(نحن نحيي ) ..
يبعث حرف الحاء التوقد والحياة في كلمات كثيرة ( الحياة ، الحركة ، الحرارة ، الحب ، الحمى ، الحيوان ... )
قدرة ربك في الإحياء ترسمها آيات السورة لنعلم أن الموت ليس النهاية :
(إنا نحن نحيي الموتى .. )
(قال من يحيي العظام وهي رميم ، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة .. )
(لينذر من كان حيا ... )
يا سين ...
هناك ثانية واحدة بين سماعك حرف (يا) وبين السين ..
ثانية واحدة تبعث _في عُرف اللغة_ عشرات الرسائل ..
ثانية واحدة تحفز أذنيك لتتفتح ، وذهنك ليتفتق..
ثانية واحدة تقول لك بأنك المنادي حيناً والمنادى عليه حينا آخر ..
ثانية واحدة يتردد فيها صوت النداء :
أن إلينا رجوعك فلا تغفل .
ليكون منتهى السورة صورة مبداها :
(فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه تُرجَعون ..)
وإليه تُرجَعون ..
#سورة_يس
#سورة_يس_محمد_غازي_رزاز
#قرآن_ينبض_محمد_غازي_رزاز
سورة نوح ، القصيرة نسبيا ، فيها من اللذائذ ما تتحلّب له الأشداق ...
فلننظر الى هاتين المجموعتين من الايات ..
المجموعة الأولى :
إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦٓ أَنۡ أَنذِرۡ قَوۡمَكَ مِن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ١ قَالَ يَٰقَوۡمِ إِنِّي لَكُمۡ نَذِيرٞ مُّبِينٌ ٢ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ٣ يَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَيُؤَخِّرۡكُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لَا يُؤَخَّرُۚ لَوۡ كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٤
المجموعة الثانية تمتد الى نهاية السورة وهذه بعض آياتها :
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوۡتُ قَوۡمِي لَيۡلٗا وَنَهَارٗا ٥ فَلَمۡ يَزِدۡهُمۡ دُعَآءِيٓ إِلَّا فِرَارٗا ٦ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ وَأَصَرُّواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ ٱسۡتِكۡبَارٗا ٧ ثُمَّ إِنِّي دَعَوۡتُهُمۡ جِهَارٗا ٨
لعلنا نقرأ السورة كثيرا ، ولكن هل لاحظنا الفارق بين المجموعتين ..
ستقول : نعم خواتيم الآيات بين المجموعتين ، بين ( أليم ، أمين ، أطيعون ، تعلمون )
وبين ( نهارا ، فرارا ، استكبارا ، جهارا ..)
ولكن الفارق بين هذه النهايات يعكس شيئا آخر تماما لعلك لم توجه نظرك إليه .
إنه يعكس الفارق بين نوح الشاب ، ونوح الشيخ الكبير .
إن المسافة بين القولين طولها ألف عام تقريبا ..
فقول نوحٍ الأول كان في بداية الدعوة ، حين كان شابّا ، متلهّباً للقول والنقاش ، يتراحب في قلبه الأمل أن يؤمن القوم ، لذلك كان النفَس الذي يتكلم به طويلاً يتمثل في هذا المد الطويل الذي تنتهي به الايات عبر ست حركات ليصبغ هذه الايات بموسيقاه المتراخية :
نذير مُبيييييييين ..
واتقوه وأطيعوووووون ..
لو كنتم تعلموووووون ..
أما القول الثاني فقاله وقد مضت على الدعوة مئات السنوات ، بعد أن جرب كل وسائل القول والجدال والمناقشة والحِجاج ..
هنا لم يعد هناك متسع للمد في القول ، هنا تلاشى الأمل وضاق بالقوم نفَسُ الرجل ، فكانت النهايات قصيرة تظلل الايات بموسيقى مشدودة متوترة :
نهارا ..
فرارا ..
استكبارا ..
جهارا ..
هذا قولٌ فقدَ صاحبُه بهؤلاء الأملَ فكان القول قصيرا ، ولكنه أيضا شديدا عنيفاً يعكس انتهاء زمن الود ودخول زمن المفاصلة ..
هذه الراء الممدودة هي ضرباتٌ فاصلة تمثل حالة الألم وانتهاء الأمل ..
هذه الراء الممدودة الى الأعلى تماثل تلك التي في سورة الفرقان ( بما في اسم الفرقان من دلالات المفاصلة والتفرّق بين الفريقين ) لتتماثل الصورة في الحالتين ...
اختلاف موسيقى قولَيْ نوح يعكس اختلاف نبرات الصوت ونبضات القلب ..
