الجهلُ بالطبيعة الإنسانية وأخطاءُ التربية
عبدالجبار الرفاعي
مَنْ يجهل الطبيعةَ الإنسانيةَ يجهل الطريقةَ المريحة للعيش في الأرض، ويجهل كيف يمكنه التغلبُ على متاعبِ وآلامِ حياته. لفهمُ الواقعي للطبيعة الإنسانية يكشفُ للإنسان عن شيء من أسرار ذاته المجهولة لديه، مضافًا إلى أنه يصوّب أحكامَه على الغير، ويجعل مواقفَه من مفارقات مواقفهم منصفة، ورأيه في ثغرات سلوكهم أكثر للموضوعية... الإنسانُ بطبيعته يعيشُ: القلقَ والطمأنينةَ، الاضطراب والسكينةَ، الخوفَ والأمانَ، التعبَ والراحةَ، الضجرَ والتسليةَ، السأمَ والابتهاجَ، الاكتئابَ والانشراحَ، البكاءَ والضحكَ، الانقباضَ والانبساطَ، الحزنَ والفرحَ. افتراضُ إنسان يفرحُ ولا يحزنُ، يبتهجُ ولا يسأمُ، يضحكُ ولا يبكي، افتراضٌ غير واقعي لا يشبه الإنسانَ في الأرض. كما أن افتراضَ إنسان يعيش في كل حالاته “اللحظة الآنية”، وينفصل بشكلٍ تام عن ماضيه ومستقبله، افتراضٌ غيرُ واقعي أيضًا. الماضي مكوِّن وجودي لحاضر الإنسان، مضافًا إلى أنه مكوِّنٌ سيكولوجي، اللاشعورُ مكوِّنٌ عميقٌ لشخصية كلِّ إنسان لن يختفي مادام حيًّا. يتعذر على الإنسانِ أن يغيّب المستقبلَ نهائيًّا من شعوره، أحيانًا يفرضُ التفكيرُ بالمستقبل حضورَه بقوة كأفقٍ مظلم أو مضيء في لحظة الإنسان الآنية... أقرأ كتاباتٍ، تدعو للعيش في “الآن” فقط، وتشدد على أن مَنْ يريد أن يعيش سعيدًا ما عليه إلا أن يتخذ قرارًا بذلك. ويتكرر فيها القول: مَنْ يريد أن يعيش سعيدًا ما عليه إلا مغادرة الماضي والشطب عليه تمامًا، وغلق التفكير بالأمس، والخلاص من كوابيسه بشكل نهائي، وحذفِه من الشعور واللاشعور. مَنْ يريد أن يعيش سعيدًا عليه الكفّ عن النظر للمستقبل، وصرف النظر عن أي شيء مقلق يتصل به بشكل كلي، وغلقِ التفكير بالغد، والتحرر من الانهمام بالمصير. هذه الكتاباتُ بليدةٌ تجهل أبسط الحقائق العلمية عن طبيعة الإنسان، حين تنظر إليه وكأنه كائنٌ ميكانيكي مادي، ليس عليه إلا أن يلتزم بلائحة توصيات جاهزة ويطبقها بحذافيرها إن أراد أن يمتلك السعادة...
تتمة المقال على هذا الرابط:
https://afkaar.center/2021/04/06/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D9%84%D9%8F-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A3%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A1%D9%8F-%D8%A7%D9%84/
الجهلُ بالطبيعة الإنسانية وأخطاءُ التربية
د. عبدالجبار الرفاعي
الإنسانُ البسيطُ لا يستطيعُ أن يكتشفَ الإبهامَ والغموضَ في شخصية الكائن البشري، ويعجزُ عن التوغلِ في اكتشاف شيءٍ من الطبقات البعيدة الغور في داخلة. يرى مثلُ هذا الإنسان الواقعَ رؤيةً مسطّحة، ويفهمُ الحياةَ فهمًا ساذجًا، يحسبُ الحياةَ شديدةَ الوضوح وكلَّ ما فيها مكشوفًا، وهو لا يدري أن الحياةَ تجربةٌ عمليةٌ لا تتكشّف للإنسان إلا بالعيشِ فيها والصبر على اختباراتها القاسية، وخوضِ مساراتها الوعرة، والوقوفِ على محطاتها المختلفة، والتغلّبِ على منعطفاتها الشاقة، والنجاةِ من مباغتاتها المريعة. الحياةُ توجد بالتجارب والاختبارات والممارسات والأفعال والمواقف، ولیس بالتساؤلات الساذجة والإجابات المبسّطة والتوصيات الجاهزة، ولا بالتمنيات المعلّبة، والرغبات والأحلام، والكلمات الرخوة. لا يمکن اختزالُ الإنسان وتعقیدات عيشه في الحياة بإجابات ونتائج سريعة واضحة. الإنسانُ خليطٌ من عناصر وصفات وخصائص وحالات متناقضة.
