إن حقيقة الإيمان يجتمع فيها الدين كله، وهي من أهم الفرائض والشرائع التي يجب تعلمها أولا، وبيانها وتعليمها للناس ثانيا، وبيان هذه الحقيقية من أهم ما يجب أن يعنى به العلماء وطلبة العلم، وأن يبدوا فيه ويعيدوا، ويجعلوه غرضا ثابتا في دعوتهم. وإنك لتعجب وتأسف أشد الأسف ممن أتيحت له فرصة بيان هذه الحقيقة الشرعية بمجرد تراجع عن خطأ، بل لا نقول خطأ، فهو في مبدئه كان أقرب للسهو والذهول الذي يعرض للبشر!
وأعجب من ذلك أن الواقع في هذا الخطأ منتصب لتعليم الناس وإرشادهم، وبيان ما دق وخفي عليهم من فروع دينهم وجزئياته، فكيف يعرض عن بيان هذا الأصل العظيم، ويضيع هذه الفرصة الذهبية التي سيقت له، والتي لا يعلم ما فيها من الأجور العظيمة إلا الله في عليائه، مع ما لزمه فيها من التراجع عن الخطأ، وعدم الإصرار على ضده، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، وقال: الكبر بطر الحق وغمط الناس.
وقال الله في وصفه عباده المؤمنين: ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ). الأعراف (201). وقال سبحانه: ( وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) فذكر صفتهم، ومنها قوله عز وجل: ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ )
آل عمران (135)
وقال تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ )
آل عمران (187)
وتأمل في قوله تعالى:(لَسْتَ مُؤْمِنًا)، كيف تجدها في معنى ما يقوله غلاة عدم العذر عمن يطلبون تكفيرهم وإخراجهم عن أهل قبلة المسلمين، بحجة أنهم غير مؤمنين، مع أن نفيهم للإيمان عنهم قد يكون صحيحا، ولكن الخطأ والضلال الذي نبهت عليه الآية هو تكفيرهم وهم يلقون إليكم السلم، ولذلك قال الله تعالى: (كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)، قيل: كذلك كنتم من قبل: أي لم تكونوا مؤمنين، كما نقل ابن كثير رحمه الله. فمن الله عليكم، أي بالإيمان، - كما هو الظاهر والله تعالى أعلم، وكما في قوله تعالى : (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ). الحجرات (17)، - وقيل:( فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) أي: تاب عليكم، وهو بمعنى ما سبق.
وقيل في قوله تعالى: (كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)، أي كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السلم مستخفيا في قومه بدينه خوفا على نفسه منهم، كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذرا على أنفسكم منهم، فمنّ الله عليكم. وعلى هذا الوجه يكون المقتول قد كان مؤمنا حقا، ولكنه مستخف بإيمانه، وانظر تفسير الطبري، وتفسير ابن كثير رحمهما الله للآية، ففيهما فوائد وزيادات مهمة.
ومن الفوائد العظيمة التي تلتمس من قوله تعالى: (كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)، أن ترك أمثال هؤلاء على الإسلام الظاهر فيه رجاء كبير أن يتحققوا بالإيمان الصادق بعد، وهو خير من المبادرة بتكفيرهم وقتلهم إن لم يكونوا مؤمنين على الحقيقية. والله تعالى أعلم.
وليس معنى هذا أن يكتفى من أمثال هؤلاء بالسلام فقط، أو بقول من قال: "صبئنا صبئنا"، وأن المؤمن إذا رأى مسلما واقعا في ناقض من نواقض الإسلام، فإنه يتركه على ذلك الناقض إذا سلم عليه بتحية الإسلام، أو إذا كان يشهد شهادة التوحيد بلسانه؛ دون أن يدعوه للإسلام الحق، ويبين له، ودون أن يستتاب مما هو واقع فيه، بل يجب أن يدعى ويبين له، ويجب أن يستتاب إذا تعين ذلك، وهذه الدعوة من أعظم فروض الكفايات على هذه الأمة، ومن أجل خصائصها، كما قال تعالى: ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ).آل عمران (110).
ولكن المقصود أن الحرص على هدايته أولى من الحرص على تكفيره، وأنه لا يبادِر بتسميته كافرا حتى يدعوه ويرشده، ويبين له أن ما هو واقع فيه ناقض من نواقض الإسلام الذي يدعيه. ثم إذا دعاه وأرشده، فأصر وعاند؛ كفره بعد ذلك، إذا كان ما هو واقع فيه من الكفر المجمع عليه، ومن المعلوم من الدين بالضرورة، ومن المسائل الظاهرة التي لا يمكن أن يجحدها مسلم أو تخفى عليه، وإذا كفره عند ذلك، كانت المفاصلة بينه وبينه على بينة وإعذار منه له.
الثالث: قصة أسامة بن زيد المشهورة، وقد تقدم ذكرها في أصل هذا البحث، وقد قيل إن الآية السابقة نزلت في هذه القصة، وقيل غير ذلك.
الرابع: إجماع المسلمين على أن أطفال المسلمين محكوم لهم بالإسلام، وأن من مات منهم قبل البلوغ والتكليف فهو من أهل الجنة، ولم يخالف في ذلك إلا شرذمة لا تعد خلافا، وهم الخوارج قاتلهم الله. وأخشى أن يصر غلاة عدم العذر على رأيهم، ويركبوا رؤوسهم، فيضطروا إلى موافقة الخوارج في أحكامهم على أطفال المسلمين، وذلك لأجل تصحيح مذهبهم، ومنع تناقضه واضطرابه. فإنك إن عرضت هذه الإيرادات الأربعة، ولا سيما الأخير منها على المجهر الشرعي مثلا، تبين لك بطلان وتهافت هذا المجهر، وكل من تأثر به.
ومن طريف أمر الخوارج أن بعض فرقهم كالعجاردة يتبرأون حتى من أبنائهم هم قبل البلوغ، ولا يحكمون لهم بالإسلام، ويقولون أن الطفل يُدعَى إذا بلغ، وتجب البراءة منه قبل ذلك حتى يُدعى إلى الإسلام أو يصفه هو.
وكان لرأيهم هذا قصة طريفة، وهي أنَّ رجلًا من العجاردة خطب إلى رجل منهم ابنته، يقال له ثعلبة، وهو الذي نسبت إليه الثعالبة من فرق الخوارج، فقال له ثعلبة: بین مهرها. فأرسل الخاطب أمرأةً إلى أمِّ البنت يسألها هل بلغت البنت ووصفت الإسلام، وقال: إن كانت قد بلغت ووصفت الإسلام لم يبالِ کم مهرها، فقالت أمُّها: هي مسلمةٌ بلغت أم لم تبلغ، فأخبر الرجل عبد الكريم بن عجرد وثعلبة بن مشكان بقول زوجة ثعلبة. وكان عبد الكريم قد اختار البراءة من الأطفال قبل البلوغ فأنكر قول المرأة، أمَّا ثعلبة فقد أيَّد قول زوجته، وقال: نحن على ولايتهم صغارًا وكبارًا حتى نرى منهم إنكارًا للحق ورضي بالجور، وبرئ من عبد الكريم بن عجرد، وبرئ ابن عجرد منه كذلك، وصار لكلِّ رجلٍ منهما طائفة!.
صدقت في دعواك هذه، أم كنت من الكاذبين، وإذا انتهى من هذا الخيال، وأعاد عليه السؤال، وأعاد المرتد الجواب، فسيقول له هذا القاضي في نهاية المحاكمة: اذهب أيها المسلم الجاهل فلن تكفر أبدا، مادمتُ قاضيا، ومادمتَ جاهلا!!. (وشر البلية ما يضحك).
وفي المقابل فإن غلاة عدم العذر صاروا يتباحثون الآن في جواز أكل ذبائح أهل القبلة، كالأشعرية وغيرهم، وهذا من آثار الغلو الذي مالوا إليه، فهم كلما خرجوا من مسألة من مسائل تكفير الأعيان انفتحت أمامهم أخرى، فيتخبطون فيها كما تخبطوا في الأولى، ولا تستغرب إذا سمعتهم يوما يتساءلون عن أكل ذبائح أهل السنة ممن لا يقول بقولهم في عدم العذر بالجهل!!. ولن يخرجوا من هذا التيه والتخبط الذي وضعوا أنفسهم فيه حتى يضبطوا باب الأسماء والأحكام، ويعلموا أن المعين المنتسب للإسلام الواقع فيما يوجب الردة مستمر على الحكم له بالإسلام دون الإيمان حتى يحكم بردته بعينه، وقبل ذلك فإن أحكام الإسلام الظاهرة تجري عليه كما تجري على سائر أهل القبلة.
وحتى يعلموا أن الشريعة أحكام عملية، ليس فيها شيء من هذا الجدل التنظيري الأجوف، الذي يشبه الجدال عن أيهما كان أولا البيضة أم الدجاجة، فهكذا يريد هؤلاء أن يبدلوا الأحكام الشرعية البسيطة السهلة المأخذ، إلى مثل هذا الجدل الكلامي الذي حقيقته هو التباحث في أيهما يثبت أولا الردة أم الحكم بالإسلام!!.
ومما يبين لك أن حقيقة ما هم فيه هو جدل مذموم، ونزع إلى الكلام والسفسطة، أنهم لا يلتفتون أبدا إلى أن حقيقة كلامهم هو في المرتد، وليس في الكافر الأصلي، ولا يخفى أن المرتد لا يصير مرتدا إلا إذا حكم له بإسلام سابق، وإذا كان كذلك؛ فثبوت حكم الإسلام الأول لهؤلاء المتنازع في حكمهم هل هم معذورون أم لا؟؛ مفروغ منه، ومسلم به من كلا الطرفين، فاحتجاجهم بحقيقة الإسلام على نقض هذا الحكم، احتجاج في غير محل النزاع، بل هو من ضرب أحكام الشرعية بعضها ببعض، ومن إثارة التعارض بينها!
فإذا ثبت أن الخلاف معهم هو في المرتد، فلا شك أنهم يوقنون أن الردة لها مكان وزمان تقع فيه، وأنها لا تسري في اللا مكان واللا زمان، وقبل هذا الزمان والمكان الذي تقع فيه الردة، فإن هذا المنتسب للإسلام باق على الحكم له بالإسلام الأول، فإذا وقعت الردة من هذا المعين، فإن الحكم بمقتضاها له زمان ومكان يقع فيه هذا الحكم أيضا، فإذا حكم على هذا المعين بالردة صار كافرا، وأما قبل ذلك فهو مسلم، ثم هذا المسلم قد يكون منافقا، وقد يكون زنديقا، وقد يكون فاسقا إلى غير ذلك من الأسماء والأحكام التي تسري عليه إلى أن يتأتى الحكم عليه بالكفر بعينه حكما يقينيا، لا شبهة فيه بحال من الأحوال، ولا معرة فيه على المسلمين أيضا، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ".
وعند هذه النقطة أرجو أن لا تقفز أذهان غلاة عدم العذر من كفر المعين إلى كفر الأنواع، فيبدأون جادلهم المعتاد في أن المشرك مشرك، والمسلم مسلم، وكيف يحكم للمشرك بالإسلام، وهل يجتمع الشرك والإسلام، وكيف يكون مسلم ومشرك في الوقت نفسه... إلى آخر جدالهم الذي يدل على أن عقلهم لم يستوعب إلى الآن، الفرق بين كفر المعين، وكفر النوع، وكذلك لا يستوعب أن يكون المعين محكوما له بالإسلام، ثم قد يقع في ردة ما، وإذا وقع في ردة، وجب النظر فيها وفي ملابساتها للحكم عليه بما يستوجبه ذلك، وقبل الحكم بهذه الردة فهو مسلم تجري عليه أحكام المسلمين، وأن هذا لا علاقة له بما يوردونه من حقيقة الإسلام، وإن كان كل ما يذكرونه عن هذه الحقيقة صحيح لا ريب فيه.
ولكن جدالهم به، وجلبهم به على خصومهم في العذر بالجهل، هو الخطأ، وهو مبدأ انحرافهم وغلوهم في هذه المسألة، وهو يشبه ما وقع للخوارج عندما جعلوا حقيقة الإيمان هي حد الحكم به، فكفروا كل من لم يأت بالإيمان الواجب، فكذلك هؤلاء يجعلون حقيقة الإسلام هي حد الحكم به.
كما أن ما يقع فيه غلاة العذر يشبه ما وقع من المرجئة؛ وذلك عندما يجعلون مجرد الحكم بالإسلام يوجب الحكم بالإيمان والنجاة في الآخرة، ويجعلون عدم قيام الحجة التي ينبني عليها التكفير في الدنيا، موجبا لحقيقة الإيمان المنجي عند الله.
وجملة القول أن كلا الفريقين: من غلاة العذر وغلاة عدم العذر، انتقلوا في جدالهم وخلافهم هذا - دون وعي ولا شعور ربما - من الكلام في العذر، إلى الكلام في حقيقة الإيمان وحقيقة الإسلام، وأحكام كل منهما وحدوده، ولو أنهم حين انتقل بهم الجدل هذا الانتقال؛ استصحبوا الأحكام والحقائق الشرعية في هذا الخلاف، لسهل الأمر، ولسلموا من الضلال والانحراف، ولكنهم حين انتقلوا هذا الانتقال، أعرضوا أو غفلوا عن حقائق الأسماء والأحكام الشرعية، وصاروا يسعون إلى إعادة وضع وترتيب لهذه الأسماء والأحكام، ليكون العذر بالجهل هو الأساس والمنطلق في هذا الوضع الجديد، حتى وصلوا إلى مجاهل مغرقة في الضلال والانحراف.
وهذا القول الذي عليه غلاة العذر بالجهل، يقابله قول غلاة نفي العذر، الذين يوجبون تسمية المعين المنتسب للإسلام كافرا بمجرد أن يصدر منه ما يوجب الردة الظاهرة من الشرك الأكبر أو غيره، حتى قبل الدعوة والاستتابة، بل قد يوجبون تكفير كل معين من هؤلاء، على كل مكلف كما تفعل الخوارج، ثم قد يطلقون القول بكفره، دون أن يبينوا هل هو في حكم الكافر الأصلي أم في حكم المرتد، بل يفهم من بعضهم ممن لا يحررون عبارتهم، ولا يفصلون أقوالهم؛ أنهم يجعلونه كافرا أصليا.
هذا، وإن من المتلازمات الباطلة التي اشترك فيها غلاة العذر، وغلاة عدم العذر، الملازمة بين الحكم بالإسلام والحكم بالإيمان، وإن اختلفوا في النتيجة والحكم، فغلاة عدم العذر، يقولون إن المعين المتلبس بالشرك الأكبر من المنتسبين للإسلام غير معذور، وإذا كان غير معذور فهو غير مؤمن، وإذا لم يكن مؤمنا فلا يمكن أن يكون مسلما على أي وجه من وجوه الحكم بالإسلام، وإذا كان كذلك فهو كافر خارج عن ملة المسلمين وأهل قبلتهم.
أما غلاة العذر فيقولون إن من لم تقم عليه الحجة لا يكفر، وإذا لم يكفر فهو مسلم، وإذا كان مسلما فهو مؤمن، بل رأيت كلاما شنيعا جدا لبعض هؤلاء، يجوز فيه أن يكون الواقع في الشرك الأكبر من أولياء الله المتقين، ومن عباده الصالحين!!.
وهذا كما نقله الدكتور عبدالله الجربوع عن مجلة الدراسات العقدية التابعة للجمعية السعودية لعلوم العقيدة والأديان والفرق، حيث جاء في عددها الثالث، قول أحدهم: "فوجب ألا يحكم على مسلم قال أو فعل ما يكون ناقضا للشهادة بأنه كافر أو مشرك، حتى يتبين لنا تقصيره. وما لم يتبين لنا تقصيره فهو عندنا مسلم، وقد يكون من خيار المسلمين وصالحيهم وأوليائهم".
ولا أدري ما الذي يدفع القائل لمثل هذه المجازفة الخطيرة، فإنه لو صح ما يدعيه من العذر بالجهل، فيجب أن يقتصر به على الامتناع عن التكفير فقط، وإثبات اسم الإسلام لهذا المعذور، أما هذا الكلام فهو عدوان كبير في الأحكام، وفسخ لرتبها، ومحو لمنازلها ودرجاتها. وإذا كان المبتدع ببدعة غير مكفرة، لا يسمى بالإيمان الواجب، وهو شر من الفاسق، حتى يتوب من بدعته، فكيف بمن هو واقع في بدعة مكفرة، بل من هو واقع في صريح الكفر والشرك والوثنية والخرافة الصوفية.
حقا لو كان الجهل عذرا لكان الجهل خيرا من العلم، كما قال الشافعي رحمه الله، فهذا القائل جعل الجاهل بجهله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين!. وهذا نموذج واحد من الغلو الذي وصل إليه غلاة العذر بالجهل.
