في انتظارِكِ , لا أستطيعُ انتظارَكِ لا أَستطيعُ قراءةَ دوستويفسكي ولا الاستماعَ إلي أُمِّ كلثوم أَو ماريّا كالاس وغيرهما في انتظارك تمشي العقاربُ في ساعةِ اليد نحو اليسار إلي زَمَنٍ لا مكانَ لَهُ في انتظارك لم أنتظرك , انتظرتُ الأزَلْ......
— محمود درويش
ليس المكان هو الفخ إذ يصير في صورة، ففي الذاكرة ما يكفي من أدوات التجميل لتثبيت المكان في مكانه، لا لأنه فينا وإن لم نكن فيه، بل لأن الأمل هو قوة الضّعيف المستعصية على المقايضة. وفي الأمل ما يكفي من العافية لقطع المسافة الطويلة من اللامكان الواسع إلى المكان الضيق، أما الزمان الذي لم نشعر به الا متأخرين، فهو الفخ الذى يتربص بنا على حافة المكان الذى جئنا اليه متأخرين، عاجزين عن الرقص على البرزخ الفاصل بين البداية و النهاية...
— محمود درويش
ماذا أصابني، يا عزيزي، لماذا أعودُ إلى اكتشاف البسيط لماذا يجرحُني بسيطُ البسيط لماذا أتذكّرُ أنني قد نسيتُ البسيط لماذا يحتاجُ البسيطُ، هذا البسيطُ بسيطُنا، إلى خارق ومعجزة وإلى حرب عالميّة ألأنني كبرتُ دون أن أدري. ألأنّ الطفولة التي كبرتْ في غيابي دلّتْني على أنّ الكلمات مهما كبرتْ واتّسعتْ واشتدّتْ لا تنجبُ طفلاً من لحم ودم، وأنه لا بدّ للطفل من أمّ وأنني في حاجة عضويّة ونفسيّة إلى من أصبّ له الحليبَ والشايَ في الصباح وأنني في حاجةٍ إلى من أعودُ إليه في غرفة في فندق أن تكونَ معي ... أن يكونَ أحد من أفراد عائلتي معي .. أن يكونَ أحدٌ من أصدقائي القدامى معي .. هو الدليل الأخير والوحيد على أنني موجود. ماذا دهاني إلى هذا الحَدّ تحتاجُ القربى والصداقة إلى تاريخ وأمّهات وسجون قديمة.. إلى جذور وذكريات ألهذا نمرّ اليوم، على الناس والأشياء والمُدُن، مرور الممثلين الهواة على خشبة مسرح عابر؟
— محمود درويش
قلت: تمهل ولا تَمتِ الآن. إنَّ الحياةَ
علي الجسر ممكنة. والمجاز فسيح المدي
هاهنا بَرْزَخٌ بين دنيا وآخرةٍ
بين منفى وأرض مجاورة...
قال لي، والصقور تحلق من فوقنا
خذِ اسمي رفيقا وحدِّثه عني
وعش أنت حتي يعود بك الجسر
حيّاً غدا
لا تقل: إنه مات، أو عاش
قرب الحياة سدي!
قل: أطلَّ علي نفسه من علي
ورأي نفسه ترتديِ شجرا، واكتفي
بالتحية...
— محمود درويش
الهدفُ يخّتلفُ من دربٍ إلى دربْ، لكِن الدُروبَ وعِرة، والمؤونةُ مِنَ العُمِر قليلة.
— محمود درويش
كانَ محمُود دروِيشْ في حفلةٍ في بيتِ صديقٍ له. و رأى امرأةً أعجبتْه لكنّهُ لم يُحدّثها. بعد فترةٍ قرّر درويش أن يستضيف صديقه و كل حضور الحفلة السابقة ، و أكّد على صديقه ضرورةَ حضور كل المدعُووِين، فحضر الجميع ما عدا المرأة. ثمّ نظّم حفلةً أخرى لكنّها لم تحضُرها أيضًا. و استمر انتِظارُه لمدّة سنةٍ كاملة كتب خِلالها قصيدة: " في الانتِظار، يُصيبُني هوسٌ برصد الاحتمالاتِ الكثيرة " ..
مرّت سنة، و كان درويش يزور صديقه بالصّدفة فوجدهَا هناك. و كان هذا اللّقاءُ الثاني و بِداية قصّة حُبٍ انتهت إلى الزواجْ. كان هذا زواجُه الثاني في مُنتصفِ الثمانينات من المُترجِمة المصرية "حياة الهيني" ..
في يومٍ بعد العشاءْ جلس يُلقي عليها قصيدةً كتبَها لأجلها. و عندما سمِع "مارسيل" القصيدة طلبَ غِنائها لكنّه فوجِئَ بالرّفض القاطِع بحُجّة أنها قصيدة شخصيّة . و قبل سفر درويش الأخير لأمريكا اتصلَ بمارسيل و طلب منهُ تلحينها و غنائها ، فكانت :
" يطيرُ الحمَامُ .
يحطُّ الحَمامُ .
أعدِّي ليَ الأرضَ كيْ أستريحَ.