في قول نوح الأول كانت الكاميرا موجهة إلى نوح إذ يخاطب قومه ، ولكنها بعد ذلك تبتعد لتركز على مشهد آخر بعد ذلك بزمن بعيد ، مشهد يقف فيه نوح بين يدي ربه ليقول ويقول ويقول ..
أترى حسرات قلبه ، أتراه وهو يدمع ، أتراه كسيراً حسيراً أمام ربه وهو يكرر ( ثم إني ، ثم إني ..) ، كأنه يترقّى من مرحلة إلى أخرى ، ومن أسلوب إلى آخر ليستنفذ معهم كل سبيل :
(ثُمَّ إِنِّی دَعَوۡتُهُمۡ جِهَارࣰا ثُمَّ إِنِّیۤ أَعۡلَنتُ لَهُمۡ وَأَسۡرَرۡتُ لَهُمۡ إِسۡرَارࣰا)
[سورة نوح 8 - 9]
وقع هذه الايات الأشد على قلوبنا في تتاليها ، في احتشاد المعنى وراء المعنى دونما مُهلةٍ ولا فواصل ..
كأن نوح في هذا المشهد وهو يقف بين يدي ربه يستفرغ شحنَ قلبه ألف عام ..
هذا ليس حواراً أبدا ، فلا يخطئنّ قلبُك التقاطَ الإشارة .
نوح هو الذي يقول فقط ، هو الذي يسيل روحاً ومدامع ، ليترك له ربُّه فرصتَه كاملةً للقول ، ليخفف عن روحه ما اعتراها هذه السنوات الطويلة..
كم يحتاج أحدنا الى من يستمع له حين يحتقن ..
إنه لمشهد شديد الوقع ، بين عبد يشكو لربه ، سافحاً له قلبه سافكاً له دمعه ، وبين رب يستمع ثم يحفظ لعبده أقوالَه و انفعالاتِه كلها ليبسطها لكل البشر الذين من بعده ..
كم في هذه الأقوال من شحنات لتبقى خالدة ..
وبذا فإنك حين تقرأ سورة نوح عليك أن ...
عليك أن ..
عليك أن تتذكر أنه نووووووح ..
النبي الذي يحمل اسمُه دلالات عميقة على نفْسٍ (متألّمة) بعد إرهاق بالغ وطول عناء ..
عليك أن ترى فاصلَ الألف عام بين قوله الأول شابّاً وما تلاه من أقوال ..
عليك أن تقرأ السورة بروح نوح الذي ( ينوح ) ، حتى تتذوق بقية مافي السورة من أسرار ...
#سورة_نوح_محمد_غازي_رزاز
#قرآن_ينبض_محمد_غازي_رزاز
ثم أترى وصف عين الماء بأنها ( سلسبيل ) ، فمع تعدد الري وتنوعه ، و مع سيلان الشراب فيهم تسيل طباعهم وتلين وترقّ ..
لا تترك اللفظة أبدا ، ولا تمنع روحك حلاوة مذاقها :
سلسبيلا ..
سلسبيلا ..
ستريك السورة مثالا على وجود ( ولدان مخلّدون ) في صورة لتغير الطبيعة البشرية كمثال مشهود :
(۞ وَیَطُوفُ عَلَیۡهِمۡ وِلۡدَ ٰنࣱ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَیۡتَهُمۡ حَسِبۡتَهُمۡ لُؤۡلُؤࣰا مَّنثُورࣰا)
[سورة الإنسان 19]
سورة الإنسان..
انتقال هذا الإنسان من ( الأمشاج ) الى ( القوارير ) ..
بين صورة إنسان الدنيا وصورة إنسان الجنة ...
سأعيدك الان الى خاتمة سورة الملك ، أول سورة في هذا الجزء الذي به سورة الإنسان :
(قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا ، فمن يأتيكم بماء معين ..)
ماؤكم هو أنتم ..
أنتم دونما ماء نفوس قاحلة تعاني من ظمأ المعنى ، وفقر التوجه ..
الماء هو الوسط الذي تمتزج به خلائط أمشاجكم ، روحا وجسدا ..
استسقوا لأرواحكم ماء معناها .
سلسبيل الجنة هنا قبل أن يكون هناك ...
#سورة_الإنسان
#سورة_الإنسان_محمد_غازي_رزاز
#قرآن_ينبض_محمد_غازي_رزاز
(قُلۡ أَرَءَیۡتُمۡ إِنۡ أَصۡبَحَ مَاۤؤُكُمۡ غَوۡرࣰا فَمَن یَأۡتِیكُم بِمَاۤءࣲ مَّعِینِۭ)
[سورة الملك 30] ...
لئن غاض ماءُ روحك ، وغار ماءُ أخلاقك ..
لئن جفّت أفكارُك وماتت بذور المعاني فيك ..
لئن تخلّى مَن ( بيده المُلك ) عن حقنك بماء إنسانيتك ..