فكأن هذا القائل يبني قيام الحجة على علمه هو بقيامها، ويجعل مدار قيامها على علمه بتقصير هذا الواقع في الناقض، فكل من علم هو تقصيره فقد قامت عليه الحجة، فيكون كافرا، ومن لم يعلم هو أن الحجة قامت عليه بتقصيره، فلا يمكن أن يكفر، والنتيجة الطبيعية لهذا، أن يكون مدار الكفر وعدمه على علمه هو، لا على علم الله، فمن علم هو أنه كافر، كان كافرا، ومن لم يعلم هو بكفره، فلا يمكن أن يكون كافرا أبدا، ولولا ذلك لما جوز هذا القائل أن يكون المتلبس بالشرك الأكبر من عباد الله الصالحين، ومن أوليائه المتقين، وهذه مجازفة خطيرة، وتهوك عظيم، له أسباب عديدة، منها عدم تفريق هؤلاء بين الحكم بالكفر أي التكفير، وبين الوقوع حقيقة في الكفر، فيظنون أن من لم يُحكم بكفره، فلا يمكن أن يكون كافرا في علم الله، وهذا من الجهل العظيم، والخلط الشنيع بين أحكامنا البشرية الناقصة، وأحكام الله أحكم الحاكمين.
ثم إن هذا التلازم بين الحكم بالإسلام والحكم بالإيمان الذي اتفق عليه الطرفان هو من الغلو في الأحكام، وهو ناتج عن غفلة عظيمة عن حقيقة الأسماء الشرعية وأحكامها من اسم الإسلام واسم الإيمان واسم النفاق، واسم الكفر.
ومما يجب أن يعلم هنا، أن باب الأسماء والأحكام هو عقدة هذه المسألة، التي من حلها، انحلت له مسألة العذر بالجهل تماما، وزالت جميع شبهها بإذن الله تعالى.
أما الذين توسطوا؛ فلا تتضح أقوالهم في فروع هذه المسألة بشكل جلي، إلا أن الواضح أنهم لا يوافقون من غلا في العذر، ولا من غلا في عدم العذر، ثم قد يقول بعضهم بعد ذلك بالعذر، وبعضهم قد لا يقول به، وقد يقول أحدهم تارة بالعذر، ويقول تارة أخرى بعدم العذر، وهذا بسبب اشتباه المسألة في نفسها، وإتيانها من غير وجهها الصحيح، وتسميتها بغير اسمها كما تقدم في الفصل السابق.
وهذا يشبه ما يقع في مسألة اختلاف المطالع و اتحادها، فقد تجد من يقول أنا أقول باتحاد المطالع، هكذا بإطلاق، ثم قد يقابله من يقول أنا لا أقول باتحادها، وهذا الإطلاق في كلا القولين غير مستقيم، ولا يعد قولا فقهيا دقيقا، لأن القول باتحاد المطالع يمكن أن يحمل على الوجوب، ويمكن أن يحمل على الاستحباب، ويمكن أن يحمل على الجواز فقط، بل يمكن أن يحمل على الجواز مع الكراهة، فإذا قال بالوجوب، فهذا يعني أنه يجب على المكلف أن يعمل بما يثبت في أي قطر من أقطار المسلمين، إذا كان طريق الرؤية وإثباتها طريقا شرعيا، ولا
اعتقاد كفر هذه الأنواع واستحقاقها للعذاب، وتغليظ القول في ذلك من حيث النوع وعند الإطلاق، وتفويض أمر الأعيان في الآخرة إلى الله، والإمساك عن تكفيرهم في الدنيا إلا بيقين، أو بعد الدعوة والاستتابة.
وإن كان من يردد القول في أمرهم في الآخرة بين العذر وعدمه، قوله قريب، وقد يكون مفهوما من تفويض أمرهم في الآخرة إلى الله، أو تعبيرا آخر عنه، وقد يكون قولهم مبنيا على الأصلين الذين يتنازعان حكم هؤلاء، وهما أصل الجهل وانطماس معالم الحنيفية وتبدلها في حقهم، والأصل الثاني هو أصل كفر الإعراض، وتقليد الآباء والأجداد وعلماء السوء.
وأنت ترى أن الدكتور الجربوع قد وافقهم، وأربى عليهم بالقطع بالعذر لهم، ولم يبنه على ما بنوه عليه من أصل العذر بالجهل، بل بناه على ذلك التقسيم المحدث للشرك، وهو الشرك في الباطن، والشرك في أحكام الوعيد والعذاب، وهو التقسيم الذي ليس عليه أدنى أثارة من علم ودليل، إلا فهما سقيما في غاية السخف، لمسألة أهل الفترة، وحكمهم في الآخرة، وهو الفهم الذي أصله صاحب المجهر، ونصره ونشره الدكتور الجربوع للأسف الشديد.
أما وصفهم بشرك كشرك أهل الفترة، (مع إعذارهم ونفي عذاب الآخرة عنهم) فهو ليس بشيء، وهو كما تقول العامة "قيل للسارق احلف، قال جائني الفرج"، ومع كل هذا؛ فإن هذا الوصف هو كل ما يريده الدكتور الجربوع بحسب فهمي لمذهبه الغامض، وهو أن يعتقد الموحد أن المعين المنتسب للإسلام إذا صدر منه الشرك الأكبر، فإنه يكون كافرا بعينه، ولكن في الباطن، دون أن يرتب عليه الوعيد والعذاب، وهذه هي حقيقة القضية التي يقاتل الدكتور الجربوع كل هذا القتال، ويستميت كل هذه الاستماتة في تقريرها، ونصرتها، ويرى أن من خالفه فيها: سفهيون!، وجرجيسيون!، وأخوان عباد الطاغوت!، وليسوا على ملة إبراهيم، وما إلى ذلك من الأسماء التي يطلقها الدكتور الجربوع على مخالفيه من أهل السنة.
وإلى هنا يجب أن ينتهي القدر المجمل من هذا الجواب، ونسأل الله الإعانة والتوفيق على إكمال التفصيل في هذا الرد في مناسبة أخرى. ولكن قبل أن نختم هذا الرد المجمل، يحسن بنا أن نعيد التذكير بما جاء عن الدكتور الجربوع مما يشبه أن يكون قوله فيه صحيحا، مع أنه سبق التنبيه عليه في الفصل الذي فيه الجواب عن مسألة العذر بالجهل، وكذلك ربما سبقت الإشارة إليه هنا في أثناء هذا الرد، وهو أنه لا تلازم بين الحكم بالإسلام، والحكم بالإيمان، وأن من تصدر منهم الردة المغلظة ولا يُتمكن من تكفيرهم؛ يحكم لهم بالإسلام فقط، لا سيما الدعاة إلى هذا الشرك من المنسوبين إلى العلم، فبعض هؤلاء من جنس المنافقين والزنادقة، ولشيخ الإسلام كلام مهم في هذا الباب، نبه فيه على الغفلة التي يقع فيها الكثير من اعتقادهم أن الناس قسمان فقط، مؤمنون وكفار، ويغفلون عن قسم ثالث، هو الأخطر، ألا وهم المنافقون، وقد نبه شيخ الإسلام أيضا، أن هذا القسم كما كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو موجود في هذه الأزمان، بل وجوده في هذا الزمان أكثر بكثير ممن كانوا في الزمن الأول.
وللأسف لما خاض الناس في مسألة العذر بالجهل، ذهل بعض العلماء عن هذا القسم، وصار بعضهم يميل إلى التكفير العام، أو ما يشبهه، وغلوا في أحكام التكفير، كما عند الدكتور الجربوع ومن وافقه، وبعضهم جنح إلى العذر بالجهل مطلقا، فرارا من التكفير العام، حتى صار يفهم عنهم أنهم يرون إيمان أمثال هؤلاء، وإيمان مقلديهم ممن حجتهم هي نفس حجة المشركين من الاحتجاج بتقليد الآباء والأجداد والمعظمين من علماء السوء ودعاة الضلال، بل بعضهم صار يرجّي هؤلاء المساكين الجهال بالنجاة من العذاب في الآخرة، وكان الأولى له ولهم، أن يخوفهم أشد التخويف، لعلهم ينزجرون عن شرك الصوفية القبورية، الذي فاق شرك الأولين.
أما تكفير هؤلاء، ووصفهم بالشرك، فقد تقدم أنه لا علاقة له بالعذر بالجهل، وإن سميت هذه المسألة بهذا الاسم، بل هي في حقيقتها تتعلق بتسمية المعين المنتسب للإسلام كافرا قبل الدعوة والاستتابة، وهذا لا علاقة له بكونه معذورا أو لا، على ما تقدم تفصيله في الفصل المتعلق بهذه المسألة.
أما الرد على الدكتور الجربوع، فقد اعتمدت فيه على ما هو منتشر من مقاطعه الصوتية فقط، ولم أقف على شيء محرر له، ولا أعلم إذا كان له شيء في ذلك أم لا، وقد شعرت في نهاية هذا الرد، أنه ربما لم يكن تحسن المبادرة به، حتى يُعلم جوابه عن أصل هذا الرد، وهو الملف المثبت في هذه القناة، بعنوان: (قبس من الأنوار القرآنية) والظن بالدكتور الجربوع أنه سيراجع الحق الذي يعلمه إذا أزيلت عنه الشبهة، وأنه إن شاء الله ليس ممن يصر على باطل وهو يعلمه، ولكن للأسف فأنا لا أجد طريقا لإيصال هذا الملف له، ولا للشيخ فركوس، ولا سبيل لي للعلم بإمكان اطلاعهما عليه من عدم ذلك.
بعد هذا كله، نجد أن الدكتور الجربوع يمنعنا من أن نعتقد أن هذا الكفر الذي كفرنا به هذا المشرك، هو كفر يستوجب الوعيد والعذاب، لا العذاب الدنيوي، ولا العذاب الأخروي، فإن الكفر عند الدكتور الجربوع - وهذا مما تلقفه من صاحب المجهر ايضا - نوعان: كفر يستوجب العذاب، وكفر لا يستوجب العذاب!!.
وإن تعجب؛ فعجب ما هو هذا التقسيم، وهو من صور التخليط بين المفاهيم التي أجرى عليه صاحب المجهر مجهره!.
ولكن إن علمت السبب بطل العجب، فصاحب المجهر اتكأ اتكاء شديدا على آية الميثاق، وهي الآيات ١٧٢ - ١٧٤ من سورة الأعراف، وعلى حكم أهل الفترة، وأن وصف الشرك والكفر ثابت لهم في الدنيا باتفاق العلماء، مع ما كانوا عليه من الجهل، وعدم قيام الحجة الرسالية عليهم، فكأنه أراد أن يقول: كما أن وصف الشرك ثبت لهؤلاء مع جهلهم وإعذارهم بعدم قيام الحجة الرسالية عليهم، فيجب عليكم أن تثبتوا للمشركين من المنتسبين إلى الإسلام وصف الشرك أيضا، وإن كنتم ترون أن الحجة الرسالية لم تقم عليهم أيضا!!.
حتى أنه قال قبل إيراد آية الميثاق والحديث عنها: "والآن بمشيئة الله وعونه أسوق آية من كتاب الله هي الفصل في هذه المسألة ومنها يعلم علة هذا الحكم وهو ثبوت وصف الشرك بمجرد التلبس به دون إقامة حجة وبلوغ رسالة وهذا الحكم عام مطرد بين جميع الخلق وكافة الأمم ألا وهي آية الميثاق، وقبل الحديث عنها أنبه على أن العلماء قد اتفقوا على أن هذه الآية حجة مستقلة في الإشراك واختلفوا هل هي حجة مستقلة في العذاب أم لا؟ على قولين".
ولم ينتبه هو ولا الدكتور الجربوع، ولا الدكتور فركوس، للفارق العظيم بين وصف أهل الفترة بالشرك، وبين الحكم على المنتسبين للإسلام بالشرك، من حيث أن أهل الفترة شركهم شرك أصلي، وهؤلاء شركهم طارئ بعد ثبوت حكم الإسلام لهم بيقين.
إلا أن الإشكال ليس هنا فحسب، فذلك التقسيم العجيب للكفر، ظهر عندهم من شدة ولعهم بهذه الحجة، وظنهم أنها قاصمة الظهر لمن يخالفهم، فإن صاحب المجهر أعلى كثيرا من شأن هذه لحجة، حتى أنه صدر بها كتابه، مع أنها في الحقيقة لا شيء، فإن مخالفيهم لا ينكرون أبدا أن وصف الكفر والشرك ثابت لأهل الفترة، ولغيرهم من أهل الأديان الأخرى، سواء قامت عليهم الحجة الرسالية أو لم تقم، كمن يكون على دين من الأديان الوثنية، وهو يعيش في أدغال أفريقيا، أو في غيرها من الجهات المنقطعة، فمثل هؤلاء كفار مشركون، قامت عليه الحجة الرسالية أو لم تقم، وهذا لا خلاف فيه بين أحد من المنتسبين إلى السنة، بل بين أهل الإسلام عامة، إلا من شذ من بعض الزنادقة العصريين.
إلا أن المنكر العظيم - وهو ما غفل عنه الدكتور الجربوع والدكتور فركوس - هو قياس هؤلاء على المنتسبين للإسلام ممن يقعون في الشرك، وأشد من ذلك نكرا، هذا التقسيم العجيب للكفر، ألا وهو تقسيمه إلى: شرك يعاقب عليه، وشرك لا عقاب عليه، وهو تقسيم لم ينبت إلا من هذا الولع والغلو بمسألة أهل الفترة وآية الميثاق، عند صاحب المجهر، وكذلك عند من اتبعه فيها.
وبناء هذا التقسيم للكفر على مسألة أهل الفترة، بناء لا أساس له البتة، والعلماء قديما عندما تباحثوا حكم أهل الفترة، لم يخطر في بالهم تقسيم الشرك إلى شرك يعاقب عليه، وشرك لا يعاقب عليه، بل لا يمكن أن يفهم أحد هذا التقسيم من هذا الحكم، إلا من ابتلي بفهم سقيم كفهوم الخوارج الذين تتجارى بهم أهواءهم كما يتجارى الكلب بصاحبه.
أما العلماء قديما فمتفقون على أن الجنة دار المؤمنين، وأنه لا يدخلها إلا نفس مؤمنة، وأن النار دار الكافرين، ولا يخلد فيها إلا نفس كافرة، وهم متفقون أن التوحيد مآله إلى الجنة، والشرك مآله إلى النار، ومتفقون كذلك على أن الله حكم عدل، وأنه لا يعذب إلا من استحق العذاب، ومن هنا ثار التساؤل عندهم عن أهل الفترة، فإن هؤلاء كانوا مشركين في الظاهر، وهم مع ذلك أهل فترة من الرسل، ولم تقم عليهم الحجة التي نص الله في كتابه أنه لا يعذب إلا من خالفها، كما في قوله سبحانه: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا). فكان تساؤلهم عن مصير هؤلاء في الآخرة، هل تكون الحجة قد قامت عليهم بغير الرسل، أم هل يمتحنون في الآخرة، فتقوم عليهم الحجة حينئذ، أم يكون لهم شأن آخر، الله يعلمه.
وقد ذكر ابن القيم مسألة أطفال المشركين، وهي في معنى هذه المسألة، بل قد يكونون أعظم عذرا، لعدم بلوغهم سن التكليف، ومع ذلك لم يجعلهم من النوع الذي يكون شركه، شركا لا عذاب عليه!، ولما عدد مذاهب الناس فيهم، ذكر ثمانية مذاهب مختلفة، جعل الثامن منها شاملا لهم ولأهل الفترة جميعا، ولأمثالهم، كالأصم، والهرم، والذي لا يعقل، ورجح في هذا المذهب الثامن، أنهم يمتحنون في عرصات القيامة، فمنهم من يعذب بناء على هذا الإمتحان.
ثم عقب ابن القيم في نهاية إيراده لهذه المسألة بقوله: "وقد نقل عن ابن عباس ومحمد بن الحنفية، والقاسم بن محمد، وغيرهم أنهم كرهوا الكلام في هذه المسألة ".
-التصديق والانقياد ركنا الإيمان ١٢٣. (وهذا العنوان كسابقه).
- أركان الإيمان وحدوده. ١٢٩.
-العلم والعمل ركنا الإيمان. ١٣٣.
-شروط تحقيق الإيمان. ١٣٤.
-العبادة وشروطها وفساد الشرك لها. ٢٦٩.
فهذه العناوين كلها، فيها من الإجمال ما هو من أهم أسباب الانحراف والضلال، وإذا كان هذا الإجمال لغرض سوء في نفس من أتى به، كان هذا من لبس الحق بالباطل، نسأل الله السلامة والعافية.