فإنّي أحبّك حتى التعَبْ. "
الغريب أنّه بعد سنةٍ كاملةٍ من الانتظار ، استمر هذا الزواجُ سنةً واحدةً فقط.
و يقُول درويش :
" أحبُّ أن أقع في الحُب. و حين ينتهِي أُدركُ أنّه لم يكُنْ حُبًا..
الحب لا بدّ أن يُعاشْ لا أن يُتذكّر. "
قلت: يا صاحبي، أفرغتني الطريقُ
الطويلة من جسدي. لا أحسّ بصلصاله.
لا أحسّ بأحواله. كلما سرتُ طرت.
خطايَ رؤاي. وأما "أنا"ي، فقد
لوّحتْ من بعيد
قلت: أما زال يجرحك الجرح، يا صاحبي؟
قال لي: لا أحسّ بشيء
فقد حوَّلت فكرتي جسدي دفترا للبراهين،
لا شيء يثبت أَني أنا
غَيْر موت صريح علي الجسر،
أَرنو إلي وردة في البعيد
فيشتعل الجمر
أرنو إلي مسقط الرأس، خلف البعيد
فيتسع القبر
— محمود درويش
أَيَّ زمانٍ تريدين , أَيَّ زمان
لأصبحَ شاعِرَهُ , هكذا هكذا : كُلَّما
مَضَتِ اُمرأةٌ في المساء إلى سرِّها
وَجَدَتْ شاعراً سائراً في هواجسها.
كُلِّما غاص في نفسه شاعرٌ
وَجَدَ امرأةً تتعرَّى أَمام قصيدتِهِ...
أَيَّ منفىً تريدينَ
هل تذهبين معي , أَمْ تسيرين وَحْدَكِ
في اُسْمك منفىً
بِلأْلاَئِهِ..
— محمود درويش
ذهبَ الذينَ تُحبهم ذهبوا، وكأنَ شيئًا لم يكُنْ وها أنا وحدي ملء هذا الكون .
— محمود درويش
لا أريد أن أكون مجرد ذكرى عابرة، بل أريد أن أكون صوتًا يتردد في الذاكرة، يُذكّرنا بأهمية الوجود وحقنا في الحياة.
— محمود درويش
الفراشة تنسج من إبرة الضوء
زينة ملهاتها
الفراشة تولدُ من ذاتها
والفراشة ترقص في نار مأساتها نصفُ عنقاء
ما مسّها مسنّا
شبهُ داكنٌ بين ضوءٍ ونار
وبين طريقين!
لا .. ليس طيشًا ولا حكمةً حُبنّا
هكذا دائمًا, هكذا .. هكذا!
من سماءٍ إلى أُختها يعبرُ الحالمون...
— محمود درويش
لم نَحْلُم بما لا
يستحق النَّحل من قُوتٍ. ولم نحلم
بأكثرَ من يدين صغيرتين تصافحان غيابنا.....
— محمود درويش
ينبئُني ضوءُ هذا النهار الخريفيّ
أني رأيتكِ من قبل، تمشين حافيةَ
القدمين على لغتي، قلت: سيري
ببطءٍ على العشب، سيري ببطءٍ
لكي يتنفَّسَ منك ويخضرّ. والوقت
منشغلٌ عنك...سيري ببطءٍ لأُمسك
حلمي بكلتا يديّ. رأيتك من قبلُ
حنطيّةً كأغاني الحصاد وقد دلّكتها
السنابل، سمراءَ من سهر الليالي،
بيضاءَ من فرط ما ضحك الماءُ حين
اقتربتِ من النبع. سيري ببطءٍ،
فأنّى مشيتِ ترعرعت الذكرياتُ حقولاً
من الهندباء، رأيتك من قبلُ في
الزمن الرعويّ
على قدر ليل الغريب
تنامُ الغريبةُ.....
— محمود درويش
الظلُّ، لا ذَكَرٌ ولا أُنثى
رماديٌّ، ولو أَشْعَلْتُ فيه النارَ...
يتبعُني، ويكبرُ ثُمَّ يصغرُ
كُنت أَمشي. كان يمشي
كنت أَجلسُ. كان يجلسُ
كنت أركضُ. كان يركضُ
قلتُ: أخدعُهُ وأخلعُ معطفي الكُحْليَّ
قلَّدني، وألقي عنده معطفَهُ الرماديَّ...
آستدَرْتُ إلى الطريق الجانبيّةِ
فاستدار إلى الطريق الجانبيّةِ.
قلتُ: أخدعُهُ وأخرجُ من غروب مدينتي
فرأيتُهُ يمشي أمامي
في غروب مدينةٍ أخرى...
فقلت: أعود مُتّكئاً على عُكَّازتينِ
فعاد متكئاً على عكازتينِ
فقلتُ: أحمله على كتفيَّ،
فاستَعْصَى...
فقلتُ: إذنْ، سأتبعُهُ لأخدَعَهُ
سأتبعُ ببغاء الشكل سُخْريَةً
أقلِّد ما يُقلِّدني
لكي يَقَعَ الشبيهُ على الشبيه
فلا أراهُ، ولا يراني.
