًا راضيًا، لا يُوهِنُ عَزمَه الإكراهُ، ولا تُلينُ عريكتَه الضرورةُ.
ما حيلةُ المَجبولِ على النُّبلِ، المطبوعِ على عزةِ النفس، المخلوقِ من ماءِ الكرامة، في عصرٍ يُجافي النُبلَ ويُواري العزةَ ويُعادي الكرامة!
خَسِرَ كلَّ شيءٍ من ربحَ كلَّ شيءٍ إلا نفسَه! وربِحَ كلَّ شيءٍ مَن خسرَ كلَّ شيءٍ إلا نفسَه!
يا عزيزي،
أَلقِ مِن رَحْلِكَ كلَّ شيءٍ، واستبقِ نفسَك.
سكنت في إحدى المدن الجديدة في القاهرة فكانت تمرُّ عليَّ الليالي ولا أرى أىَّ نجمةٍ في السماء، وما في السماء ضبابٌ ولا غمام، حتى شككتُ في نفسي!
أما في قريتي فكانت النجومُ تتلألأ في عينيّ تلألُؤًا..
فكنتُ أفسره بـ"التلوث الحضاري" و"مخلفات الحداثة"!
كم خسرَ الإنسانُ حين حجبَ أضواءَ السماءِ عن روحه!
كانت كلمة "غدًا" بيتًا حالمًا في خيالِ الماضي، ينقلُ إليه كلَّ متاعٍ لم يحنْ زمانُه أو قد فاتَ أوانُه!
كان يُخادعُنا عن حاجاتنا المُلِحَّة، فإذا أزعجناه، أشارَ لنا بأصبعه للبيت الموهوم! فنسكت في بلاهةٍ نترقبُ الإذنَ الموعود.
لم يكلّفْه الأمرُ إلا أن يكررَه معنا بضعَ مرات، ثم يتركنا مرضى الخيال، نصنع بأيدينا بيتًا من خشَب، نُودِعُه حاجاتِنا التي نحب ولم تكن، أو لم تَحِنْ، علها تكون لنا "غدًا".
جاء "غدًا" محشوًّا بالفراغ يجرجر في أذياله حاجاتِه هو أيضًا.
بأي خيبةٍ تستقبلُ انقضاضَ نفقٍ تبنيه منذ عشرين عامًا؟
هكذا كان لقاؤنا المُرتقَبُ بِغدِنا المنشود.