وإذا علم ما سبق من أن هذه المصطلحات المنطقية محكومة بالشرع، لا حاكمة عليه، وعلم كذلك، أن الحكم بالإسلام واقف على مجرد النطق بالشهادتين، وأن استمرار المكلف على هذا الإسلام من عدمه، منفصل عن الحكم الأول بالإسلام، فإذا صدر منه ردة؛ فإن هذه الردة لا تبطل صحة الحكم الأول بالإسلام؛ إذا علم كل هذا، تبين أن هذا الإفراط من صاحب المجهر في استعمال مصطلح الشرط في هذه العناوين، هو من الإجمال الذي يحتمل حقا وباطلا، فإنه إن أريد بالإسلام في بعض هذه المواطن؛ الإسلام حقيقة، وهو الإسلام الذي يقع عليه الثواب والعقاب في الآخرة كان هذا حقا، وأن أريد بهذا الإسلام؛ مجرد الحكم، كان باطلا، وفسد كل ما بُني على هذا المصطلح المنطقي من أحكام.
فصاحب "المجهر الشرعي" للأسف الشديد استغل هذا الإجمال الذي يمكن أن يقع بمثل هذه المصطلحات، كمصطلح الشرط، فخلط به بين المفاهيم والمعاني الشرعية، وضرب بعضها ببعض، ليعيد بهذه الفوضى التي أحدثها؛ مذهب الخوارج الأولى جذعا، وينشره بين ظهراني أهل السنة.
أما ما أورده الكاتب تحت هذه العناوين، فهو محل اللبس والتخليط والعبث الخارجي العظيم، حتى إنك إن طالعت بعض هذه الفصول، قفز إلى ذهنك مباشرة قول النبي صلى الله عليه وسلم "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم". وهذا التخليط والعبث هو الذي قد يحتاج إلى الرد المفصل، نسأل الله العون والتوفيق والسداد على ما يحب ويرضى.
هذا، وإن كان أن من عقل هذا الرد المجمل، وكان سليم الفطرة، متأصلا بالسنة، فإنه لن يحتاج إلى الرد المفصل، فإن ضلالات وانحرافات صاحب المجهر أظهر من نار على علم، وأس الضلال فيها قائم على عدم تفريقه بين اسم الإسلام واسم الإيمان، أو بين حقيقة هذه الأسماء، ومجرد الحكم بها، ولا يخفاك أن هذا هو أس الضلال من قديم وإلى الآن، كما هو عند الخوارج والمرجئة. حتى إن صاحب الكتاب صار يجاري الخوارج عندما جعلوا حقيقة الإيمان هي حد الحكم به، فمن لم يأت بالإيمان الواجب جعلوه كافر، وهو جعل حقيقة الإسلام هي حد الحكم به، فمن لم يأت بها جعله مشركا!.
كما أنه لم يفرق بين سياق التعليم والبيان والكشف عن حقائق هذه الأسماء، وهو السياق الذي جاء فيه كلام الأئمة والعلماء الذين كان يكثر النقل عنهم تلبيسا وتدليسا، وبين سياق تقرير أحكام التكفير، ومناهج إيقاعه على المعينين، وهو السياق الذي يتكلم فيه هو، وهو كذلك السياق الذي ترد فيه مسألة العذر بالجهل التي جعلها عنوان كتابه، وأساس بحثه.
والحاصل أننا إذا استبعدنا كلام الأئمة والعلماء الذين أكثر النقل عنهم، فإن صنيعه في هذا الكتاب هو من قبيل السفسطة والجدل الكلامي لا أكثر، فصاحب المجهر لو وجد في زمن اليونان لكان من كبار السفوسطائيين، وهذه السفسطة والعناد تنتشر عند العامة، لا سيما في عوام المصريين، وهذا أمر معلوم لمن عاشرهم، فتجد الواحد منهم يجادلك حتى فيما ترى وتسمع، ويطلب منك أن تكذب سمعك وبصرك، وتصدق جداله وعناده، ولذلك فلا أرى إلا أن صاحب المجهر أتي من هذا الخلق، فنزع به هذه النزعة المتطرفة، وشذ به هذا الشذوذ، فجاء كتابه فلتة منفصلة عن العلم تماما، تلقفها عنه من تلقفها، فصارت مذهبا!.
ولاحظ هذه السفسطة في الفصول الأخيرة التي زعم فيها الرد على شبهات العذر بالجهل، وكذلك في الفصل الذي يليها، وهو الذي يتعلق بتكفير المعين، والذي يفترض أن يكون زبدة الكتاب، ولكن المؤلف لم يحرر فيه شيئا عن تكفير المعين، بل أظهر فيه براعته الشديدة في السفسطة، والتلوي والتملص والهروب من محل النزاع، إلى مسائل لا علاقة لها البحث. وكذلك أظهر سطحية شديدة في فهم كلام الإمامين: ابن تيمية وابن القيم رحمه الله، حتى أنه بنى على كلامهما تقسيما عجيبا للشرك، وهو تقسيمه إلى: شرك يعذب عليه، وشرك لا يعذب عليه، وسيأتي التعليق على هذا التقسيم إن شاء الله.
ويبدو أن هذا الفصل والذي سماه "موقف ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبدالوهاب من تكفير المعين" يبدو أنه من أشد الفصول تأثيرا وشؤما على الدكتور عبدالله الجربوع.
وإنك إذا قارنت ما جاء في هذا الكتاب كله من الفوضى العلمية، والعبث الخارجي، بما يردده الدكتور الجربوع غفر الله لنا وله، كما في كلامه في هذا الرابط: https://youtu.be/UEVH0zzFboc?feature=shared، وما في هذا الرابط:https://youtu.be/clZftBQLKRc?feature=shared، وغيرهما الكثير من المقاطع المنتشرة على اليوتيوب؛ وجدته كلاما واحدا لا يختلف، قد خرج من بؤرة واحدة، وقوي لذلك عندك الظن أن الدكتور الجربوع إنما يستقي من هذا المستنقع الذي ترتع
بل إن هذا التنظير والإمعان في تنميق الكلام الصناعي، أحيانا يجعل الدكتور يغرق في هذه المصطلحات، ويدور حول نفسه بها، حتى إنه قد يستدل بمحل النزاع في المسألة، كقوله: "والحكم بكون المعين مشركا معلق على وصف مناسب منضبط مؤثر، وهو: الشرك مع إقامة الحجة، لا على كون المسألة ضرورية أو ظاهرة، ولا على مجرد التلبس بالشرك".اه. ولا يخفاك أن هذا هو محل النزاع، ولو كان المخالف يمكن أن يقر بهذا، لما وجد الخلاف أصلا.
فهذا مسلك خطير، ينتهجه الدكتور النجار في تناوله للمسائل الشرعية عموما، ويخشى عليه منه خشية عظيمة، وأخطر ما في الأمر، أن هذه المبالغة بالاعتداد بالصنعة الفقهية والأصولية والمقاصدية، توقعه في المخالفة للأدلة والأحكام الشرعية، كما في النقل السابق، فإن وصف المعين بالشرك لا يقف على هذا الوصف المناسب المنضبط المؤثر بزعمه، بل يقف على حصول اليقين في نفس الحاكم، ثم مراعاة المفاسد والمصالح من هذا الحكم، كما تقدم بيانه في الجواب عن مسألة العذر بالجهل. ولا يخفى أن هذا اليقين ينبع من كمال المعرفة بحقيقة الكفر وأنواعه وصوره، وكلما كان الحاكم أعرف بحقيقة الكفر، كان أقدر على الحكم به على الأعيان.
بل لو قيل إن هذا الوصف الذي زعم الدكتور النجار، أنه وصف منضبط، ليس منضبطا في حقيقة الأمر، لكان هذا صحيحا، فإن العلم بقيام الحجة من عدم قيامها، أمر فيه شيء من الخفاء، لا يستطاع القطع به، لا سيما في الحالات التي لا يكون فيها اتصال مباشر بين الحاكم والمحكوم عليه، وأحكام التكفير في الدنيا إنما تجرى على الظاهر، أما قيام الحجة من عدمها في باطن أمر هذا المعين، فهو مناط الحكم عليه في الآخرة، وهذا خاص بالعليم الخبير سبحانه.
ومن الطريف أن الدكتور أحيانا، يصل إلى حكم صحيح في مسألة ما، ولكن من هذا الطريق الخاطئ الذي يبنيه على التكثر بالقواعد الفقهية دون مراعاة للطريق الصحيحة في الاستدلال بها، ( كما في تقريره لمعاملة شراء الإسمنت الحكومي )، وفي مثل هذا، فإن موافقته للحكم الصحيح لا تغني كثيرا، ثم قد تتغير صورة المسألة، وينتفي الاعتبار الشرعي الذي بُني عليه الحكم، فيتبدل حكم المسألة، ويظل حكم الدكتور النجار كما هو، وما ذاك إلا لأنه أتى المسألة من الطريق الخطأ.
وإن كان من نصيحة للدكتور النجار هنا، فهو بأن يبالغ في الاحتراز من ميله النفسي وأحكامه المسبقة، فلا يحكم ثم يستدل، ولا يحكم بمقاصده ومرادات نفسه هو، ثم يحشد القواعد الفقهية، والأصولية، والمقاصدية، للتدليل على هذه المرادات على أنها أحكام شرعية، بل قد يدعي أنها عين مرادات الشارع ومقاصده، وأن ما خالفها لم يرده الشارع، ولم يعتبره، ولم يقل به، كما في بعض تعابيره الشديدة حتى في مجرد لفظها، بغض النظر عن صحة فحواها من عدمه. نسأل الله أن يبصرنا والدكتور النجار بعيوبنا وأن يهدينا سبلنا، وأن يوفقنا وإياه لما يحب ويرضى.
وبعد هذا، فلنعد إلى أصل كلامنا، وهو تأثر الدكتور النجار بالمجهر الشرعي، أو موافقته له، فإنك إن أعدت النظر في فهرس "المجهر الشرعي" فستقابلك العناوين الآتية:
- الانخلاع من الشرك والتزام أحكام الإسلام شرط في عصمة المال والدم.
- النطق بالشهادتين مع التلبس بالشرك فاسد لا حكم له.
- العلم بمعنى الشهادتين شرط في عصمة الدم والمال.
- الكفر بما يعبد من دون الله شرط في عصمة الدم والمال.
- كلمة التوحيد تعصم قائلها بشرط البراءة من الشرك.
- الإتيان بالتوحيد اتباعا للآباء دون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نفاق أكبر!!!.
- تنزيل آيات الكفار على من فعل فعلهم من المسلمين.
-تناول القرآن لمشركي الأمة كتناوله لمشركي قريش.
- المشركون ليسوا من أهل القبلة.
- يلزم من إعذار المشرك الجاهل عدم تكفير اليهود والنصارى.
-المشرك ليس في عداد المسلمين ٢٦٧.
-عباد القبور لا يدخلون في مسمى المسلمين ٢٨٨
هذه بعض العناوين الصريحة المؤسسة لهذا المذهب الذي بناه صاحب المجهر، وبثه بين المنتسبين إلى السنة، وأشد ما في هذا المذهب أمران: الأول؛ المساواة بين الكافر الأصلي، وبين المرتد، مع أن المسلمين مجمعون على الفرق بينهما، والثاني؛ هدم ما أجمع عليه المسلمون من أن النطق بالشهادتين هو مفتاح الدخول في الإسلام، أما عدم استمرار الحكم بالإسلام لمن نطق بالشهادتين، ثم أتى بما يخالفها، فهي مسألة أخرى منفصلة عن ثبوت دخوله في الإسلام، وهي التي يستقل بها باب الردة، فالردة لا تنفي صحة الحكم الأول بالإسلام لمن نطق بالشهادتين.
وهذا يبين لك حجم الجهل العظيم الذي نشره صاحب المجهر، بمثل هذه العناوين وغيرها، وقد أعرضت عن كثير من العناوين، مما هو مجمل يحتمل حقا وباطلا، وقد يأتي بعضها لاحقا.
الرد المجمل على كتاب "العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي"وعلى بعض من تأثر به من المنتسبين إلى السنة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله؛ وصلى الله على عبده ورسوله محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد،
ففي ضوء ما تقدم من البيان والتفصيل لمسألة العذر بالجهل، فإن تمام هذا البيان لمسألة العذر قد يتطلب الرد على أهم المراجع التي قررت وأصلت لهذه المسألة الخطيرة، ألا وهو كتاب مدحت آل فراج، الموسوم ب"العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي". ولما شرعت في جمع رد مفصل على هذا الكتاب تحصل لي هذا الرد المجمل، فرأيت إثباته على القناة، تكميلا للفائدة من الملف السابق الذي تضمن جوابا عاما عن مسألة العذر بالجهل، وذلك إلى أن يتأتى الرد المفصل على هذا الكتاب بحول الله وقوته، وربما كان هذا الرد كافيا، إذ صار بين الإجمال والتفصيل نوعا ما.
وهذا الكتاب - في نظري - يوازي في خطورته كتاب ظاهرة الإرجاء لسفر الحوالى، بل يفوقه بمراحل، وكلاهما من أهم المراجع؛ هذا لمسألة العذر بالجهل، والآخر لمسألة التكفير بجنس العمل، وكلاهما فيما يبدو - والله تعالى أعلم - ، من أوائل المصادر التي أثارت هذه المسائل في الساحة، وأحدثت هذه المحدثات ونشرتها بين المسلمين، فكانا بذلك من السنة السيئة في الإسلام.
ومما يبين أهمية "المجهر الشرعي"، كمرجع من مراجع هذه المحدثات، أنني استمعت إلى كلام كثير للدكتور عبدالله الجربوع عفا الله عنه، يقرر فيه ما يعتقده من عدم العذر بالجهل، ومن كفر تارك جنس العمل، وتتبعت كثيرا من مقاطعه الصوتية المنشورة على الإنترنت المتعلقة بهذه المسائل، فوجدته لا يزيد على ترديد أفكار صاحب المجهر، حتى إنني وصلت إلى قناعة؛ أن الدكتور الجربوع لم يؤتى إلا من هذا الكتاب.
وكذلك فممن يظهر عنده التأثر الشديد بالمجهر الشرعي وصاحبه؛ الشيخ محمد علي فركوس عفا الله عنه، فإنه وقع فيما وقع فيه الدكتور الجربوع تماما، كما في الفتوى التي في هذا الرابط : https://youtu.be/9XG0zNk1oXk?feature=shared.(وغيرها من فتاواه الصوتية، والمقروءة)
فإنك إن عرضت هذه الفتوى على المجهر الشرعي، وجدتها تلخيصا شبه حرفي لأفكار المجهر الشرعي!!، ويمكن أن تتبين هذا بنظرة خاطفة على فهرس المجهر الشرعي، كما في العناوين الآتية:
- إثبات وصف الشرك مع الجهل وقبل قيام الحجة الرسالية. ١٧
- ثبوت وصف الشرك بمجرد فعله وإن لم تقم حجة البلاغ. ٢٤
- حكم المشركين ساعة خفاء آثار الرسالة. ٥٣-٥٥.
-الشرك لا يجتمع مع الإسلام. ٢٠٤ (لاحظ هنا أن الإطلاق والإجمال في هذا العنوان من جهتين: من جهة اسم الشرك، حيث يتناول الأكبر والأصغر، والثاني من جهة اسم الإسلام، فإنه إن حمل على الحقيقة كان العنوان صحيحا، ولكن يبقى أن الأولى والأصوب، والأبعد عن الاشتباه والإيهام، أن يعبر عنه باسم الإيمان لا باسم الإسلام، لأن اسم الإيمان هو الأقعد والأوفى بالمعنى المراد في هذا الباب، وعدم تعبير صاحب المجهر باسم الإيمان في هذا المحل، يدل على أحد أمرين: إما جهل الكاتب بحقيقة هذا الأسماء الشرعية، وجهله بالفروق بينها، وإما تعمده لاستبدال اسم الإسلام باسم الإيمان، لكي يصل به إلى غرضه من التكفير العام للمنتسبين للإسلام. أما إن حمل اسم الإسلام في هذا العنوان على الحكم لا على الحقيقية، كان هذا العنوان باطلا باتفاق المسلمين، كما في المنافق فإنه يجتمع فيه الشرك مع الحكم له الإسلام).
-أجمع المسلمون على أن عبادة غير الله لا توجد إلا من كافر. ٢٠٥
- إثبات الضلال قبل البيان. ٢٣٠
- الفرق بين الضلال قبل الرسالة وبعدها. ٢٣٣
- الجهل بالله كفر قبل الخبر وبعده. ٢٧٩
- الفرق بين الجاهل المعرض والجاهل العاجز. ٢٨٥
- نتائج النقل عن ابن القيم. ٢٨٦.
وسيأتي مزيد من هذه العناوين التي جاءت في المجهر الشرعي، والتي يغني ذكرها عن الرد عليها، ولكن قبل ذلك نشير إلى من تأثر بالمجهر الشرعي إضافة للدكتور الجربوع، والدكتور فركوس.