الفهمُ الواقعي للطبيعة الإنسانية يكشفُ للإنسان عن شيء من أسرار ذاته المجهولة لديه، مضافًا إلى أنه يصوّب أحكامَه على الغير، ويجعل مواقفَه من مفارقات مواقفهم منصفة، ورأيه في ثغرات سلوكهم أكثر للموضوعية. ولا يمكن تحقّق هذا الفهم إلا بالتمسّك ِبالعقلانية النقدية، واعتمادِ مناهج التفكير العلمي ومعطياته الفائقة الأهمية، لأن العقلانيةَ تتميز بنقدِها لطرائق تفكيرها، وتمحيصِها المتواصل لما تعتمده من المناهج، وما تنتهي إليه من النتائج، وغربلتِها كلّ مرة، واختبارِها المتكرر لصلاحية أدواتها. تفضح العقلانيةُ النقدية أخطاءَ التفكير العلمي، وتكشف عن هناته وثغراته على الدوام، وذلك ما يدعو كلَّ عاقل للوثوقِ بإمكاناتها، واعتمادِ فهمها في تفسيرِ طبيعة الكائن البشري، وفهمِ حقائق الحياة.
الإنسانُ بطبيعته يعيشُ: القلقَ والطمأنينةَ، الاضطربَ والسكينةَ، الخوفَ والأمانَ، التعبَ والراحةَ، الضجرَ والتسليةَ، السأمَ والابتهاجَ، الاكتئابَ والانشرحَ، البكاءَ والضحكَ، الانقباضَ والانبساطَ، الحزنَ والفرحَ. افتراضُ إنسان يفرحُ ولا يحزنُ، يبتهجُ ولا يسأمُ، يضحكُ ولا يبكي، افتراضٌ غير واقعي لا يشبه الإنسانَ في الأرض. كما أن افتراضَ إنسان يعيش في كل حالاته "اللحظة الآنية"، وينفصل بشكلٍ تام عن ماضيه ومستقبله، افتراضٌ غيرُ واقعي أيضًا. الماضي مكوِّن وجودي لحاضر الإنسان، مضافًا إلى أنه مكوِّنٌ سيكولوجي، اللاشعورُ مكوِّنٌ عميقٌ لشخصية كلِّ إنسان لن يختفي مادام حيًّا. يتعذر على الإنسانِ أن يغيّب المستقبلَ نهائيًا من شعوره، أحيانًا يفرضُ التفكيرُ بالمستقبل حضورَه بقوة كأفقٍ مظلم أو مضيء في لحظة الإنسان الآنية.
أقرأ كتاباتٍ، تدعو للعيش في "الآن" فقط، وتشدد على أن مَنْ يريد أن يعيش سعيدًا ما عليه إلا أن يتخذ قرارًا بذلك. ويتكرر فيها القول: مَنْ يريد أن يعيش سعيدًا ما عليه إلا مغادرة الماضي والشطب عليه تمامًا، وغلق التفكير بالأمس، والخلاص من كوابيسه بشكل نهائي، وحذفِه من الشعور واللاشعور. مَنْ يريد أن يعيش سعيدًا عليه الكفّ عن النظر للمستقبل، وصرف النظر عن أي شيء مقلق يتصل به بشكل كلي، وغلقِ التفكير بالغد، والتحرر من الانهمام بالمصير. هذه الكتاباتُ بليدةٌ تجهل أبسط الحقائق العلمية عن طبيعة الإنسان، حين تنظر إليه وكأنه كائنٌ ميكانيكي مادي، ليس عليه إلا أن يلتزم بلائحة توصيات جاهزة ويطبقها بحذافيرها إن أراد أن يمتلك السعادة.
ثغراتُ وأخطاءُ التربية وعقدُها وجروحُها وآثارُها المؤلمة يعود كثيرٌ منها إلى الجهل بطبيعة الإنسان. الإنسانُ ليس بوسعه أن يفعلَ إلا ما بوسعه أن يفعلَه، الإنسانُ لا يستجيب إلا إلى ما يمكنه الاستجابة له. طبيعةُ الإنسان لا تخضع لقرارات يفرضها على نفسه بهذه الكيفية الساذجة. القراراتُ والمواقفُ التي تفوق قدرةَ الإنسان لا يطيقها، ولا يمكنه أن ينفذها إلا أن تُفرَض عليه بالإكراه والعنف والتعذيب. الإنسانُ لا يطيق إلا ما تستجيب له بنيتُه النفسية، وطاقتُه العصبية، ونمطُ تربيته، ومستوى وعيه للحياة، وقدراتُه المتنوعة، وأهمها قدرته على التحكم بإرادته، وقدرته على تحمل ما يتنكر له استعدادُه الشخصي.
أكثرُ كتابات ما يسمى بـ : "التنمية البشرية"، أو "تطوير الذات"، أو "علم الطاقة"، مفاهيمٌ غير علمية، وعباراتٌ متعجّلة مبسّطة، وشعاراتٌ سطحية مكرّرة، تتلاعب بمشاعر الناس. أضحى ركامُ هذه الكتابات مبتذلًا، يأكلُ وقتَ القراءِ غيرِ الخبراء، وتستنزفُ توصياتُها الواهنة تفكيرَهم، ولغتُها الرثة بيانَهم. تفشّت هذه الكتاباتُ التي تجهل الطبيعةَ الإنسانيةَ كالوباء بين القراء في السنوات الأخيرة، وأوهمت عددًا منهم بأنها تعالج كلَّ متاعبهم النفسية. أكثرُ هذه الكتابات هزيلٌ، لا يقع في فتنتها إلا الناسُ المغفلون، الذين لا يفكّرون بتأملٍ ورويةٍ وتدقيق، ولا يمكن أبدًا أن تغوي العقولَ الحكيمة اليقظة.