فمَن لك بصاحبٍ مُعين يأتيك بماء مَعين ..
(تبارك الذي بيده المُلك ...)
ومن البلاء والداء العَياء أنك قد لاتشعر بجفاف مائك هذا ، وتحسب نفسك حيا وأنت مقبور ..
اقرأها فهي تنجيك من عذاب القبر ، ليس ذاك الذي تظنه تحت التراب ، ولكن هذا الذي أنت فيه اليوم ..
(.. فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ ) .
#سورة_المُلك
#سورة_المُلك_محمد_غازي_رزاز
#قرآن_ينبض_محمد_غازي_رزاز
أَنهى قصيُّ حفظَ (النازعات)..
عندما وصلتُ وإياه إلى :
(فَإِذَا جَاۤءَتِ ٱلطَّاۤمَّةُ ٱلۡكُبۡرَىٰ)
قال لي ببراءة الطفل، وبدهشة التلقّي الأول :
لماذا تمدها هكذا طويلةً ( الطااااااااامّة الكبرى .)
قلتُ له _ بتبسيط _ لأنها كالبحر مُغرِقة ..
ثم أخبرته أنه حين سيكبر أكثر سيشعر بها أكثر ..
ثم أخذني الخيالُ مأخذه ، جالساً وإياه بعد سنوات ، بعد أن يميل ميزانُ العمر بي وبه ، لأسكب في فؤاده معانيها لذيذات ، لأقول لذاك القَصيّ قُصيّ:
فلتتوكأ على قلبك ، ولتتوكل على ربك ، في طريقك إلى كشف برقعِ المعنى عن وجه السورة الفاتن ..
فإن للنازعات _أيها المتقصّي عُمقَها _ لخبراً عظيما ..
وإن ( الطامة ) هي مركز دائرة النازعات ، هي القبلة التي تحتشد من أجلها معاني السورة ...
ابسط يدك كما تشاء على كلمات السورة جميعها ، ثم اقبضها على كلمة ( الطامّة ) ولا تتركها أبدا ..
إنها (طامة ) لا حاقّة ، ولا واقعة ، ولا صاخّة ...
وحين تدرك أن (الطامّة) موصولة بمعاني الماء الذي يعلو ويعلو حتى يُغرِقَ من لا يُتقن السباحة فيه ، فستقبض على المعنى هنا لذيذاً ...
(...فقد طمى الخَطبُ حتى غاصتِ الرُّكَب ...) بيتُ الشعر هذا يضيء لك زاويةً من المعنى .
الخطبُ الذي طمى وطغى كالماء في بيت ابن أبي ريشة ، يضعك تحت ظل ( الطامة ) ذاته ..
(الطميُ ) الذي يجعلك عالقاً فيه قريب جدا من معنى الطامّة المُغرقة ..
فاحذرِ الطّمْيَ قُصيّ ، واحذر الطامّة ..
إن فلك معاني النازعات ينزع إلى معاني تتراحب بين السباحة والغرق ..
حشدٌ من معاني البحر يحيط بقلبك ..
أريدك الآن أن تمسك بكلمتين متباعدتين في السورة( أرساها و مُرساها ) :
(وَٱلۡجِبَالَ أَرۡسَاهَا)
(یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَیَّانَ مُرۡسَاهَا)
أترى معي معاني (الإرساء) ..
أترى معي صورةَ سفينةٍ ترسو .
إذن فأنت أمام (الطامة) كزاخر من الماء ثم أمام معاني ( الإرساء ) .
بدأت الخيوط تمسك ببعضها إذن .
إنه الماء حيثُ ولّيتَ وجهك في السورة :
(أَخۡرَجَ مِنۡهَا مَاۤءَهَا وَمَرۡعَاهَا)
و( طامة كبرى ) يعني أن هناك (طامة صغرى) ..
إنها الدنيا ، وعليك إتقان العوم فيها :
( وَٱلنَّـٰزِعَـٰتِ غَرۡقࣰا وَٱلنَّـٰشِطَـٰتِ نَشۡطࣰا وَٱلسَّـٰبِحَـٰتِ سَبۡحࣰا فَٱلسَّـٰبِقَـٰتِ سَبۡقࣰا فَٱلۡمُدَبِّرَ ٰتِ أَمۡرࣰا)
[سورة النازعات 1 - 5]
ألقِ عن قلبك غبارَ معانيَ وتفسيراتٍ تُميتُ هذه الايات فيه ..
فما النازعات بملائكة تقبض أرواح كافرين ، ولا الناشطات أخواتها تقبض أرواح المؤمنين ..
إن ( النازعات والناشطات والسابحات ) تقسيمات لنفوس البشر .