فللأسف الشديد لم يقف الأثر السيء لهذا الكتاب على الدكتور الجربوع وأمثاله ممن يوافقون صاحب الكتاب في عدم العذر بالجهل بالفهم السقيم الذي فهموا به هذه المسألة؛ بل تأثر بأفكار هذا الكتاب حتى من كان مخالفا لهم فيها، وكان على النقيض منهم تماما في تقريره للعذر بالجهل، وهذا قد صدر من أحد المشتغلين بالعلم الشرعي في ليبيا، وهو الدكتور محمد أحمد الصادق النجار وفقه الله.
فهو لا يوافق المجهر الشرعي في عدم العذر بالجهل، بل ذهب أبعد من هذا بكثير، وذلك في اشتراطه فهم الحجة حتى في المسائل الظاهرة دون التفريق بين أحكام الدنيا التي تُجرى على الظاهر، وبين أحكام الآخرة المبنية على كمال علم الله بقيام الحجة، وزوال موانعها عن تاركها من عدم ذلك، بل شط شططا بعيدا عندما زاد على شرط فهم الحجة، اشتراط زوال الشبهة أيضا، فلم يُبقي مع هذا الشرط معنى للردة، وصار من العسير أن يُحكم على مرتد بالردة، إلا أن يقول عن نفسه أنا مرتد ولا عذر لي، وليست لدي
مقطع من الشعر الشعبي، مملوء حكمة، ومع أنني لا أعرف قائله، ولا أظن أنه طالب علم، إلا أنه حقق في شعره هذا، ما يتهافت حوله طلاب علم كثير دون أن يغنوا فيه، أما هذا الشاعر حفظه الله إن كان حيا، ورحمه حيا وميتا إن كان قد توفاه الله؛ فقد أصاب بشعره حقيقة العلم، وأنا لا أمل سماعه، وله مقطع آخر جميل أيضا، سأنشره لاحقا إن شاء الله.
أسأل الله أن يكتب له ولنا الأجر في نشر هذا العلم، وأرجو أن تكون اللهجة مفهومة للجميع.
روية ولا تثبت!!
وليس من نافلة القول، أن هذا الرفع للحرج، والتيسير الكامن في الحكم بالمنع من مثل هذه المعاملات الربوية، ينطبق تماما على القول بعدم جواز التفاضل بين الورق النقدي، بل حاجة الأمة لهذا التيسير أشد إلحاحا.
فبعض العلماء ربما يفرّ من هذا الحكم ظنا منه أنه يجلب التضييق والحرج على الناس، مع أن العكس هو الصحيح، فلو قُرر هذا الحكم حتى على المستوى دون الرسمي والحكومي، لكان فيه خيرا عظيما جدا، ولصار مصدر قوة للعملات الوطنية في وجه العملات الإمبريالية الطاغية التي عاث أهلها في الأرض فسادا، ولكن من جهل شيئا عاداه.
أما إذا قُرر الحكم على المستوى الحكومي، واستثمرته الحكومات الاستثمار الأمثل، فهو الخير العميم، والفضل الواسع العظيم، من الله المنان الكريم، ولأكل الناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وانتشر المال انتشارا عظيما، حتى قد يُخشى على الناس منه، لا من قلته ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ).الأعراف (96). ومن ستطول به الحياة سيرى - إن شاء الله تعالى - من ذلك ما لم يكن يخطر له على بال.
ومن العجائب والعجائب جمة .. قرب الدواء وما إليه وصول.
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ .. والماء فوق رؤوسها محمول.
انتهى ما يتعلق بالأمر الجيد في تلك الفتوى، وأما الأمر الذي هو محل نظر، فهو قول صاحبها إنه اقترح على المصرف أن يعقد معهم عقد وكالة لشراء الدولار له، وقد أعد نموذجا في محرر العقود بخصوص هذه الوكالة، وقدمه إلى المصرف ظنا منه أن المعاملة قد تصح بهذه الوكالة.
ومع أن المصرف رفض هذا الاقتراح، فإن المعاملة لا يظهر أنها تصح به إذا قبله، وذلك لأن يد الوكيل يد أمانة، ويد المدين يد ضمان، ولا يمكن أن تجتمع اليدان على هذا المال في هذه الصورة، والله تعالى أعلم.
فإما أن نجعل الوكيل ضامنا بناء على الدين الذي أبرم بموجبه العقد، وهذا يؤدي إلى تربح الدائن من دينه، ويدخل هذا في القرض الذي جر نفعا، وهو محرم.
وإما أن نسقط الضمان على المدين بعقد الوكالة هذا، دون أن يكون قد قام بأي عمل يتعلق بسداد الدين، وبرآة ذمته منه، وفي هذا ظلم للدائن، وسلب لحقه في دينه، وقد يدخل هذا أيضا بيعتين في بيعة، فكأن الوكيل قال للدائن: أقبل منك هذه الوكالة، وأشتري لك ما تريد منها بشرط أن تسقط الضمان عني، وهي شبهة أيضا.
ثم إنه لا يصح للموكل أن يقول لغريمه، اقبض ديني من نفسك، فيصير المدين قابضا ومقبضا في آن واحد، وإذا لم يصح هذا، لم يصح إسقاط الضمان، ولا ما بني عليه من الوكالة.
ومالك رحمه الله يمنع من هذه المسألة، وهي أن يقوم الدائن بتوكيل المدين بشراء سلعة له بالدين الذي له عليه، ولا يجيزها إلا في صورتين: الأولى أن يكون الدائن الموكل حاضرا في مجلس العقد، وهذا بيّن، فكأن حضوره يقوم مقام قبضه لدينه، والثانية: هي أن يكون الدين من وكالة مثلها سبقتها، وذلك كأن يكتب الرجل إلى الرجل في بلد آخر، أن يشتري له سلعة ما، على أن ينقدها من عنده، فيشتريها له، ويرسل بها إليه، ويكتب له مع ذلك، أن يشتري له بثمنها سلعة من عنده هو الآخر، حيث قال مالك هذا من المعروف الذي يجب أن لا ينقطع بين الناس. ويشبه أن يكون هذا استحسانا منه رحمه الله.
والقول بالمنع من هذه المسألة هو قول المالكية، والحنابلة كما في المغني، ولم أجد مذهب الشافعية والأحناف فيها بعد بحث سريع، ولم أتمكن من إكماله للإنشغال بأمور أخرى.
وعلى أية حال، يمكن تصحيح الاقتراح السابق بأحد وجهين: الأول أن يسحب الزبون المال من المصرف، ثم يعقد عقد الوكالة مع المصرف، ويسلم لهم المال لا على أنه إيداع في حسابه، بل على أساس عقد الوكالة، ويجب أن يضع المصرف هذا المال في حساب آخر خاص بهذا، ولا يخلطه مع الحسابات المصرفية الأخرى، ولا أظن المصارف توافق على هذا الوجه، وهو غير عملي.
أما الوجه الثاني فهو أيسر، ولا يوجد ما يمنع المصارف منه إلا عدم وجود الإرادة الصادقة في تصحيح هذه المعاملة، وشعور هذه المصارف بالتحرر من واجب التقيد بالأحكام الشرعية، أو أنها تشعر بأن الأحكام الشرعية هي التي يجب أن تساير المصارف لا العكس، لا سيما مع طبطبة العلماء عليها!!.
أو إذا كانت المصارف تزيد في سعر الدولار، على سعر المصرف المركزي، فتربح من ذلك دون أن تكون قد باعت شيئا، أو ضمنته، لأن المصرف المركزي هو الذي يبيع هذا الدولار، وليس المصارف التجارية، ولذا فإن هذا التربح غير جائز لها، وقد جاء في الحديث أن الربح بالضمان.
أما هذا الوجه الثاني فهو بأن يوكل الزبون الذي يريد أن يشتري الدولار؛ المصرف بالشراء له، على أن ينقد المصرف الثمن من حسابه هو لا من حساب الزبون، وهذه وكالة صحيحة لا غبار عليها، وبمجرد أن تنفذ المصارف هذه الوكالة، ويتم البيع والقبض للدولار من قبلها، يصير الزبون مالكا للدولار، ومدينا لها بثمنه، ويصير الدولار أمانة
ولكن هيهات أن يتم لهذه الأحزاب ما أرادت، فإن الله جلت قدرته حفظ لهذه الأمة دينها، وإنه تبارك اسمه امتدح هذه الأمة بقوله في محكم كتابه: ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ). فهي ليست كالنصرانية التي باعت دينها لأفكار أرضية زخرفها لهم اليهود، وزينوها لهم في صورة العلم، فآمنوا بها، واتبعوها حتى طغت المادية عليهم، وفشى فيهم عبادة المال، وهو الأمر الذي يتفنن فيه اليهود ويتقنونه غاية الإتقان، مما مكن شذاذ الآفاق هؤلاء من التحكم في تلك الأمم الغربية التي صارت بتلك الأفكار الأرضية التي بثها اليهود بينهم مسخا مشوها في غاية القبح والانحطاط من النصرانية المحرفة أصلا.
أما أهم أسباب هذا الإصرار فهو منهج الانغلاق والتفكير داخل الصندوق، واقتفاء أثر الحضارة الرأسمالية الربوية حذو القذة بالقذة، اعتقادا أنه هو الطريق الأوحد للنهوض بالأمة، وتحقيقا لصحة القاعدة الخلدونية التي تقول إن المغلوب مولع بتقليد الغالب ... والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وقصارى القول في سياسة أسلمة البنوك التي يدور عليها الفقه المعاصر، هو إما أن تتقيد فيها البنوك بقوانين الشريعة والفقه، وهذا سيؤدي حتما لاختفاء البنوك القائمة على سنن اليهود وقواعدهم، وظهور شيء جديد لا علاقة له بالبنوك التي نراها اليوم، وإما أن يُسلك في هذا الطريق بنحو ما هو قائم اليوم من فقه التلفيق والتبرير والاحتيال على الشريعة لمصالح تلك البنوك والمؤسسات المالية، وهذا لن يؤدي إلا إلى وجود ربا إسلامي!! كما احتال اليهود على دينهم وحرفوه حتى أوجدوا ربا يهودي، وكما فعل النصارى حتى أوجدوا ربا نصراني، والله بريء ورسوله من كل هذا التحريف والتبديل تحت أي اسم كان. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يتشعب الحديث إليها(*)، المهم هنا هو جواز هذا للزبون.
أما عندما يسحب الزبون من صراف آخر غير تابع لمصرفه، فإن المعاملة لا تكون استيفاء للدين، فتدخلها شبهة القرض بفائدة، فلا يعود تكييف هذا المبلغ المقطوع على أنه قيمة للخدمة تكييفا صحيحا، بل يكون من الفائدة على القرض، إلا إذا كان الخصم يتم من حسابات المصرف المركزي مباشرة، وهو النظر الأول الذي تقدم آنفا، وكانت قيمة المعاملة موحدة، أو متساوية على جميع البطاقات في كل مصرف على حدة، وهو النظر الثاني الذي تحتاجه هذه المعاملة، وقد تقدم أيضا.
ومما ينبغي ذكره هنا أيضا، أن بعض العلماء يفرق بين ما إذا كان المبلغ المقطوع كثمن لهذه الخدمة؛ نسبة من جملة المبلغ المسحوب، وبين ما إذا كان قدرا محددا مقطوعا لا علاقة له بالقدر المسحوب، وهذا التفريق ضعيف، لأنه متى كانت المعاملة استيفاء للدين جازت سواء كانت نسبة أو قيمة مقطوعة، ومتى خرجت عن هذا الحد، نظر إليها بحسب ما آلت إليه. ويزداد هذا التفريق ضعفا في الصورة الجارية عندنا الآن، لأن سقف السحب محدد بقيمة ثابتة، وهي ٥٠٠ دينار فقط، وعليه لا يكون هناك فرق بين أخذ نسبة، وأخذ قيمة مقطوعة، بل قد تكون القيمة المقطوعة أشد، لأن النسبة تقل كلما قل المبلغ المسحوب، أما القيمة المقطوعة فهي ثابتة، فإذا سحب ١٠٠ دينار فقط، فسيؤخذ منه نفس المبلغ الذي يؤخذ ممن سحب ٥٠٠ دينار كاملة.
والخلاصة: لا ينبغي للمسلم الحريص على دينه، الذي قد طرق سمعه ما أوعد الله على الربا من الوعيد الشديد، والذي يعلم ما في هذه الموبقة من الشؤم العظيم في الدنيا والآخرة، على الفرد والمجتمع معا؛ لا ينبغي له أن يقدم على هذه المعاملة حتى يعلم حكم الله فيها، وله أن يقتصر على السحب من الصراف الآلي التابع لمصرفه فقط، حتى توضح المصارف التجارية والمصرف المركزي تفاصيل هذه المعاملة. والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
----------‐----------------------------------------------------
*- إن مما يظهر جليا في هذا الباب أن العمولات التي تفرضها المصارف على خدمات الحسابات المصرفية؛ كلها من أكل المال بالباطل، وليست في معنى البيع ولا الهبة ولا العطية ولا أي معنى من المعاني التي يجوز تداول المال بها بين المسلمين، وهذا الحكم خاص بالعمولات على خدمات الحساب المصرفي ولوازمه، كاستصدار دفتر الشيكات وما في حكمه، فإذا تجاوزت المعاملة هذا القدر فإنه ينظر في كل صورة منها بما آلت إليه، ويحكم على كل منها بحسبه.
وبعض العلماء أوجد أصلا غريبا في هذا الباب، وهو التفريق بين العمولات التي تقابل النفقات الحقيقية، وبين العمولات التي تكون لغرض الربح والتجارة، وأظن أن أكثر من يرددون هذا الكلام لم يتأملوه أبدا، ولو وجد من تأمله فعلا، فقد تأمله مع الغفلة أو الجهل بماهية البيع، وماهية التجارة... فإن ما يقولونه لا وجود له أبدا في أرض الواقع، إنما هو كلام نظري سيق للتبرير والتمرير لبعض أنشطة المصارف فقط، ولو كُلفت المصارف حقيقة باحتساب النفقات الفعلية لشيء من تلك العمولات لما قدرت على ذلك، بل ولما وجدت قانونا يسعفها على ذلك، ولو استعانت بكل أدوات الإحصاء، ثم لو قدر أنها تمكنت من احتسابها فعلا، فإن طلب الاستعاضة عن هذه الخدمات بالمال يخرجها إلى حقيقة البيع رغم أنف من يفر من ذلك، إلا أن يُطلب من الزبون رد المثل من هذه الخدمات لا القيمة، وأنى له ذلك. لو كانت هذه الخدمات تقدم من طرف ثالث يبيعها على هذه المصارف، فتشتريها وتقدمها لزبائنها، فإنه قد يصح القول حينئذ بإمكان أن تقدم المصارف هذه الخدمات بتكلفتها الحقيقية، وهو المبلغ الذي اشترت به هذه الخدمات، فيكون من باب بيع التولية، أما أن تكون المصارف هي المنتجة لهذه الخدمات بنفسها، ثم تطالَب بتقدمتها بتكلفتها الحقيقية، لئلا تؤول المعاملة إلى البيع والتربح، فهذا قول من لم يتدبر حد الربح والبيع الذي تناط به مثل هذه الأحكام الشرعية.
وعلى أية حال، فإن هذا موضوع ذو شجون، ولم نرد التطرق إليه هنا، ونسأل الله أن يعيننا ويوفقنا لما يحب ويرضى، ولكن من أغرب ما سُمع في هذا الباب، قول من يقول بجواز أن يقرض المصرف قرضا حسنا، ومع القرض الحسن فائدة!!، وهذه الفائدة بحسب ما يقولون هي النفقات الحقيقية التي خسرها المصرف على هذا القرض الحسن!!، ولو تدبرت هذا القول لوجدته يخرج من نفس المكمن الذي خرج منه القول بأن الفائدة أجرة النقود، كريع الأرض، وأجرة العامل سواء بسواء، وكل ما يمكن أن يقال في العمولات التي تفرضها المصارف على خدمات الحسابات المصرفية لون، وإباحة الربا بمثل هذا الكلام لون آخر.
فما يقع فيه غلاة عدم العذر بالجهل من التبرؤ من أهل القبلة، مشابه تماما في أصوله، وفي غلوه، وتنطعه، وفي سطحيته؛ لما وقع فيه الخوارج قديما، بل إن بعض أقوالهم قد تتشابه تماما مع بعض أقوال فرق الخوارج قديما، ومن راجع تاريخ الخوارج القديم وقع على أشياء من ذلك، كاشتراط بعض الخوارج للعلم بالله ومعرفته، ثم يختلفون في القدر المجزئ من ذلك، هل يلزم العلم بجميع الأسماء الحسنى، أم يجزئ العلم ببعضها فقط، وهم في كل ذلك لا يفرقون بين الإيمان والإسلام، وبين الحقيقة فيهما ومجرد الحكم. فقارن هذا الشرط مع اشتراطات صاحب المجهر، ترى حجم الشبه بين المذهبين.