— محمود درويش
لا جديد ، الفصولُ هنا اثنانِ :
صَيْفٌ طويل كمئذنة في أقاصي المدى.
و شتاءٌ كراهبةٍ في صلاة خشوعْ. وأَمَّا الربيعْ
فلا يستطيع الوقوف على قدميه
سوى للتحية: أَهلاً بكم في صعود يسوعْ.
وأَمَّا الخريف، فليس سوى خُلْوةٍ
للتأمُّل في ما تساقط من عمرنا في طريق الرجوعْ.
فأين نسينا الحياةَ سألت الفراشةَ
وهي تحوِّم في الضوء فاحترقتْ بالدموع ..
— محمود درويش
وسألتك هل كنت تمثِّل يا صاحبى قلتَ لي كنتُ أخترعُ الحب عند الضرورة حين أسير وحيداً على ضفة النهر أو كلما ارتفعت نسبة الملح في جسدي كنت أخترع النهر......
— محمود درويش
هَلْ كان فِي وَسْعِنَا أَنْ نُحِبَّ أَقَلَّ
لِنَفْرَحَ أَكْثَر؟ هَلْ كَانَ فِي وسْعِنَا أَنْ نُحِبَّ أَقلَّ... أَقَلَّ؟
نُعِيدُ إِلَى الحُبِّ أَشْيَاءَهُ، نُرجِعُ الرِّوحَ لِلرُّوحِ، نُرجِعُ ظلاً
إلَى أُهلهِ. نَتَبادَلُ أُسْماءَ نِسْيَانِنَا، ثُمَّ نَرجِعُ قَتْلَى... وَأَحْلَى
نُعِيدُ إِلَى الحُبِّ أَشْيَاءَه، زَهْرةَ الوَقْتِ فِي جَسَدَيْنْ،
وَلَكِنَّنا لاَ نَعُودُ إلَى نَفْسِنَا، نَفْسِها، مَرَّتَيْنْ!..
— محمود درويش
كلما توغلت في وحدتك , كتلك الشجرة,أخذك الحنين برفق أمومي إلى بلده المصنوع من مواد شفافة هشة ,
فللحنين بلد و عائلة و ذوق رفيع في تصفيف الأزهار البرية .وله زمن منتقىً برعاية إلهية , زمن أسطوري هادئ ينضج فيه التين على مهل , وينام فيه الظبي إلى جانب الذئب في خيال الولد الذي لم يشاهد المذبحة .ويطوف بك الحنين, كدليل جنة سياحي, في أنحاء بلاده, ويصعد بك إلى جبل كنت تأوي إليه و تتمرغ في النباتات البرية , حتى تتشرب مسام جلدك برائحة المريمية . الحنين هو الرائحة ....
— محمود درويش
مَرَّ القطارُ سريعاً .. كُنْتُ أنتظرُ
على الرصيف قطاراً مَرَّ
وانصرَفَ المُسافرونَ إلى أَيَّامِهِمْ ..
وأَنا ... ما زلتُ أَنتظرُ
— محمود درويش
كتبتُ وصيَّتي بدمي:
"ثِقُوا بالماء يا سُكّان أُغنيتي!"
ونِمْتُ مُضرّجاً ومتوَّجاً بغدي...
حلِمْتُ بأنّ قلب الأرض أكبرُ
من خريطتها،
وأوضحُ من مراياها ومِشْنَقتي.
وهِمْتُ بغيمةٍ بيضاء تأخذني
الى أعلى
كأنني هُدْهُدٌ، والريحُ أجنحتي.
وعند الفجر، أَيقظني
نداءُ الحارس الليليِّ
من حُلْمي ومن لغتي:
ستحيا ميتةً أخرى،
فعدِّلْ في وصيّتك الأخيرة...
— محمود درويش
أَتعرفني سألتُ الظلَّ قرب السورِ ،
فانتبهتْ فتاةُ ترتدي ناراً ،
وقالت : هل تُكَلِّمني ؟
فقلتُ : أُكَلِّمُ الشَبَحَ القرينَ
فتمتمتْ : مجنونُ ليلى آخرٌ يتفقد الأطلالَ ،
وانصرفتْ إلى حانوتها في آخر السُوق القديمةِ
ههنا كُنَّا . وكانت نَخْلَتانِ تحمِّلان
البحرَ بعضَ رسائلِ الشعراءِ …
لم نكبر كثيراً يا أَنا . فالمنظرُ
البحريُّ ، والسُّورُ المُدَافِعُ عن خسارتنا ،
ورائحةُ البَخُور تقول : ما زلنا هنا ،
حتى لو انفصَلَ الزمانُ عن المكانِ .
لعلَّنا لم نفترق أَبداً
- أَتعرفني ، بكى الوَلَدُ الذي ضيَّعتُهُ :
(( لم نفترق . لكننا لن نلتقي أَبداً ))
وأَغْلَقَ موجتين صغيرتين على ذراعيه ،
وحلَّّق عالياً فسألتُ : مَنْ منَّا المُهَاجِرُ
— محمود درويش