(وَٱلنَّـٰزِعَـٰتِ غَرۡقࣰا) ...
أتستطيع تجاوز كلمة ( غرْقا ) دون أن تمسك بألفاظ البحر الأخرى في السورة ( مُرساها )( أرساها )(السابحات)( الطامة) ..
هذه النفوس التي تنزع ( أي تميل وتتجه ) إلى الغرق ، تأخذها الدنيا بأمواجها العاتية ثم تلقيها بعنف وعنفوان إلى قاعها ، عالقةً في طميها الموحِل ( الطامة ) ..
تقول : فلان نزع الى الشيء أي مال إليه ، وفلان لديه( نزعة) أي لديه ميل أو توجه ...
ان النازعات نفوس تميل الى الغرق في عباب هذه الدنيا ..
لا تترك قلبَك يغادر شدة الإلقاء بأقسى معانيه ( والنازعات غرقا ..)
هو يصدمك بالمعنى في صدر السورة عنيفا دونما مسّ ولا لمس ..
النفوس النازعات الى الطغيان مصيرها القاع غرقا ...
(وَٱلنَّـٰشِطَـٰتِ نَشۡطࣰا) نفوس تنشط فلا يأخذها الغرق ، ولكنها تبقى عالقة فلا تسبح بعيداً ...
أما السباحة بمهارة فشأن آخر :
(وَٱلسَّـٰبِحَـٰتِ سَبۡحࣰا فَٱلسَّـٰبِقَـٰتِ سَبۡقࣰا فَٱلۡمُدَبِّرَ ٰتِ أَمۡرࣰا)
وهذه هي خير النفوس (ويربطها حرف العطف الفاء ، فهي مجموعة واحدة ، تسبح فتسبق ثم تدَبّر ...)
هؤلاء يمتلكون أدوات التحكم بمزالق الدنيا ، يبدؤون سباحة في تيارها ثم يبزّون غيرهم سبقاً وتدبيراً : سابحات فسابقات فمدبّرات ...
واقبض ثانيةً على كلمة ( السابحات ) لتضيفها الى خزانتك الطافحة بمعاني ( الماء) في سورة قصيرة كهذه :
(غرقا ، السابحات ، أرساها ، مرساها ، الطامة ...)
والسابحات تمنح لخيالك السباحة في المعنى كما هذي النفوس تتقن العوم في الدنيا ..
نفوس سابحة سارحة ، راكضة لا راكدة ..
نفوس سابحات كسابحات الخيل عند امرئ القيس :
مِسَحٍّ إذا ما السابحاتُ على الونى
أثَرنَ غباراً بالكديدِ المُرَكَّلِ
شتان بين نفوس نازعاتٍ الى الغرق ، وبين سابحاتٍ سابقاتٍ مدبّرات ..
في ظل هذا المعنى لا يفاجئك أبداً المثال الصريح الصارخ للنازعات :
(فقال انا ربكم الاعلى ..)
(اذهب الى فرعون إنه طغى ...)
تُطغيه نفسه ، و(تُطميه) الدنيا فتغرقه ، مجازاً ثم حقيقة ..
في عناية الكوفيد تتعالى أصوات الحشرجة ..
يقضي المصاب وحيدا ، يتلفّحُ بكل ألم ، تتآكل روحه ، تزل انفاسه أياما قبل أن يذوي ، هشيماً تذروه الرياح ..
هيجت هذي المخاطر في نفسي الخواطر ، أناخت راحلة القلب في عالم الخوف هذا ، أجلستني الى الطاولة ، بسطت يدي الى القلم ، غمسته في دواة الألم ثم أسالته حبراً على الصحيفة ..
على كل سرير مما هنا يتردد صوت مالك بن الريب وهو يتلو مُحتضراً :
فيا صاحِبَيْ رحلي دنا الموت فانزلا
برابيةٍ ، اني مقيم لياليا
أقلّبُ طرفي حول رحلي فلا أرى
به من عيون المؤنسات مُراعيا
فيا راكباً إمّا عرضتَ فبلّغنْ
بني مالكٍ والرَّيْبِ ألَّا تلاقيا
تذكرت من يبكي عليّ فلم أجِد
سوى السيفِ والرُّمحِ الرُّدينيّ باكيا
لكن لا سيف ابن الريب هنا ولا رمحه ..
هنا فقط اجهزة المراقبة التي تُجرّع المرضى غصص الرعب والهلع ..
هنا اجهزة الانعاش التي تهدم اللذات وتزلزل الأفئدة ..
هنا تُدار كؤوس الردى ، ولا تهدأ ركائب الملائكة صعودا وهبوطا ..
تتعالى النداءات ، تتكرر الاستغاثات :
يا .. يا ....
هذا مصاب استطال وبلاء استطار ..