وفي المقابل فإن غلاة العذر بالجهل، لهم أقوال تتشابه مع أقوال بعض المبتدعة، كاستدلالهم بقول الله تعالى: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) على نفي إكفار الجاهل مطلقا، وهذا القول مع استدلاله لم يسبقهم إليه أحد من السلف، إلا ما كان من بعض المبتدعة كبعض المعتزلة وأضرابهم، بل هؤلاء كانوا أكثر غلوا في هذا الاستدلال، حيث نفوا الكفر عن الكافر الأصلي بسبب عارض الجهل في الدنيا والآخرة، بينما كان أولئك المبتدعة يثبتون كفر هؤلاء في الدنيا، وإنما ينفون الكفر عنهم في الآخرة فقط.
ومن الإشكالات العظيمة في هذا الاستدلال، أنهم يبنونه على فرض خيالي لا يستطيعون إثباته ولو انطبقت السماء على الأرض، وهذا الفرض هو أن هذا الجاهل لم يكن الإيمان في وسعه، مع أن الله تعالى يقول: ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا )( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا )( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا )( وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ).
وعلة هذا الفرض هي نفس العلة في كثير من أحكامهم الجائرة، وقد تقدم شيء منها، وهي أنهم يبنون أحكامهم على علم الله، لا علم أنفسهم هم، كأنهم يرون أنهم قد وصلوا إلى علم الله، فصاروا يتصرفون فيه كما يشاؤون، فيثبتون عجز العاجز عن الإيمان متى شاؤوا، وينفونه متى شاؤوا.
وهذا كله من نتيجة الجدل في الدين، وما يؤدي إليه هذا الجدل من التعمق، والتنطع والمشادة للدين، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه كما قال الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه. وإن الله جلت قدرته لم يكلفهم بشيء بذلك، إنما كلفهم بإجراء الأحكام على ظواهر المحكوم عليه، وفي حدود مبلغ علمهم فقط. وقد قال الله تعالى: ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ). الإسراء (36)
فلو أن هؤلاء وخصومهم من غلاة عدم العذر، وقفوا مع ما سماه الله لهم ورسوله من الأسماء الشرعية، وأنزلوها كما هي على الأنواع والأعيان بحسب ضوابطها وحدودها التي كان عليها السلف الصالح رضوان الله عليهم، ولم يتنطعوا، ولم يجادلوا فيها هذا الجدال الكلامي الفلسفي العقيم المذموم، لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه الآن، ولما اختلفوا وتنازعوا وتفرقوا هذا التفرق الذي هم عليه الآن.
وقد قال الله تعالى: ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ).البقرة (213)
فهذا هو خبر طرفي الغلو هذه المسألة؛ مسألة العذر بالجهل. وبين هؤلاء وهؤلاء، من توسط في هذه المسألة، وهؤلاء لما تقوقعوا في مسألة العذر بالجهل، وقصروا نظرهم عليها، ولم يجاوزوا به إلى أصولها؛ جاء كلاهم في هذه المسألة ضعيفا مترددا، ولذا فإنه وإن كان حقا في مجمله، إلا أنه لم يقوى على جواب من تخبط وانحرف في هذه المسألة، لا من غلا في العذر، ولا من غلا في عدم العذر.
هذا، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ما ضَلَّ قومٌ بعدَ هُدًى كانوا عليهِ إلَّا أوتوا الجدَلَ ثمَّ تلا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ هذهِ الآيةَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. فكل ما تراه هو نتاج الجدل المذموم، وحصاد التشبتت بالارآء والإعجاب بها، والتعصب لها، مما يدفع للالتزام بلوازمها مهما كان جليا بطلان تلك اللوازم.
فمن يقول بالعذر بالجهل، صار يرى من حقيقة الإيمان والكفر التي بناها على العذر بالجهل؛ أن الكافر لا يكفر إلا إذا أراد الكفر وقصده، وأما ما عدا ذلك من أنواع الكفار كالكافر الجاهل، والكافر المعرض، والكافر المقلد، فلا يكفرون عندهم، وكل هذا إمعانا في العذر بالجهل، وتعاطفا مع المرتدين، على حساب شرع الله وحكمه، بل على حساب إيمانهم بأسماء الله وصفاته، وبحكمته وعدله، ونفاذ قضائه وقدره، وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه.
أما من لا يقول بالعذر صار يرى أن حقيقة الإسلام والكفر التي بناها على عدم العذر بالجهل، تستلزم تكفير كل معين منتسب للإسلام إذا بدر منه ما يوجب الردة عن الإسلام، بلا ضابط يضبط هذا التكفير ويحكمه، وبلا مراعاة للمصالح والمفاسد من هذا التكفير، وإن كان بعضهم يسمي هذا التكفير، تكفيرا في الباطن، ويرى أن هذا الكفر لا يوجب وعيدا ولا عذابا، لا في الدنيا ولا في الآخرة!!. وهذا من الأحكام العجيبة التي حدثت لهم بسبب هذا الجدل، وبسبب الإغفال للأسماء والأحكام الشرعية، وهذا كما تجده عند المبتدعة عندما يحدثون أسماء جديدة، بسبب جهلهم بالأسماء الشرعية الصحيحة، كالمنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة.
وكذلك من حقيقة الإسلام والكفر التي نتجت عند غلاة عدم العذر، أنهم يجعلون حقيقة الإسلام هي حد الحكم به، فنقضوا بذلك إجماع المسلمين من أن المنافق يحكم له بالإسلام ظاهرا، وكذلك فإن بعضهم أشرف - بلوازم قوله وشوارد لفظه - على إنكار كفر الردة، بحيث يصير الناس عنده بين كافر أصلي، ومسلم مؤمن فقط، أما أن يقول المكلف لا إله إلا الله معتنقا بها للإسلام، ثم يخالف في أصل معناها بما يجعله مرتدا؛ فهذا صار غير متصور عند غلاة عدم العذر بالجهل.
ولذلك فإنه إضافة إلى إجماع المسلمين على الحكم للمنافق بالإسلام، فإن من النصوص النقلية التي تورد على هؤلاء، لا سيما صاحب كتاب "العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي " ومن تأثر به كالدكتور عبدالله الجربوع وفقه الله؛ أربعة نصوص مهمة:
الأول: ما جاء في البخاري عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قَالَ : بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا : أَسْلَمْنَا ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ : صَبَأْنَا صَبَأْنَا ، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ ، فَقُلْتُ : وَاللَّهِ لاَ أَقْتُلُ أَسِيرِي ، وَلاَ يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَاهُ ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ.
فعلى مذهب غلاة عدم العذر بالجهل لا وجه لتبرؤ النبي صلى الله عليه وسلم من صنيع خالد رضي الله عنه، لأن القوم لا يزالون على حد الكفر، ولم يأتوا حتى باللفظ الصريح الدال على الدخول في الإسلام، فضلا عن الشروط التي وضعها غلاة عدم العذر - كصاحب المجهر- لثبوت اسم الإسلام.
الثاني: قول الله جل وعلا: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ).النساء (94).
جاء في صحيح البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال في تفسير هذه الآية: كانَ رَجُلٌ في غُنَيْمَةٍ له، فَلَحِقَهُ المُسْلِمُونَ، فَقالَ: السَّلَامُ علَيْكُم، فَقَتَلُوهُ وأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ، فأنْزَلَ اللَّهُ في ذلكَ إلى قَوْلِهِ: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94] تِلكَ الغُنَيْمَةُ.
يجوز أن يخالف ما يثبت من رؤية الهلال في أي جهة من الجهات، وإلا كان منتهكا لحرمة الشهر، ومتعديا لحدود الله، ومستهينا بشرائعه وشعائره، بل إن القائل بوجوب اتحادها قد يرتب على ذلك قضاء، إذا فاته شيء من الواجبات التي ثبتت بثبوت اتحاد المطالع، وهذا يختلف تماما عن القول بالاستحباب أو الجواز فقط، وإذا قال بالاستحباب أو الجواز فقط، صار جامعا بين القول باختلاف المطالع واتحادها، ولا يصح أن يقول أنا أقول باتحادها فقط.
وكذلك من يقول باختلاف المطالع، يقال له هل تقول بالوجوب، أي أنه لا يجوز للمكلف أن يعمل باتحاد المطالع، أو بمعنى آخر أنه لا يجوز للمكلف أن يعتمد على ما ثبت في جهة أخرى إذا خالف ما ثبت في جهته، فإذا قال لا أقول بذلك، بل يجوز للمكلف أن يعمل بخلاف ما ثبت في جهته؛ لم يصر هذا قائلا باختلاف المطالع، بل هو يقول بإمكان اختلافها وإمكان اتحادها.
فهكذا مسألة العذر بالجهل، فإن تكفير المعين قد يكون واجبا، وقد يكون جائزا، وقد يكون محرما، فإذا أراد المتكلم أن يعبر عن هذه الأحكام بالعذر أو عدم العذر فقط؛ لم يستطع ذلك، ووقع الخلل والاضطراب في كلامه، فهو كمن يريد أن يضع شيئا عظيما جدا، في كيس صغير جدا، فالكيس الصغير هو العذر بالجهل، والشيء العظيم هو تسمية المعين المنتسب للإسلام كافرا، وهي من عظائم الأمور، ومضائق المسائل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما. وقال: لعن المسلم كقتله، وقال لأسامة بن زيد: كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت تحاج عن صاحبها يوم القيامة.
فلابد إذن من أن تؤتى المسألة من بابها، وتتناول من وجهها الصحيح، ومهما حاول المتعرض لها أن يأتيها من غير هذا الوجه فلن تستقيم له مهما حاول التفصيل والبيان، وسيظل الخلل والنقص في كلامه فيها حتى يأتيها من بابها، وهو باب الأسماء والأحكام، وليس باب العذر، والله تعالى أعلم.
وإن الناظر في الساحة اليوم يرى عبثا شديدا يوشك أن ينتشر ويستفحل، فإن القوم مستمرون على الجدل المقيت المذموم في هذه المسألة، وما أنتجه هذا الجدل من أرآء كلامية، وأقيسة عقلية منفصلة عن الشريعة وأحكامها، سواء عند غلاة العذر، أو عند غلاة عدم العذر، فكل منهم قد وصل في رأيه وجدله هذا إلى أقوال موغلة في الضلال والانحراف.
فتجد بعض غلاة العذر، وقد صاروا إلى نفي الكفر حتى عن الكافر الأصلي إذا كان جاهلا، حتى أوجدوا حكما يشبه حكم المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين، إلا أن هؤلاء جعلوا هذا الحكم للكافر الأصلي إذا كان جاهلا، فيقولون لا نسميه مسلما ولا كافرا، وهذا مبلغ عظيم من الضلال بلغه هؤلاء. وحجتهم في ذلك أنه إذا كان جاهلا كان معذورا، وإذا كان معذورا لم يكن معذبا في الآخرة، وإذا لم يكن معذبا في الآخرة، فيجب أن لا يكون كافرا في الدنيا، إذ لو كان كافرا لكان معذبا في الآخرة. وهذا قياس كلامي جدلي لا يمت للشريعة بصلة أبدا، فهم لا يفرقون بين حكم الله العدل الحكيم سبحانه، وحكم أنفسهم، ويماهون بين الحكمين بطريقة فجة فيها من الجهل بقدر أنفسهم وضئالة علمهم، وحدود قدراتهم ما هو من أهم أسباب ضلالهم وانحرافهم.
ولذلك تجدهم يضعون ضوابط للجاهل المعذور لا يمكن أن يعلم بها إلا الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فتجد من يقول إن الجاهل لا يخرج عن حد الجهل الذي يعذر به، إلا إذا علم أنه على كفر وضلال، ثم أصر وعاند، أما من يرى أنه على حق، لا سيما إذا كان مجتهدا في طلب الحق، ولكنه نظر فلم يقتنع بشيء من الحق إلا ما هو عليه من الشرك وعبادة القبور، أو من التفلسف والقول بوحدة الوجود، وغير ذلك من المذاهب الممعنة في الضلال والعماية؛ فإنه يكون جاهلا، ومعذورا بالجهل أبدا مادامت هذه الشبه مسيطرة على عقله ونظره. وهذه هوة سحيقة في الضلال لا يعلم مداها إلا الله عز وجل.
وكذلك من ضوابطهم النفسية الخفية أن الجاهل المعذور لا يزول عنه وصف الجهل والعذر حتى يفهم الحجة، وتزول عنه الشبهة، حتى في المسائل الضرورية المجمع عليها من دين الإسلام، وحاصل هذا أن لا يكفر أحد حتى يشهد على نفسه بالخطأ والضلال!!، وأن الحاكم بالكفر والردة لابد أن يدخل في نفس من يحكم عليه، وينظر هل فهم الحجة، وزالت الشبهة من عقله أم لا!!
وتخيل معي قاضيا من القضاة على مذهب هؤلاء الغالين في العذر، جيئ له بمرتد ليستتيبه، فإنه سيبدأ ببيان الحق الذي خالفه هذا المرتد، وإيراد الأدلة عليه من الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، ثم سيقول لهذا المرتد، هل فهمت يابني وزالت عنك الشبهة، وحينها سيقول المرتد ما فهمت ولا زالت عني الشبهة، وإذا قال ذلك عصر القاضي ذهنه من جديد، وكد عقله حتى يفهمه الحجة ويزيل عنه الشبهة، وإذا انتهى؛ قال له هل فهمت الآن وزالت عنك الشبهة، فيضع المرتد رجلا على رجل، ويقول له لم تزد الشبهة إلا رسوخا يا أيها القاضي العادل!، وعندها سيعيد القاضي الكرة للمرة الثالثة، وهو يقول في نفسه لو أستطيع أن أدخل في عقلك، فأزيل الشبهة بيدي، أو على الأقل أنظر هل
أصناف الناس في العذر بالجهل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأكملان الأتمان على خاتم النبيين وسيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ فمن خلال التتبع لأحوال الخائضين في مسألة العذر بالجهل، يتضح أنهم صاروا اليوم إلى ثلاثة مذاهب: المذهب الأول يمكن أن نسميه مذهب غلاة العذر بالجهل، والثاني مذهب غلاة عدم العذر بالجهل، والثالث وسط بين هؤلاء وهؤلاء.
أما غلاة العذر بالجهل، فيتجلى غلوهم في نواحي عديدة، نذكر منها هنا: ملازمتهم بين أمور في غاية الانفكاك عن بعضها البعض. من أهم هذه الأمور ملازمتهم بين إقامة الحجة، وبلوغها، فيظنون أن من لم نُقِم عليه الحجة، فهذا يعني أن الحجة لم تبلغه، وهذا خطأ شنيع جدا، فهذا التلازم إذا كان لا يتصور حتى في الكافر الأصلي، فكيف يمكن أن يتصور في المنتسب للإسلام، فإن الكافر الأصلي قد يكون في مكان لم يبلغه المسلمون، وليس لهم فيه دعوة ولا ظهور بحيث يتمكنون من إقامة الحجة على هذا الكافر الأصلي، ومع ذلك فهذا لا يمنع أن تكون دعوة المسلمين قد بلغته بطرق أخرى، وأن أخبارهم قد وصلت إليه، وأنه علم ما يدعو إليه المسلمون، وأنه لو شاء أن يصدق به لصدق به وآمن، وهذا يبين أنه لا تلازم بين إقامة الحجة وبلغوها، حتى في الكافر الأصلي، فمثل هذا الكافر قد لا يبادَر بالقتال من قبل المسلمين حتى يدعى إلى الإسلام، وهذا إعذار له بسبب عدم إقامة المسلمين الحجة عليه، ولكن هذا لا ينفي بلوغها له في نفس الأمر.
وإذا كان هذا في الكافر الأصلي، فهو في المنتسب للإسلام أظهر وآكد، لأنه يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ويؤمن بالله وبكتابه، مما يوجب عليه أن يعمل بمقتضى هذه الشهادة، وبموجب هذا الإيمان، وأن يطلب علم ما أمره الله به في هذا الكتاب العظيم، وإذا كان كذلك فإن عدم إقامة الحجة عليه، لا يعني عدم بلوغها له البلوغ الذي تقوم به حجة الله عليه في الآخرة، وقد قال الله تعالى: ( رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا )
النساء (165). أما رفع اسم الإسلام عنه، أو إثباته له، فهي مسألة أخرى منفصلة عن بلوغ الحجة له، وثبوتها عليه، من عدم ذلك.
ثم إن هذا التلازم الذي عقدوه بين إقامة الحجة وبلغوها؛ قادهم إلى متلازمة أخرى، وهي الملازمة بين عدم إقامة الحجة، وبين الجهل الذي يعذر به صاحبه، فيقولون إن كل من لم نُقِم عليه الحجة، فهو جاهل، وإذا كان جاهلا فهو معذور، وإذا كان معذورا فلا يجوز تكفيره، وهذا التلازم خاطئ بلا ريب، فلا يلزم من عدم إقاماتنا للحجة، أن يكون جاهلا الجهل الذي يعذر به.
وهذا كما يكون في المنتسب للإسلام الذي لم نُقم عليه الحجة، فهو كذلك في الكافر الأصلي أيضا، إلا ما كان من شأن أهل الفترة وكلام الناس فيهم، وقد كره بعض السلف: كابن عباس، ومحمد بن الحنفية، والقاسم بن محمد، وغيرهم الكلام في هذه المسألة، ولعل من أسباب كرههم لذلك أن الخوض في هذه المسألة قد يؤدي إلى خلخلة أصول الأسماء والأحكام، وإثارة الشبه حولها، كما هو واقع الآن للأسف الشديد. وقد جاء في الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لبعض أصحابه: حيثما مررت بقبر كافر فبشره النار، وقال للذي سأله: أين أبي؟ قال: في النار، وفي رواية أنه قال له إن أبي وأباك في النار، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يؤذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت. فمن الفوائد العظيمة التي تفيدها هذه النصوص؛ تثبيت الأسماء الشرعية العظيمة وأحكامها وتأصيلها، وترسيخها في النفوس، وحفظها من التمييع والتضييع كما هو واقع اليوم من غلاة العذر بالجهل.
ثم إن قولهم بعدم جواز تكفير المعين المنتسب للإسلام قبل إقامة الحجة، - وهو أبرز أقوالهم التي يجتمعون عليها -، إنما هو بناء على فهمهم المغلوط لمعنى إقامة الحجة، الذي يخلطون فيه بين قيام الحجة في نفسها، وبين إقامة المسلمين لها، وإذا أردنا أن نعبر عن قولهم تعبيرا صحيحا، فيجب أن نقول عنهم أنهم يقولون بعدم جواز تكفير المعين قبل الدعوة والاستتابة، وهذا حكم خاطئ بلا أدنى شك، ويشبه أن يكون إجماعا من المسلمين، أن من أظهر الشرك والكفر البين الظاهر المجمع عليه، حتى تيقنا تماما بكفره، يجوز أن يسمى كافرا حتى قبل الدعوة والاستتابة، لا سيما إذا كان لا يمكن أن يوصل إليه، لكي يدعى ويستتاب، وكذلك إذا كان مع ذلك داعية لهذا الكفر والشرك الذي ينسبه زورا وبهتانا وضلالا إلى دين الله.
ومع أن العالم صار كالقرية الواحدة بسبب وسائل التواصل الإلكتروني، إلا أن المتكلم بالعلم اليوم يشعر كأنه منقطع في فلاة، يصيح فيها بأعلى صوته، فلا يكاد يجد مجيبا، وما هذا إلا من انصراف قلوب أكثر الخلق عن العلم، وزهدها فيه، وامتلاء تلك القلوب بالأمراض المهلكة، نسأل الله السلامة والعافية.
وبعض طلبة العلم ينظر إلى مسائل العلم، كما ينظر الناظر إلى التحف المحبوسة في المتاحف، حتى إذا قضى وطره من النظر فيها، ولاها ظهره، وخرج عنها، غير مبال بما لله فيها من حق عليه: من تراجع عن خطأ إذا تبين له، أو من إعانة أو تصديق، أو نصح وإرشاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر، أو غير ذلك من الحقوق التي تعلقت به إزاء ما بلغه من العلم، ولعل الشيطان والنفس الأمارة بالسوء تظهر له هذا الإعراض والتولي، في صورة حسنة من النصح لله ولرسوله ولكتابه وللمسلمين، فهذا حين يصبح المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، وهذا حين ترى شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه!.
ثم إن هذا الرد كان موجها للمجهر الشرعي بالأصالة، لا للدكتور الجربوع، وهذا أيضا مما يبرر المبادرة به، قبل معرفة جواب الدكتور عن الملف الأول، وإذا كان كذلك؛ فليتصدق الدكتور بما قد يشعر به من شدة في هذا الرد، وهو غير متعمد إن شاء الله، وليحتسب ذلك عند الله، في سبيل بيان الحق للمؤمنين، ولا يكن كمن عزت عليه نفسه الأمارة بالسوء، حتى أهان العلم لأجلها، والله المستعان، ولا حول ولاقوة إلا بالله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأكملان الأتمان على خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ولعمر الله فإن هذا هو الأرشد والأنجح في هذه المسألة، فهي مسألة قليلة الغناء، كثيرة العناء، مجدبة الطريق من الأدلة، وإذا كنا نجزم أن أمرهم في الآخرة إلى الله، ونؤمن أن الله هو العدل الحكيم سبحانه، فإن البحث في شأنهم بعد هذا، مع قلة أدلته النقلية؛ تجشم وكد في أمر قليل الفائدة والله تعالى أعلم.
فكيف بمن يبني على هذه المسألة؛ هذا التقسيم المحدث المبتدع للشرك، ويجعل الشرك نوعان: نوع يعذب عليه، ونوع لا يعذب عليه!، ويقول إما بلسان حاله، أو بلازم مقاله، أن الله لا يعذب من يشرك به الشرك الأكبر، وهذا قول باطل عاطل، وهو شر من العذر بالجهل، لو كانوا يعقلون، ولو كان الأمر بهذه البساطة في التأصيل، لما تباحث السلف في شأن أهل الفترة، واختلفوا في حكمهم.
والملفت أن الدكتور الجربوع قد يكون أكثر ترديدا لهذا التقسيم، فكأن الفكرة نمت عنده أكثر من نموها عند صاحبها الأول، حتى أنه مرة يسمي النوع الأول بالكفر في الباطن، والثاني بالكفر في أحكام الوعيد والعذاب.
وهذا اصطلاح غريب عجيب، فإن الناس لا يعرفون الكفر في الباطن إلا كفر النفاق، ولا يصح أن يقال إن المنافق سالم من العذاب في الآخرة، وإن كان قد يسلم منه في الدنيا، ويدخل في هذا كل من يكون كافرا في أحكام الآخرة، دون أحكام الدنيا، فيصح أن يقال عن كل هؤلاء أنهم كفار في الباطن، لا في الظاهر، أي أنه لم يطلع على كفرهم أحد إلا الله، فكانوا من المسلمين فيما يظهر للناس، وربما حتى فيما يعتقدونه هم عن أنفسهم، ويكونون في حقيقة أمرهم كفار عند الله، وهؤلاء معذبون على كفرهم وشركهم هذا بلا شك ولا ريب في ذلك، وهذا هو أصل كفر النفاق، وهذا ما يفهم من الكفر في الباطن، وهو معنى ما يردده الدكتور الجربوع على لسان شيخ الإسلام، عندما يقول شيخ الإسلام عن شخص ما، إما معينا أو غير معين، أنه "قد يكون كافرا في نفس الأمر" أي أنه يكون كافرا في أحكام الآخرة، ثم إن حكمنا عليه بالكفر في الدنيا مسألة أخرى. وعليه فلا يصح بحال من الأحوال أن يجعل هذا النوع قسيما للكفر الذي تجري عليه أحكام الوعيد والعذاب.
وهذا التقسيم الجديد العجيب للكفر، من الصور التي جمع فيها هؤلاء بين المختلفات، وفرقوا بين المتشابهات، فإن الجمع بين عذاب الآخرة وعذاب الدنيا في نوع واحد، ثم جعل هذا النوع قسيما لنوع آخر، هو الشرك في الباطن، أو الكفر والشرك الذي لا يستوجب الوعيد والعذاب؛ خلط شنيع فضيع، فيه من الضلال ما الله به عليم.
ولذلك تجد الدكتور الجربوع لا يفرق بين عذاب الدنيا القائم على حكم بشري قاصر، وبين عذاب الآخرة القائم على كمال علم الله وعدله عز وجل، بل يفهم من بعض كلامه وإطلاقاته أن العذاب في الآخرة مشروط بحكم القاضي البشري في الدنيا!!، وأنه ما لم يحكم القاضي في الدنيا فإن هذا المشرك باق في عداد القسم الأول من المشركين، وهم المشركون في الباطن، أو المشركون الشرك الذي لا وعيد عليه وعلى عقاب، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا منكر من القول وزورا.
ومع أن الظن بالدكتور الجربوع أنه لا يعتقد مثل هذا الاعتقاد الفاسد، ولا يقصد القول به، ولكن أوقعه فيه سوء التعبير مع الاضطراب الذي تولد عنده من النظر في المجهر!، فصار الدكتور الجربوع يفصل ويقسم في غير مورد التقسيم، وقد يكون تقسيمه هذا باطلا في نفس الأمر، ويطلق ويجمل في الموارد التي تحتاج إلى التفصيل والتقسيم، كالتفريق بين وعيد الدنيا وعذابها، ووعيد الآخرة وعذابها، وهذا من أهم الموارد التي يجب التفصيل والبيان فيها، فليس من لازم الحكم لمعين بالإسلام في الدنيا، أن يكون كذلك في الآخرة، وكذلك ليس من لازم حكم القاضي أو غيره من الحكام على معين بالردة أن يكون حكمه في الآخرة كذلك، بل الآخرة شأنها شأن آخر، نسأل الله أن يزيننا بزينة الإيمان، ويثبتنا عليه حتى نلقاه.
هذا، ولو تأمل الدكتور الجربوع في حقيقة قوله، لوجده يتوافق مع من يقولون بالعذر بالجهل، بل مع غلاتهم الذين يقولون إن الذي يقع في الشرك الأكبر الغليظ، قد يعذر في الآخرة، ويقيسونه على الجاهل العاجز كالذي يعيش في بادية بعيدة، وعلى أهل الفترة وغيرهم، مع أن هذا مسلم، وله علم بالقرآن والسنة، ويعيش بين المسلمين، ولعل أخبار الدعاة إلى الله، وإلى التوحيد تطرق أسماعه صباح مساء، لا سيما بعد ظهور دعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب طيب الله ثراه، وانتشار أخبارها في أصقاع الأرض، فإذا كان مثل هذا لا يعذب في الآخرة على شركه - كما يقول الدكتور الجربوع - فلا شرك إذن ولا عذاب!!.
بل لو قال قائل إن الدكتور الجربوع يزيد على غلاة العذر بالجهل لما كان هذا بعيدا، حيث يفهم من بعض كلامه القطع بعدم العذاب على هؤلاء، وليس مجرد احتمال العذر لهم، وهذا أشنع من ترديد القول فيهم، بين إمكان أن يعذروا، وعدم ذلك، مع أن القائلين بالعذر بالجهل في الآخرة، قد يكون مقصودهم تفويض أمر هؤلاء في الآخرة إلى الله، وهذا هو الصحيح، وهو الأنجح في أمرهم، أي الإمساك عن ذكر تردد أمرهم بين العذر وعدمه، مع
فيه أفكار الخوارج ومناهجهم، إلا أن الدكتور الجربوع زاد هذه الأفكار غموضا وتشوشا واضطرابا بعرضه السيء لها، ولعل أصل مذهب السنة الذي عليه الدكتور الجربوع هو الذي أدى إلى هذا التشوش، والغموض الذي عرض به الدكتور الجربوع هذا المذهب الهجين، وقد اجتهدت أن أفهم مذهبا متكاملا منتظما من كلام الدكتور الجربوع، فلم أقدر على ذلك، حتى صرت أشك أن الدكتور الجربوع نفسه لا يفهم مذهبه في العذر بالجهل فهما صحيحا.
فإنك عندما تستمع للدكتور الجربوع يبدو لك من الوهلة الأولى، أنه يريد منا أن نعتقد كفر كل معين من المنتسبين للإسلام ممن يصدر منه الشرك الأكبر، فإذا أردت أن توافقه على هذا التكفير، إذ به يكرّ على هذا الكفر، ويطلب منا أن نعتقد لهؤلاء الكفار بإسلام ظاهر، حتى يحكم القاضي على هذا المعين بالكفر، ومع أن تقييده هنا للحكم على المعين بالكفر بحكم القاضي فقط؛ تقييد خاطئ، فالتكفير حكم شرعي يقوم به كل من وجدت فيه الأهلية لذلك، قاضيا كان أو غير ذلك، إلا أن القتل وما يتبعه كالحجر على ماله، وما أشبهه من الأحكام، هو المختص بولي الأمر، ونوابه، من القضاة، ومن في حكمهم.
إلا أن الإشكال الأبرز هنا، أن هذا يتعارض مع ما ردده الدكتور من أفكار صاحب المجهر، من أن عدم الإتيان بالمعنى المجمل لشهادة التوحيد؛ ينفي صحة الإسلام من أساسه، وأن من نطق بالشهادتين لا يتصور منه مخالفتها، لأنه لا يتصور منه الجهل بمعناها المجمل وهو قد نطق بها، وبالتالي لا يتصور الجمع بين الإسلام والشرك، لأنه لا يتصور النطق بالشهادتين مع الجهل بمعناها، وإذا كان كذلك لا يمكن أن نحكم لهذا المشرك بالإسلام، لا إسلام ظاهر، ولا غيره، لأن هذا المشرك لم يصر مسلما أبدا، فهو ومن لم ينطق بالشهادتين على حد سواء، وهذا بناء على تقرارات صاحب المجهر التي تأثر بها الدكتور الجربوع، وأدت إلى تخبطه واضطراب مذهبه في العذر بالجهل.
ثم من الإشكال أيضا: ما فائدة اعتقاد كفر كل معين، إذا كنا نشهد له مع ذلك بالإسلام، لا سيما والفرق ثابت بين الشهادة بحكم الإسلام، والشهادة بالإيمان، وألا يكفي شرعا أن نعتقد كفر هذه الأنواع بالإطلاق والعموم، ونمسك عن تكفير المعين، حتى يتأتى لنا تكفيره بيقين لا شبهة فيه، ولا معرة على المسلمين منه!.
هذا يبين أن الدكتور الجربوع لا يستوعب الفرق بين تكفير النوع وتكفير المعين استيعابا جيدا، ولذلك تخبط كل هذا التخبط، وظن أن من لا يوافقه في مذهبه الغامض، خالفوا ملة إبراهيم، التي هي شريعة ظاهرة بينة لا خفاء فيها، ولا غموض، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك؛ وظن أنهم لا يتبرؤون من المشركين، وأن ملة إبراهيم لا تقوم في المدعي لها حتى يكفّر المنتسبين للإسلام ممن يظهر منهم الشرك الأكبر، أو الردة الظاهرة تكفيرا عاما لكل معين منهم، وإن تخبط الدكتور الجربوع نفسه في طريقة إيقاع هذا التكفير، ولم يستطع إيضاحه، لي شخصيا على أقل تقدير!.
ومن تخبطه أنه مرة يطلق هذا القول، ومرة يقيده بأن من تحقق من أن هذا المشرك بحسب تعبيره، غير مكره، وجب عليه أن يكفره بعينه، ومرة يقيده بأن لا يكون هذا المشرك جاهلا بالمعنى، فإذا علم أنه ليس جاهلا بالمعنى وجب عليه أن يكفره بعينه، وهكذا، حتى صار مذهبه في غاية الغموض، ولم نعد ندري ماذا يريد الدكتور الجربوع، هل يريد تكفير المعين بالعموم والإطلاق، أم يريد من كل مكلف أن يتتبع كل معين من المنتسبين للإسلام ممن يظهر منهم الشرك، فينظر هل فيهم من هو مكره، أو من هو جاهل بالمعنى، فإذا وجد من هو كذلك استثناه من اعتقاد كفره في الباطن، ثم اعتقد كفر سائرهم بأعيانهم، وهذا إلزام عام على جميع المكلفين من الموحدين، إذا أرادوا أن يكونوا على ملة إبراهيم، فإذا لم يجدوا من هو مكره، أو جاهل بالمعنى، فإن مذهب الدكتور الجربوع يوجب عليهم أن يكفروهم جملة واحدة، بأعيانهم، فردا فردا، فليت شعري من يقدر على ذلك يا دكتور، وهل حققت هذا أنت بنفسك، وهل تعلم أسماء كل هؤلاء المرتدين المشركين واحدا واحدا، حتى صح منك اعتقاد كفرهم في الباطن، والبرآءة منهم حتى صرت حنيفا على ملة إبراهيم. أم أن الدكتور الجربوع يريد بمذهبه هذا شيئا آخر لا نفهمه!.
وليس هذا هو نهاية مذهب الجربوع العجيب، فهو بعد أن طلب منا أن نكفر كل معين منتسب للإسلام تصدر منه ردة ظاهرة، هذا بتعبيرنا، وبتعبيره هو: أن نكفر كل مشرك، ثم نحكم لهذا المشرك بإسلام ظاهر؛ فعاد هو للجمع بين الإسلام والشرك، وإن كان إسلاما ظاهرا، مع أنه تهكم على خصومه بسبب ما ظنه من جمعهم بين الإسلام والشرك. وهذه أيضا من آثار المجهر على الدكتور الجربوع، وهي عند الشيخ فركوس أيضا، كما في الفتوى المشار إليها في أول المقال.