لم يتكلف ابن الريب قافية قصيدته ( يا يا ..) وإنما سالت تجاوبا لروحه الصارخة ..
على سرير الموت ذاته قال عبد يغوث بن الحارث قصيدته الوحيدة التي لم يقل قبلها شعرا ..
قُطعت عروقه وتُرِكَ يموت ليقول قصيدة وهو ينزف محتضرا :
أَلا لا تَلوماني كَفى اللَومَ ما بِيا
وَما لَكُما في اللَومِ خَيرٌ وَلا لِيا
أَلَم تَعلَما أَنَّ المَلامَةَ نَفعُها قَليل
وَما لَومي أَخي مِن شمالِيا
فَيا راكِباً إِمّا عَرَضتَ فَبَلَّغَن
نَدامايَ مِن نَجرانَ أَن لا تَلاقِيا
لم يتكلف أيضا عبد يغوث قافيته ( يا يا ..) وليس له وهو يقضي أن يتكلّف ..
لا تقرؤوا على موتاكم قصيدة مالك بن الريب ولا عبد يغوث ، وانما ياسين .
رائحة الفناء التي تزكم الانف في عناية الكوفيد تضوع في آيات سورة( يس) ..
كلاماً عن الموتى ( إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم .. )
خموداً للأحياء (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون .. ) (وآية لهم الأرض الميتة ... )
الكون الذي يُظلِم (الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ... )
الشمس التي تسير إلى نهايتها ( تجري لمستقر لها )
وكذلك القمر (حتى عاد كالعرجون القديم .. ) ..
والإنسان الذي يرنّحه الكبر ويتطاول به العمر (ومن نعمره ننكسه في الخلق .. )
هنا أيضا تجد هذا النداء ب ( يا) متناثرا على امتداد نسيج السورة ..
ستراه فقط بعد أن تصدمك (يا) بدايتها ، بعد أن تقف متسائلا عن سرّها ، بعد أن تشفّر دماغك بها ثم تحاول حلّ ( الشيفرة) وأنت تقرأ ..
ضوء المعنى يلوح من وراء هذا المطلع شديد الترميز ( يس ..) ..
لتقبض على نداءات متكررة :
( يا حسرة على العباد ، ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون .. )
(يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا .. )
( .. يا قوم اتبعوا المرسلين .. )
(..يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي .. )
(ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان .. )
كلمات نسجت من رماد الفناء ..
حيث تنكفئ القدور وتنطفئ البدور ..
(يا سين ) عشها بعاطفتك وبانفعالك وبما ترسمه لك ..
تبدأ هذه السورة بهذه (اليا ) التي كأنها تنادي شخصا ما ... يا ، يا ، يا ...
مَن تنادي ..
هي نداؤك أنت على عتبات البرزخ ، حين تتأبط الرحيل ، لتمتطي ظهر قيامتك ..
مات ولد الشاعر ابن الرومي ، فرثاه في قصيدة مطلعها :
يا هل يُخَلَّدُ منظرٌ حَسنُ
لممتَّع أو مَخْبرٌ حَسنُ
أراد أن يسأل سؤالاً بارداً ( هل يُخلّدُ منظرٌ حسنٌ ..) ولكن روحه المضطرمة بنار الوجد ، المضطربة بزلزلة الفقد عاجلته بالنداء :
يا هل ..
وهل يكون نداءٌ قبل الاستفهام ب ( هل ) ، لولا أن صرخات روحه تملأ كيانه :
يا هل يُخَلَّدُ منظرٌ حَسنُ ...
نداء مَجْدُولٌ بالحريق .
هي رائحة الفناء ذاتها ، صوت ينادي ..
لكن سورة ياسين لا تتركك والفناء ، لا توصد عليك الباب ، بل تفتحه لك لحياة أخرى ..
تحشد لك مشاهد الإحياء إلى جانب مشاهد الفناء :
تبرز آية (الإحياء) ، تتبوأ مقعدها باكرا في السورة
( إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا .. )
لن يفوتك أبدا هذا التناسق والتنغيم (نحن نحيي ) فهذه الحاء الآتية بعد النون توحي بانبعاث الحياة بعد الموت ...
سلطان النغم هنا يفرض سطوته على النفس ..
أنت كما عهدناك يا موسى ، أفعالاً وانفعالاً :
{قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف :٦٤)
تاه كثيرون في حذفك ياء ( نبغي ) ..
لعلهم لم يجلسوا معك .
لعلهم لم يعيشوا معك .
لعل نبرات صوتك وبريقَ عينيك لم يداعب قلوبهم .
ألستَ من ألقى ألواحَ ربه لحظة غضب .
ألستَ مَن جرّ رأس أخيه وقبض لحيتَه ساعةَ غيظ ..