وهذه العناوين تكشف لك القضيتين الأساسيتين اللتين دار عليهما هذا الكتاب، وكانتا محور انحراف صاحب الكتاب ومن تأثر به، عفا الله عنه وعنهم؛ ألا وهما: عدم التفريق بين الكافر الأصلي، وبين المرتد، والثانية: مخالفة ما أجمع عليه المسلمون من أن الدخول في الإسلام لا يقف إلا على النطق بالشهادتين، كما في المقولة العظيمة التي نقلها إمام جليل من أئمة الهدى، وهي قول الزهري رحمه الله "كانوا يرون أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل"
وإذا علمت أن هاتين القضيتين اللتين بنى عليهما صاحب المجهر كتابه: باطلتان، فاسدتان، منقوضتان بإجماع المسلمين، وأن ذكرهما يغنى عن الرد عليها؛ كان هذا كافيا في الرد المجمل على هذا الكتاب، وعلى كل من تأثر به، ولم يحتج المنصف المنقاد للحق إلى أي شيء آخر، فصاحب المجهر قام في وجه إجماع المسلمين قياما عجيبا فيه من الجرآءة والتهوك وسقامة الفهم وغلظه الشيء الكثير!
وقد أجرى صاحب الكتاب هذا القيام والخروج؛ بناء على الخلط بين مفاهيم ومصطلحات عدة، تشتبه هذه المفاهيم من بعض الوجوه، وتختلف من وجوه أخرى، فجاء الرجل فجمع بين المختلفين منها اتكاء على القدر المشترك بينهما، وفرقَ بين المتوافقين منها اتكاء على القدر المختلف بينهما، ليتم له هذا المذهب الذي أراد به - إما بقصد أو بغير قصد - أن يقول بمذهب الخوارج على لسان أئمة أهل السنة كالإمامين: ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، وكأئمة الدعوة النجدية المباركة رحمهم الله جميعا، بل وعلى لسان الأئمة المتقدمين، كابن جرير الطبري وغيره، فجاء مذهبه برزخا بين مذهب أهل السنة وبين مذهب الخوارج، ولذلك تجد في هذا الكتاب مشابهة كثيرة لمنطق الخوارج، وأفكارهم، وأنت تستطيع أن تلاحظ هذا الشبه من مجرد العناوين الآنفة الذكر، وما شابهها من العناوين التي جاءت في فهرس الكتاب.
ومن الملاحظ كذلك على هذا الكتاب، أن مصطلح الشرط قد تردد كثيرا، حتى في مجرد الفهارس، ولذلك فإتماما للفائدة ينبغي التعقيب على هذا الإفراط في الاستعمال لهذا المصطلح المنطقي، فيقال: إن هذه المصطلحات كمصطلح الشرط، والركن، وما إلى ذلك؛ مصطلحات منطقية اصطلاحية، وضعت لتقريب فهم الأحكام الشرعية، فلا يصح منها إلا ما يتوافق مع الأحكام الشرعية، ثم إذا استبانت لنا الأحكام لم نحتج للوقوف مع هذه المصطلحات بعد ذلك.
ويمكن أن تتبين كيف يمكن أن يؤدي الغلو في هذه المصطلحات ومجاوزة الحد في مراعاتها إلى اللبس والغلط، وذلك بالنظر في الخلافات والشذوذات التي حصلت في مسائل الإيمان والإسلام، كمن يقول - كالأشعرية وغيرهم - إن العمل شرط كمال لا شرط صحة، ويقابله من يقول إنه شرط صحة لا شرط كمال، أو من يقول: إنّ من الأعمال ما هو شرط صحة، ومنها ما هو شرط كمال، وكل هذه الأقوال من الأقوال المجملة الموهمة التي تحتمل حقا وباطلا.
فانظر كيف أدى الشطط في استعمال هذه المصطلحات إلى الاشتباه والإيهام، في حين أن هذه المصطلحات كانت موضوعة إلى زيادة البيان وتقريب المعاني والأحكام. وأرجو لا يتحامق أحد فيفهم من هذا الكلام أننا ندعو لطرح استعمال هذه المصطلحات؛ فالغرض هو مجرد التنبيه على وجوب مراعاة الأحكام والأسماء الشرعية عند استعمال هذه المصطلحات، والغرض الأكبر هو بيان ما حصل بسببها من اشتباه في باب الإيمان والإسلام.
وإذا تقرر هذا، تبين لك حجم الإجمال المؤدي إلى اللبس، بل وإلى الانحراف؛ الذي تحمله بعض عناوين المجهر الشرعي، كقوله:
-الانخلاع من الشرك شرط في تحقيق الإسلام. ٦١.
-العلم بقبح وحرمة الشرك شرط في التوبة منه. ٦٦.
-إفراد الله بالحكم شرط في تحقيق الإسلام.
-العلم شرط في صحة الشهادة. ٧٨.
-اليقين والعمل بمقتضى الشهادة شرط في صحتها. ٨١.
-شروط عصمة الدم والمال. ٨٣.
-كلمة التوحيد تعصم قائلها بشرط البراءة من الشرك. ٨٥.
- شروط عبادة الله. ٩٤.
-الفرق بين اشتراط العلم عند أهل السنة وعند المتكلمين ٩٨.
-المعرفة والنطق شرطان في النجاة. ٩٩.
-التوحيد شرط صحة في إسلام العبد. ١٠٧. (ولاحظ هنا أن هذا يؤدي إلى الدور؛ حتى لا يُعلم الشرط من المشروط، حيث جعل التوحيد شرطا في الإسلام الذي شرطه النطق بالشهادتين، التي من شرطها عنده الإتيان بالتوحيد كاملا!!)
-إلتزام أحكام الإسلام شرط في قبوله. ١٠٩.
-التوحيد بالقول والعمل شرط في تحقيق النجاة. ١١٥.
- توحيد الله والإيمان به وبرسله واليوم الآخر مع العمل الصالح شرط النجاة من العذاب. ١١٦ (هذا العنوان إن قاله سني فهو صحيح، وإن قاله خارجي فهو باطل، حيث أن السني يحمله على الإيمان الواجب، بينما يحمله الخارجي على مطلق الإيمان، وما أورده المؤلف تحت هذا العنوان لا يتميز منه بوضوح؛ الفرق بين المذهبين، إما لأنه هو نفسه لا يفرق بينهما، وإما أنه لم يجلي الفرق بينهما بوضوح لأمر في نفسه).
شبهة، فتعالوا فاقتلوني!!.
وهذا كما تجده في بحث له بخصوص هذه المسألة، بعنوان "الأصول التي ترجع إليها مسألة العذر بالجهل" وهو مطبوع في دار النصيحة، بالمدينة النبوية، عام ١٤٣٧هجري.
أما تأثره بأفكار صاحب المجهر، فقد جاء في مواطن من الكتاب المذكور، منها قوله تحت عنوان " من ثبت له أصل فلا يعدل عنه إلا لمقتضى دليل شرعي"؛ قال:
"الأصل فيمن ثبت له الإسلام: الإسلام؛ لنطقه بالشهادتين وإتيانه بالمعنى المجمل...".
فقوله وإتيانه بالمعنى المجمل، زيادة منكرة جدا، على ما أجمع عليه المسلمون من أن شرط الدخول في الإسلام هو النطق بالشهادتين فقط، حتى لو قالها الكافر في الحرب، والسيف على رأسه، لم يجز قتله، كما في قصة أسامة بن زيد المشهورة، وقد تقدمت، وحتى لو قالها المنافق الذي نعلم يقينا نفاقه، وجب علينا أن نقبل منه ما أظهر لنا، ونكل أمره إلى الله، حتى يظهر منه ما يوجب خلاف ذلك.
وهذه الزيادة المنكرة، هي من صميم أفكار صاحب المجهر التي بثها في كتابه، ولا أعلم - على قلة اطلاعي وتتبعي- أنها أثرت عن أحد قبله، (إلا أن يكون أحدا أو فرقة من فرق الخوارج )، لذلك غلب على ظني أن الدكتور النجار وقع فيما وقع فيه الدكتور الجربوع والدكتور فركوس من التأثر بصاحب المجهر.
فهذه الفكرة إنما تسربت إلى الدكتور النجار من المجهر الشرعي!، أو ممن أخذها عن المجهر، إلا أن تكون أفكارهما قد تطابقت مصادفة، حتى تواردا على هذه المحدثة دون أن يكون أحدهما قد أخذ عن الآخر، وهذا مستبعد جدا، لا سيما وأن أفكار المجهر وتقريراته ظهرت في مواطن أخرى عند الدكتور النجار.
أما هذه الفكرة بعينها، فقد رددها النجار في مواطن من بحثه، كما في قوله: "ومناط هذا الأصل: فيمن ثبت له عقد الإسلام، وأتى بالشهادتين، وحقق معناها المجمل، وأما من لم يثبت له عقد الإسلام فإنه لا يدخل تحت هذا الأصل، ولا يعذر بحال في أحكام الدنيا".
وهذا كلام خطير، يشعر أنهم يعتبرون من نطق بالشهادتين، ثم خالف في شيء من معناها المجمل؛ يكون كافرا كفرا أصليا، لم يصح له حكم الإسلام أبدا!. وهذا يشابه مناهج الخوارج في التكفير.
ومن المواطن التي ردد فيها هذه الفكرة المحدثة أيضا، قوله في مقدمة الكتاب، معددا المسائل التي زعم أن أهل السنة متفقون على عدم العذر فيها، قال:
٥- عدم العذر بالجهل في مجمل معنى الشهادتين، وهو ما يتعلق بمعرفة الله بما يختص به عن غيره؛ حتى لا يكون عابدا لغيره، وأصل العبادة، وأصل إفراده بها، وما يتعلق بمعرفة الرسول بما يختص به عن غيره؛ حتى لا يكون متبعا لغيره، وأصل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وهذا أمر مهم، فمناط العذر بالجهل المعتبر متعلق بتفاصيل كلمة التوحيد لا بمجملها. فكل مسألة في الدين تدخل في المسائل التي قد تجهل ويكون صاحبها معذورا إلا المسائل:
١- التي تنافي الإقرار المجمل بالشهادتين، كالجهل بالله، أو برسوله صلى الله عليه وسلم، أو تجويز أن يعبد غير الله، أو أن يكون هناك رسول مع النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك.
ثم قال معللا لما سبق: وسبب عدم العذر هنا: أنه لم يدخل في الإسلام أصلا، ولم يأت بالقدر المجزئ من شروط لا إله إلا الله" اه.
والحق أن هذا التقعيد - مع خطورته - فإنه لا يمت للشرع، ولا للواقع بصلة، ولو اعتبرنا مذهب الكاتب في العذر بالجهل بهذا الكلام، لقلنا إنه من أشد الغالين في عدم العذر بالجهل، وهذا يتناقض مع ما قرره بعد ذلك في بحثه، مما يدل على أنه في غاية التساهل في العذر بالجهل، حتى إنه يفهم من كلامه أنه لا يكفر المصر على كفر، إذا استتيب ولم يتب؛ حتى تزول عنه الشبهة، أما كيف نعلم أن الشبهة قد زالت عنه أو لم تزل، فهذا ما لم يتطرق إليه الكاتب، وهذا ما يؤكد أنه - عفا الله عنا وعنه - ينظر تنظيرا أجوفا لا أكثر!
والملاحظ على الدكتور النجار في بحثه هذا، وغيره من بحوثه المنشورة على قناته على التلغرام، أنه يكثر من هذا التنظير الذي يوزع فيه المفاهيم الفقهية والأصولية يمنة ويسرى، دون أن يكون في هذا التنظير تحقيق أصيل يمكن للقارئ أن يصل فيه إلى شيء ذي بال.
وكذلك فإن هذا التنظير غير المنضبط يوقعه في اضطراب وتناقض شديدين، فمثلا ما أورده في الأصل الثاني، من أصوله الستة التي أرجع إليها مسألة العذر بالجهل، وهو الأصل الذي وصفه بقوله: "العبرة بتحقق الوصف المناسب المؤثر في الشخص لا بالنظر إلى نوع المسألة وقوتها": ما أورده من كلام تحت هذا الأصل كله، ينقض تماما المسألة الخامسة من المسائل التي زعم في مقدمة كتابه، أن أهل السنة متفقون على عدم العذر بها، وقد تقدم نقلها عنه، بل قد ينقض هذه المسائل كلها، ولو فصلنا بين المقدمة وبين الأصل الثاني ثم عرضناهما على قارئ لا يعلم أن الكاتب شخص واحد، لقال إن كاتب المقدمة على رأي معارض لكاتب الأصل الثاني، ولا يتفق معه أبدا، وهذا تناقض شديد لا يحتمله بحث كهذا، بل لا يقبل في أي بحث مهما كان موضوعه، ولهذا التناقض نظائر أخرى.
نسخة تحتوي الفصل الثاني وهو يتعلق بمسألة العذر بالجهل، وهي مسألة مهمة جدا، أدت إلى فرقة واختلاف كبيرين بين المنتسبين إلى السنة، نسأل الله أن يصلح أحوالنا جميعا، وأن يجمع كلمة المنتسبين إلى السنة جميعا على الحق، إن ربنا سميع الدعاء
Читать полностью…عندها لهذا للزبون، وبما أن الزبون دائن لها بحسابه الجاري عندها، تخصم المصارف من حسابه القيمة التي اشترت بها الدولار لصالحه.
وهذه الوكالة بهذا الوجه تخرج الزبون من إشكالية التقابض الحكمي تماما، وتجعله في سعة من أمره، متى شاء قبض الدولار، وذلك بسحبه عبر هذه الآلات، وهي كذلك لا تحتاج إلى نموذج كما جاء في الاقتراح، بل نفس النموذج الإلكتروني الذي تتعامل به المصارف الآن كاف في هذا، مع تعديل بسيط، يثبت أن هذا الطلب الذي يطلبه الزبون هو توكيل بشراء العملة الأجنبية.
وتبقى إشكالية التقابض الحكمي قائمة بين المصرف التجاري والمصرف المركزي، وبإمكانهم حلها لو أرادوا.
هذا؛ والله تعالى أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
تعليق على فتوى
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد اطلعت على فتوى حديثة فيما يبدو، وهي لأحدهم في ليبيا، وقد خلط في فتواه هذه، أمرا جيدا، بآخر لا أستطيع أن أقول أنه سيء، ولكنه خطأ، أو محل نظر كبير، فرأيت التعليق على هذه الفتوى؛ تنويها بالأمر الجيد، ومباحثة ومذاكرة في الأمر الآخر. ولولا أن لصاحب الفتوى مواقف مخزية لذكرته باسمه، فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلاه به، ونسأله سبحانه أن يديم فضله علينا، وأن يسترنا بستره الجميل، وأن يتوب علينا وعليه إنه هو التواب الرحيم.
أما الأمر الجيد في هذه الفتوى، - وهي تتعلق بمعاملة شراء الدولار - فهو قوله إن الخصم للعملة الليبية لا يتم في آن واحد مع الإيداع والشحن للعملة الأجنبية، وهذا هو الذي يشترطه من يقول بالتقابض الحكمي، وبما أن هذا التقابض الحكمي لم يعد موجودا - حيث إن المصارف صارت تحجز على العملة المحلية وتخصمها من حساب المشتري، ثم يظل المشتري زمانا ينتظر الشحن لبطاقته بالدولار - فقد قال صاحب هذه الفتوى إن المعاملة لم تعد جائزة بهذه الصورة.
وللأسف الشديد فإن من أفتى بجواز هذه المعاملة في السابق، كان معتمدهم هو هذا التقابض الحكمي، ومع ذلك بإستثناء هذه الفتوى، لم نر أحدا منهم برأ ذمته أمام الله، وخرج على الناس وقال لهم إن الذي كنت أفتيكم به لم يعد يحل لكم، وإن المصارف لم تعد تلتزم بما ادعته من إجراء التصارف الحكمي في آن واحد.
وهذا يدلك أن كثيرا ممن كان يفتي في هذه المسألة، كان غرضه تحليلها، وإباحتها للناس بأي طريق، ولذلك لما استقر الأمر على ذلك، لم يعد يهمهم ما يجري في هذه المعاملة، وهل تستمر المصارف في التقيد بالشروط والضوابط أم لا، إنما كان غرضهم هو الوصول إلى الحكم بالجواز، وقد وصلوا إليه، فلم يعد التطبيق العملي يعنيهم في شيء، فما أشبهم بمن قال السلف فيهم "يخادعون الله كما يخادعون الصبيان".
هذا، وإن بعض الناس يظن إن الإباحة والتساهل في التجويز في مثل هذه المعاملات، هو من التيسير على الناس، ورفع الحرج عنهم، والمنع منها، من التضييق والتشديد عليهم. ويظنون أيضا أن من يقول بالمنع، فإنه لا يمكن أن يقول بالجواز في الحالات المعينة التي تستدعي ذلك، كحالات الضرورة، وما أشبه، وهذا من قصر نظرهم، زائدا على عدم تقيدهم بالنصوص الشرعية، وأخذ الأحكام بالهوى والتشهي، الذي يلبسونه زورا ثوب مراعة المقاصد، أمران وقع منهما بلاء عظيم علينا في ليبيا، والثاني هو الأشد والأنكى.
ولذلك، فعلاوة على أن القول بالمنع، هو الموافق للنصوص والأحكام الشرعية، فهو أيضا المؤدي إلى التيسير الحقيقي على الناس، ورفع الحرج عنهم، وذلك أن من مصلحة الناس التي يمكن أن يقال إنها من الضروريات لمعاشهم، هو استقرار النقود التي هي عصب الاقتصاد، وعدم ارتفاعها وانخفاضها بهذه الوتيرة التي نراها اليوم. وهذا الاستقرار من أهم مقاصد تحريم الربا وحِكمه.
فلو مُنع الناس من هذه المعاملة، وزُجروا عنها بأبلغ الزجر، حتى تقررت حرمتها في نفوسهم، وتصورتها في أشبع الصور، التي تنفر منها طباعهم، وتشمئز منها نفوسهم، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: الربا سبعون حوبا، أدناها كأن يأتي الرجل أمه، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
لو قُررت هذه المسألة بهذا التقرير، لظلت أسعار هذه النقود على شيء من الاستقرار، ولم تكن تتعرض لمثل هذه الهزات العنيفة التي هي أضر شيء على الاقتصاد، وعلى أموال الناس، ومعائشهم، وبيعهم وشرائهم، ولما وقع ما نراه اليوم من هذه الفوضى العارمة، وتكالب الناس الشديد على هذه المعاملة، حتى من لم يكن بحاجة إليها مطلقا، بل أكثرهم لا حاجة لهم بها، بل غرضهم هو المضاربة، والتربح من فرق السعر بين سعر المصرف، وسعر السوق السوداء، وهو محض الربا والقمار.
فلو استقرت هذه الأحكام في نفوس الناس على هذا النحو، مما يؤدي إلى استقرار النقود على نحو ما ذكر أيضا، فلو أفتى أي طالب علم بعد ذلك، لعين من الناس فتوى معينة خاصة به بناء على ضرورة تستوجب ذلك، كأن يكون مضطرا للعلاج في الخارج، ويحتاج إلى هذه المعاملة للحصول على الدولار الذي يسافر به، أو لتاجر تقوم حاجته العامة مقام الضرورة، بشرط أن لا يكون ما يتاجر فيه من الأشياء الضارة، أو التي لا نفع بها؛ فلو صدرت مثل هذه الفتاوى المعينة المخصوصة بالإباحة في هذه الحدود الضيقة، بعد أن استقر الحكم بالحرمة في أذهان الناس، لما أُنكِر ذلك، ثم لما وجد هذا المضطر حرجا وعنتا شديدا في الحصول على هذه المعاملة، كما هو واقع اليوم.
ولكننا للأسف ابتلينا في ليبيا بقطاع طرق في صورة طلبة علم، فكان هؤلاء أشد تسابقا وتكالبا على هذه المعاملة من العامة، ولازلت أتذكر بعض العامة من كبار السن في بدايات ظهور هذه المعاملة، يتساءلون عنها هل هي من الربا أم لا، ويتندرون بالسلفيين الذين يسمونهم "الشيوخ" من شدة تسارعهم إليها، وهجومهم عليها دون
فسرعان ما تحول هذا الكلام الذي لا زمام له ولا خطام، ولا يعتمد على أساس، ولا يقر له قرار، وهو القول بالتفرقة بين عمولة لغرض الربح، وأخرى لغرض استرداد النفقات الحقيقية فقط؛ سرعان ما تحول هذا القول إلى أصل تبنى عليه الأحكام، بل وإلى معارض وهادم لركن ركين من أركان فقه المعاملات المالية، ألا وهو أصل حرمة الربا، بل والمنع من ذرائعه، وسد كل ما يفضي إليه، حتى قال عمر رضي الله عنه "دعوا الربا والريبة" وجاء عن الصحابة أنهم قالوا تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الربا، وجاء عن عدة من الصحابة أنهم لا يقبلون الهدية ممن أقرضوه مخافة أن تكون فائدة على القرض، بل كانوا يأمرون غيرهم أن لا يقبلوا الهدية على هذا النحو، ثم يأتي في هذا العصر من يقول مثل هذا الكلام، الذي لولا المجهادة في تحسين الظن ببعض من قال هذا الكلام، لقيل إنه استخفاف بحدود الله، وعدم مبالة بما جاء في الربا من الوعيد العظيم، والتخويف والترهيب، والزجر الشديد!.
ومن العجب ما يستدلون به على استباحة مثل هذا الربا، وهو قولهم بأن المقرض محسن، وما على المحسنين من سبيل، ولا أعرف لماذا يذكرني هذا الاستدلال، باستدلالات الرافضة أخزاهم الله، كقولهم في قوله تعالى: مرج البحرين: هما علي وفاطمة، وقولهم يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، هما الحسن والحسين، وقولهم (أذن واعية) هي أذن علي!!
ولذلك فإن هذا القول رغم كثرة القائلين به، لا يختلف كثيرا عن أقوال بعض المثقفين والمفكرين وأضرابهم من المتلاعبين بالدين، الذين يقولون لك نحن نؤمن بحرمة الربا، بل يقولون لو اعتقدنا حل شيء من الربا لكفرنا، ثم إذا بحثت عن حقيقة الربا الذي يؤمنون به، وجدته معنى لا يكاد يوجد أبدا في الواقع، ووجدت أن أعتى مؤسسات الربا في العالم تحرم أكثر مما يحرمون من الربا، وذلك كمن يقول إن الربا المحرم هو ربا الديون فقط، وليس كله، بل ما كان أضعافا مضاعفة فقط، مع أن أعلى نسبة فائدة في العالم اليوم قد لا تتجاوز ٢٠%، وأكثر الدول تحرم ما زاد عن ذلك، بل كثير منهم يحرمون ما هو دون ذلك، ثم يأتي من ينسب إلى شرعة الله، أعدل الشرائع وأحكمها على الإطلاق، هذا الربا، ويقول أن الفائدة لو كانت ٩٩% فإنها حلال في شرعة الله وليست من الربا.
وبعضهم يقول إن الربا هو الزيادة لأجل الإنظار بعد حلول الدين، أما إذا طُلبت الزيادة في أول العقد فلا يكون هذا من الربا!... إلى غير ذلك من الأقوال التي تكالب بها العابثون على حكم الربا في شرعة الله، وحولوه إلى صورة ميتة لا روح فيها، وإلى هباء يتلاشى بنفخة واحدة من أمثال هؤلاء، وما أكثرهم، ولقد استمعت مرة إلى مقطع مرئي لأزهري يلقب بالأزهري، وهو صوفي مخرف، قال في هذا المقطع بعد مقدمة أكد فيها على حرمة الربا، وأنه من أكبر الكبائر، بل وأكد فيها على كفر من يستحل الربا، وكأني به يحكم على نفسه بنفسه بذلك؛ قال بعد ذلك "إن الإيداع في البنوك بفائدة ليس من الربا، بل هو عقد مستحدث ليس له في الفقه الإسلامي نظير، يسمى هذا العقد الجديد عقد تمويل"!! وكأن المرابي يحنط أموال الربا ولا يتمولها ويمولها غيره ... ليصل هذا الأفاك الأثيم عبر عقد التمويل هذا، إلى أن هذا الربا الذي هو عين ربا الجاهلية صار اليوم ليس من الربا بحال من الأحوال، بل هو عقد تمويل ليس له في الفقه نظير! ألا فلعنة الله على الظالمين الأفاكين المعتدين الذين اتخذوا آيات الله هزؤا ولعبا.
وبعد؛ فإن مما نعاني منه في هذا العصر، ليس من أمثال هؤلاء فقط، بل هي السمة الظاهرة الغالبة على أكثر الناظرين في فقه المعاملات للأسف الشديد؛ هو ما يمكن أن نسميه بفقه المحاباة والطبطبة على المصارف والتعاطف الشديد معها، وهذه المحابة تتوافق مع سياسة "الابن المدلل" الذي يتعامل بها النظام الرأسمالي في الغرب مع مؤسساته المالية التي هي أساس الفساد والاضطراب في نظامه الاقتصادي، والتي كلما تخبطت وترنحت بسبب أكلها واتخامها بالربا سارعت تلك الأنظمة إلى إنقاذها وإنعاشها، لتعود أكثر شراهة ونهما لأكل الربا، ولا يخفى أن لهذا الدلال الغربي دوافع؛ ليس أباطرة المال والربا من اليهود بمنأى عنه أبدا.
أما هذا الفقه المحابي عندنا فلا يزال يصر على عدم الاعتراف بأن وظيفة البنوك وعملها تتعارض تعارضا مبدأيا مع الشريعة والفقه الإسلامي، ولهذا الإصرار أسباب عديدة لعل العمل الحزبي واحدا منها، فإن الأحزاب لم تنجح في أي جانب من الجوانب التي عملت عليها كما نجحت في الجانب الاقتصادي، ومن نظر عرف، فكأن هذه الأحزاب تقمصت دور اليهود ووظيفتهم، فصارت تنسج على منوالهم، تبتغي بذلك أن تصل إلى ما وصل إليه اليهود في الغرب، من تحكمهم واستبدادهم شبه التام بسياسات تلك الدول الغربية، وشؤونها العامة .. وستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا .. ويزودك بالأخبار من لم تزود!!.
بسم الله الرحمن الرحيم
توضيح بشأن حكم السحب من الصراف الآلي التابع لمصرف آخر غير المصرف المصدر للبطاقة، (ومسائل أخر).
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
أما بعد،
فقد أعلنت المصارف التجارية عندنا عن خدمة جديدة، وهي توحيد جميع آلات الصراف الآلي التابعة لهذه المصارف، ليكون بإمكان حامل بطاقة الصراف الآلي السحب من أي آلة تتوفر فيها السيولة النقدية، ولو لم تكن تابعة للمصرف الذي فيه حساب حامل البطاقة.
ولكن كعادة هذه المصارف لم تبين أي شيء عن تفاصيل هذه الخدمة، حتى إنها لم تذكر ثمن هذه الخدمة، وهل هو ثمن موحد أيضا، أم إنه مختلف باختلاف المصارف، ومع إن بعض المصارف التي تضع الملصق الشهير "إسلامي" بجانب اسمها؛ تدعي أن لها لجانا شرعية تشرف على عملها، إلا أننا لا نكاد نسمع لهذه اللجان همسا، ولا نرى لهم عينا ولا أثرا، فلا أدري هل لهذه اللجان وجود حقيقي، أم هي لجان في عالم الوهم والخيال!.
وبما إن الأمر على هذا الحال من الإبهام والغموض الذي تتقصده المصارف فيما أظن، والذي لا يمكّن الناظر في هذه المعاملة من استجلاء حقيقتها، واستخراج حكمها، فقد رأيت أن أبين منهج النظر فيها: أولا؛ لكي يكون عونا للمتفقه وطالب العلم إذا سُئل عن هذه المسألة.
وثانيا، وهو الأهم؛ لكي يحذر المسلم عموما في هذا البلد من هذه المعاملة، فلا يقدموا عليها حتى يعلموا حكم الله فيها، وصدق من قال، وقد جاء ذلك عن ﺍﻟﺤﺴﻦ ﻭﺍﺑﻦ سيرﻳﻦ رحمهما الله تعالى : ﻭﺍﻟﻠﻪ ﺇﻥ ﻫﺆﻻﺀ ﺍﻟﺼﻴﺎﺭﻓﺔ ﻷﻛﻠﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎ، ﺇﻧﻬﻢ ﺃﺫﻧﻮﺍ ﺑﺤﺮﺏ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ، ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺎﺱ إﻣﺎﻡ ﻋﺎﺩﻝ ﻻﺳﺘﺘﺎﺑﻬﻢ، ﻓﺈﻥ ﺗﺎﺑﻮﺍ ﻭﺇﻻ ﻭﺿﻊ ﻓﻴﻬﻢ ﺍﻟﺴﻼﺡ. وقال ﻗﺘﺎﺩﺓ : ﺃﻭﻋﺪﻫﻢ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﺎﻟﻘﺘﻞ ﻛﻤﺎ ﺗﺴﻤﻌﻮﻥ ، ﻭﺟﻌﻠﻬﻢ بهرﺟﺎ ﺃﻳﻨﻤﺎ كانوا، ﻓﺈﻳﺎﻛﻢ ﻭﻣﺎ ﺧﺎﻟﻂ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺒﻴﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺑﺎ، ﻓﺈﻥ الله ﻗﺪ ﺃﻭﺳﻊ ﺍﻟﺤﻼﻝ ﻭﺃﻃﺎﺑﻪ، ﻓﻼ ﺗﻠﺠﺌﻨﻜﻢ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺼﻴﺘﻪ ﻓﺎﻗﺔ."
وأخيرا، فعسى أن يصادف هذا المنشور من يملك تفاصيل هذه المعاملة من مصادرها الموثوقة، فيفيدنا بها، وله إن شاء الله، من الله المثوبة والأجر.
أما النظر في هذه المسألة، فيعتمد على استجلاء أمرين اثنين: الأول: هل تقوم المصارف بتسوية حساباتها فيما بينها كل مدة معينة، كيوم، أو أسبوع، أو شهر، أو غير ذلك، فيسقط كل مصرف ما له على المصارف الأخرى في مقابل ما عليه لتلك المصارف، ثم يَثبُت الفضل دينا على المصرف الذي سُحب على حسابه هذا الفضل، فيكون هذا المصرف مدينا للمصرف الذي ثبت له الفضل من ذلك؟.
وهذا هو الظاهر؛ لأنه من غير المعقول أن يسحب الزبون من حسابه في مصرفه عبر هذه البطاقة المربوطة بحسابه، ثم يتقاضاه من خزينة المصرف الآخر عبر الصراف الآلي، دون أن تقوم هذه المصارف بالمقاصة فيما بينها بعد ذلك، إلا إذا كان المصرف المركزي قد جعل حسابا موحدا لهذه الآلات، بحيث تخصم البطاقة من حساب حاملها في مصرفه، ومن حساب مصرفه لدى المصرف المركزي في آن واحد، ومن ثم لا يكون للمصرف صاحب الآلة أي علاقة بهذا الخصم، ولا يكون مسحوبا من خزينته، وليس عليه أي تبعة فيه.
ووجود هاذين الاحتمالين هو الذي يجعل حكم هذه المعاملة غامضا، فعلى الأول تكون المعاملة عبارة عن قرض بفائدة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم في الإثم سواء.
وعلى الثاني تكون المعاملة من الحوالة بالدين، حيث يحيل المصرف، حامل هذه البطاقة بدينه، على المصرف المركزي بالدين الذي على المصرف المركزي لهذا المصرف التجاري، ومثل هذه الحوالة جائزة بشرط أن يكون ثمن هذه الخدمة موحدا بين المصارف، أو على الأقل أن يكون ثابتا في كل مصرف على جميع البطاقات على حد سواء، فلا يفاضل المصرف الواحد في هذه المعاملة بين البطاقات المختلفة باختلاف المصارف.
وهذا هو النظر الثاني الواجب في هذه المعاملة، أي النظر في قيمة هذه الخدمة، فإذا كان المصرف يأخذ على البطاقات التي ليست صادرة منه قيمة أعلى من القيمة التي يأخذها على البطاقة الصادرة من جهته، فهذا يعكر على المعاملة ويبقي شبهة القرض فيها، حتى وإن كان الخصم يتم رأسا من حسابات المصارف لدى المصرف المركزي، وإن كانت هذه الحال أخف من الحال الأولى التي تلجأ المصارف فيها إلى المقاصة وتسوية الديون الناتجة عن عمليات السحب المتبادلة فيما بينها عن طريق هذه الآلات، فهذه الأخيرة قرض صريح لا لبس فيه، والفائدة فيه هي هذه القيمة التي تقتصها المصارف كثمن لهذه الخدمة، (هذا إذا لم تكن المصارف تتعامل بالفائدة أيضا فيما بينها عند تسوية هذه الديون، وهو غير مستبعد).
فالعمولة التي تؤخذ على السحب من الصراف الآلي، بعض العلماء يجعلها ثمنا حقيقيا للخدمة، والقول بهذا يختلف عندما تكون المعاملة قرضا، عنه عندما تكون استيفاء للدين من قبل الزبون، فعندما يسحب المواطن من الصراف الآلي التابع للمصرف الذي فيه حسابه، فهو يستوفي دينه، فيجوز له أن يسقط بعض الدين للحصول عليه، أما جواز هذا للمصرف على اعتبار أنها قيمة للخدمة فهذه مسألة أخرى لا نريد أن