ألستَ مَن لم يصبر على الخضر ثلاثاً ..
ألستَ أنت العجول أبدا ( وما أعجلك عن قومك يا موسى ..)
ألستَ أنتَ المنفعلُ أبدا ..
فكيف لك إذن وقد حدث عند الصخرة ما حدث ، كيف ولك مع الرجل الصالح موعد مضروب :
(قَالَ أَرَءَیۡتَ إِذۡ أَوَیۡنَاۤ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّی نَسِیتُ ٱلۡحُوتَ وَمَاۤ أَنسَانِیهُ إِلَّا ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِیلَهُۥ فِی ٱلۡبَحۡرِ عَجَبࣰا)
[سورة الكهف 63]
أفتصبر وقد تحقق الوعد :
قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا ..
كيف لك أن تكملها ( نبغي) ، والمقام لا يناسب ، وانفعالك وقتَها لا يناسب ، وطبعك أنت لا يناسب..
أكنتَ ستقول (نبغي) وقد طغت عليك رغائبُك جميعها بالعودة ..
أوليس (نبغي) من( البغي) ..
ولو استطعتَ لحذفتَ منها أكثر ، فلعلّك تحذف (الغين) لتقول كما يقول بعضُنا في بعض لهجاتنا : نِبي ..
فما ( نِبي ) العاميّة إلا صورةَ ( نبغِ ) ..
ثم إنّك تعود لتحذف مرةً أخرى :
(قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰۤ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدࣰا)
[سورة الكهف 66] ..
(تُعَلِّمَنِ) بدل (تعلمني) ..
ما أكثر خفقان قلبك يا موسى .
ما أشد انفعالَك إذ تطغى عليك رغائبك في اتباع الرجل ..
لكن الرجل يعلمُ المقام ويعلمُك :
(قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِیعَ مَعِیَ صَبۡرࣰا)
[سورة الكهف 67] ...
( لن تستطيع ) تستفزّك ، تحرضك على استجماع قلبك ، لتؤكد للرجل أنك تستطيع :
(قَالَ سَتَجِدُنِیۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ صَابِرࣰا وَلَاۤ أَعۡصِی لَكَ أَمۡرࣰا)
[سورة الكهف 69] ..
سَتَجِدُنِیۤ ، بمد الياء طويلاً ، ربما ست حركات ..
هذه المرة حاولتَ أن تغالب طبعك ، هذه المرة حاولت أن تتأنى..
ولكنك لن تستطيع ..
لتغادرنا مستمعاً للرجل الصالح يقول :
(.. وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِیۚ ذَ ٰلِكَ تَأۡوِیلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرࣰا)
بتاء محذوفة في ( تسطع ) ، حذفاً يعمّق الرسالة ويكمّل الصورة ، ليبقى أثر الحادثة جميعَه في نفوسنا ، بأنك ( لم تسطع ) ، وبأنك النبي البشر ، لا ينقص انفعالُك من صلاحك ، ولا يغيّر اندفاعُك من مقامك ..
بل لعلهما صورةُ طهرك .
#سورة_الكهف_محمد_غازي_رزاز
#قرآن_ينبض_محمد_غازي_رزاز
من سورة الإنسان إلى صورة الإنسان :
(إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجࣲ نَّبۡتَلِیهِ فَجَعَلۡنَـٰهُ سَمِیعَۢا بَصِیرًا)
[سورة الإنسان 2]
أمشاجٍ نبتليه ..
لا يستطيع المرء منع نفسه عن الإمساك بكلمة (أمشاج) وتقليبها على وجوهها ، ما ظهر منها وما بطن ، فإن لها بريقاً يُغري بالمس ..
مشَج الشيء بالشيء أي خلطه به ..
إن لهذه الكلمة أياديَ تتشابك وظلالاً تتشابه مع الكلمة الانكليزية mixture ( مزيج ) ..
حتى على مستوى اللفظ :
Mixture = مِشْج
مَن الذي سلك معنى الكلمتين ومبناهما في اللغتين واحدا ..
ثم أترى هذه الصلات الخفية _ لفظاً ومعنى _ بين : مشَج و مرَج ( مرج البحرين ..) ومزَج ..
كلها وليدة رحم المعنى ذاته : الخلط والمزج والدمج ..
حتى كلمة مرَج تأخذنا الى merge بذات المعنى واللفظ ...
أنت تتكلم عن نسيج هذا الآدمي ، عن تشابك خلاياه فيما بينها، وعن تمازج أوصاله ..
شبكة أوردة وشرايين ، عظام تتمفصل فيما بينها، جلد ولحم وشعر وأعصاب ، دم وسوائل ..
أمشاج تتمازج ..
لكنّ أبعاداً أخرى يمكن رؤيتها ...
فأمشاج الأفكار أشد اختلاطا .
ما هاجت به النفس وماجت به الروح ..
خلائط من الدوافع والحوافز .
ما يتغلغل في أحشائنا من تقلبات الافكار ونبضات الانفعال ..
ما يدب فينا من وساوس وأوهام دبيبا خفيا ..
أنت متعدد الأبعاد ، مختلف الزوايا متراكم الطبقات ..
أنت مُبتلىً بروحك ، بدوافعك وحوافزك ، إقداماً وإحجاماً ، صعوداً وهبوطاً :
بكلمة واحدة ( أمشاجٍ نبتليه )...
هذا (نظام تشغيل)يتحكم فينا ونخضع له صاغرين..
فلنعد إلى السورة ، ولنقبض على آيتين متباعدتين :
(إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ یَشۡرَبُونَ مِن كَأۡسࣲ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا)
[سورة الإنسان 5]
(وَیُسۡقَوۡنَ فِیهَا كَأۡسࣰا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِیلًا)
[سورة الإنسان 17]
الحديث حديثُ مزجٍ مجددا :
مزاجها كافورا ، مزاجها زنجبيلا ...
هل ترى تجاوب الأحرف وتردد صداها بين ( أمشاج ) و ( مِزاج ) ..
عملية خلط مشابهة ، ولكن المكان مختلف ..
هناك شيء ما يضاف الى شراب أهل الجنة ، مادة ما ذات تركيز عالٍ تعدّل مزاجهم وربما تكوينهم ..
النطفة التي نُسِج منها هذا الآدميّ كأمشاج ( والنطفة رمز لكل ما يسيل ) لها صدى يتجاوب مع شراب أهل الجنة السائل الممزوج ..
لعل طريقة تكوين هذا الإنسان تخضع لتعديل في الجنة ، لعل التشفير يتعدل عبر إرواء متكرر بهذا الشراب المزيج ، إنه تحديث لنظام تشغيل هذا الإنسان إلى نسخٍ أعلى وأقوى وأقوم ...
نسخ فيها ميزات إضافية : ذاكرة أكبر ، معالج أحدث وأسرع ، مساحات تخزين أوسع ..
ثم انتبه إلى دقيقة :
جزاء أهل الجنة الذي تم تفصيله في سورة الإنسان هو _في معظمه_ حديث عن الشراب دون ما سواه ..
لاحظ تكرار السقيا وتركيزَها :
(إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ یَشۡرَبُونَ مِن كَأۡسࣲ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا)
(عَیۡنࣰا یَشۡرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ یُفَجِّرُونَهَا تَفۡجِیرࣰا)
[سورة الإنسان5 _ 6]
(وَیُطَافُ عَلَیۡهِم بِـَٔانِیَةࣲ مِّن فِضَّةࣲ وَأَكۡوَابࣲ كَانَتۡ قَوَارِیرَا۠ قَوَارِیرَا۟ مِن فِضَّةࣲ قَدَّرُوهَا تَقۡدِیرࣰا وَیُسۡقَوۡنَ فِیهَا كَأۡسࣰا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِیلًا عَیۡنࣰا فِیهَا تُسَمَّىٰ سَلۡسَبِیلࣰا)
[سورة الإنسان 15 - 18]
(عَـٰلِیَهُمۡ ثِیَابُ سُندُسٍ خُضۡرࣱ وَإِسۡتَبۡرَقࣱۖ وَحُلُّوۤا۟ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةࣲ وَسَقَاهُمۡ رَبُّهُمۡ شَرَابࣰا طَهُورًا)
[سورة الإنسان 21]
لا حديث هنا عن لحم طير ولا فواكه ، لا حديث عن قصور ولا حور ..
الجزاء كله شراب ..
كأنهم يتغذون بالشراب فقط ..
ألا ترى العرب حين يريدون التعبير عن توجهات قوم وأفكارهم يقولون ( مشاربهم..)
فكأن الشراب لا يروي الجسم الا بقدر ما يعدّل الفكر ..
فلا يسلك طريقه في الجسد ، في الشرايين والأوردة ثم متخّللاً الخلايا إلا ليأخذ تأثيره في أغوار النفس ..
الأمشاج هنا تأخذ بعدا اخر عبر الاختلاط والاشتباك بين الروح والجسد ..
ثم انظر إلى هذه المنحة العجيبة التي يُعطَونها : ( عيناً يشرب بها عباد الله يفجّرونها تفجيرا ...) :
هذه طاقات يحملها أهل الجنة، طاقات يفجّرون عبرها قيعان الجنة عيوناً ..
ولعلهم يفجّرون مع عيون الماء عيون المعاني والأفكار ، طاقات متزايدة من الاستيعاب ، مساحات أوسع من الوعي ..
ولعل انصباب المعاني وتقاطر الأفكار وتموّجها في نفوسهم يلقي فيهم ألوانا من اللذة لا يمكن الإحاطة به اليوم ..
أترى وصف الكؤوس بأنها ( قوارير ) ، والقوارير زجاج صاف شفاف : كأنه إيحاء لعملية التعديل التي يخضعون لها من ( الأمشاج ) والخلائط إلى ( القوارير ) توحيدا لطباعهم وتنقية لدوافعهم ...
أترى إيحاء صفاء ( القوارير ) ونقائها ضمن معاني الخلط والمزج التي تظلل السورة ..
وبعد ..
فإن رسالاتِ هذه السورة ومعانيها ستصلك محمولة على أنغام عسكرية ..
معاني غضّة تم تحميلها على إيقاع موسيقي متصاعد ينقل احساسك من درجة الى أقوى ، ومن انفعال الى أعلى ...
لتضيء في قلبك أشعّةُ معانيها العذبة ، شعاعاً إثر شعاع ..
#سورة_النازعات
#سورة_النازعات_محمد_غازي_رزاز
#قرآن_ينبض_محمد_غازي_رزاز
أنتَ لستَ من تراب فقط ، بل من طين .
جمُدَ بعضُنا عند التراب جفاةً غلاظا ، لكن آخرين تشربت أرواحهم الماء ..
والماء حياة ..
نبضٌ دفّاق ، و قلبٌ خفّاق ..
روح حانية ونفسٌ عالية ..
ظلالٌ وارفات ودموعٌ سواجم ..
ألفاظٌ رقيقاتٌ راقيات ، وكلمات عِذابٌ حِسان ..
قسا محروموه وتغلّظوا كحجارة أو أشد ..
شتان بين طينٍ بماء وبين حجر ..
إن أصحابَ الجنة هم أصحابُ الماء :
{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ۖ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد : 15]
ما هذا الجمال ..
عسل مصفى ، خمر لذيذ ، ماء صاف بلا كدر ، ولبن يصفو طعما وبياضا ...
من يشرب هذه المشروبات في الاخرة الا من كان عليها في الدنيا ..
ماذا تفعل بهم في الجنة وهم عليها مقيمون مداومون ..
كيف تتعمق فيهم صفات الحلاوة والطلاوة والصفاء والنقاء مع مزيد من تعاطي كؤوس اللذة هناك ...
حوارهم الشهير حين يعودون إلى أهليهم بعد خروج ليتفاجؤوا بهم أحسن طلعة وأبهى منظراً :
(لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً ...)
هي فعالية الماء في الأرواح والأجساد ..
هي نضرةُ النعيم .
كيف وأولئك الاخرون في النار ، يُسقَون ( ماء حميما ) يقطع الامعاء ويحرق الأكباد ..
لكن الأمر مع آية ( الماء ) هذه لا يتوقف على هذا ...
أنت في سورة تنتهي آياتها بحرف الميم :
( أعمالهم ، بالهم ، لهم ، أمعاءهم ، تقواهم ...)
و الميم في اللغة السامية الاصلية رمز لليم ، للبحر ، لتدفق الامواه ...
الميم ماء ..
بإيحاءات عديدة لما يكون عليها صاحب الماء ، من أناة وتدبر ، وحلم وعلم ..
الميم والماء يسكبان في حس صاحبها بعدَ النظر وتراحب الأفق ..
ستحرمك السورة من الميم كفاصلة مرتين :
{۞ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد : 10]
هذا مشهد دمار وخراب ، منظر ركام وحطام ، منظر حجارة متكسرة وتراب وغبار يخنق الأنفاس ..
لا ماء هنا ، لا ماء ، ولا فاصلة ميم ..
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد : 24]
لا ماء هنا أيضا ، لا روح ، لا نظر ولا تدبر ، لا أفق ولا سماء ..
جفاف وقحل في النفس وفي الحس .
لكن المفاجأة أن هذا جميعَه في سورة اسمها ( مُحَمّد) ..
تلك الكلمة التي تبنى على حرف الميم بوروده فيها ثلاث مرات ...
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يتدفق عذوبة :
ماءً غير آسن ..
لبناً شديد البياض ..
خمراً شديدة اللذة ..
وعسلا مصفى ....
في قلبه وروحه ، في عقله وتفكيره ، في قطرات دمه ودمعه ، بل و في ريقه أيضا..
محمد هو ذروة ما وصل إليه آدمي ، بشريّ طينيّ ...
محمد يتدفق ماء ...
كن كمحمد ، سقاك الله من سائغ القَطر ..
#سورة_محمد
#سورة_محمد_محمد_غازي_رزاز
#قرآن_ينبض_محمد_غازي_رزاز