من الضروري الارتقاءِ بالحوار بين الأديان، والانتقالِ من الكلام المكرّر، كلام العلاقات العامة والمجاملات إلى اعتماد المناهل الروحية والقيم الأخلاقية المختزنة في جوهرها، والبناءِ عليها بوصفها منطلقاتٍ للبحث في دراسة الأديان والحوار بين أتباعها. في ضوء ذلك ينبغي رفضُ مواقف كلّ من يستخفّ بمعتقدات أيّ دين آخر أو يسفهها، وأن تتعاقدَ كلُّ الأديان على رفض التكفير، وإن كان التكفيرُ يمتلك حججَه وأدلتَه داخل منطق الديانة وتراثها، مهما كانت تلك الحجج والأدلة مقنعةً ومقبولةً لأتباع الديانة. وأن ينطلق الكلُّ من واقع الحياة البشرية، وليس من الرغبات والأماني والأحلام والأوهام، هذا الواقع الذي يدلل على أن الناسَ لا يمكن أن يجتمعوا على قناعة واحدة، أو اعتقاد مشترك، أو ديانة واحدة. "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ" .
#الإيمانُ_يتكلّمُ_لغةً_واحدة
د. #عبدالجبار_الرفاعي
https://alsabaah.iq/42925/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86-%D9%8A%D8%AA%D9%83%D9%84-%D9%85-%D9%84%D8%BA%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D8%AD%D8%AF%D8%A9?fbclid=IwAR1_EZwFKKbUFHWaF8z24yFvT0bD97CafK24L-LG1J6yEnhz1b765zX9Cs0
الإيمان يتكلّم لغة واحدة
د. عبدالجبار الرفاعي
وجودُ الإنسان مرآةُ وجود الله. الإيمانُ نورٌ يكشفُ للإنسان حقيقةَ وجودِه، ثمرةُ الإيمان تُعرف بإثرائه لسكينة الروح، وطمأنينة القلب: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" . الإيمانُ حالةٌ للروح تعيشها، وتجربةٌ للحقيقة تتذوّقها. يسكنُ الإيمانُ الروحَ مثلما تسكنه، ويرتوي بالروح مثلما ترتوي به. الإيمانُ عودةُ الروح إلى أصلها الإلهي، أودع اللهُ في كلّ إنسان روحًا منه، إلا أن هذه الوديعةَ تحتجب متى احتجب الإنسانُ عن الله، اللهُ لا ينسى الإنسانَ إلا عندما ينساه الإنسانُ: "نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ" . لا يستردّ هذه الوديعةَ إلا الإيمان، الإيمانُ إيقاظٌ لصوت الله في ضمير الإنسان، وانبعاثٌ لما ينتمي الى الله فيه. الروحُ تنتمي إلى الله، إنها وديعتُه التي استؤمن الإنسانُ عليها، كما يؤكّد القرآنُ الكريم ذلك، فإذا ذكرَ اللهُ الروحَ في القرآن قرنها به،كما تشير هذه الآية وغيرُها: "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" .
الإيمانُ يكرّس الروحَ والقلب ويتوحّد بهما، حتى يبلغ توحّدُ القلب والروح بالإيمان مرتبةً لا يخضعان معها لمعادلاتِ الذهن ومشاكساتِه مهما كانت. الإيمانُ حالةٌ ديناميكيةٌ حيّة، تتغذّى وتنمو وتتطوّر وتتجذّر. إنه جذوةٌ متوهجة،كأنها طاقةٌ مشعّة، يضيء الإيمانُ الروحَ لحظةَ تحقّقها به، مثلما تضيء الكهرباءُ المصباحَ المظلم لحظةَ وصله بها، وهذا معنى كونه حالةً نتذوّقها كما نتذوّق الطعامَ الشهي والشرابَ اللذيذ.كلُّ ما يتذوقه الإنسانُ ضربٌ من التجربة، والتجربةُ تفشلُ لغةُ الإنسان في التعبير عن حقيقتها وكلِّ حالاتها وأطوارها.
يفيضُ الإيمانُ على صاحبه طاقةً مُلهِمة، إذ لا يجد نفسَه في غربة إلا ويهمس إليه صوتُ الله، فتستفيق روحُه بعد غفوتها، وتمتلئ بعد خوائها، وترتوي بعد ظمئها، ويتجدّد وصالُها بمن أودعها عنده. في كلّ غيابٍ للإنسان عن ذاته يرى حضورَ الله هو الحضور، واحتجابَ الله هو الاحتجاب.
الإيمانُ مُستقرَّه القلب، ومأواه الروح. إنه ليس صورةً ندركها، الصورةُ يختزنها الذهنُ. الإيمانُ، خلافًا للفهم والمعرفة، لا يتحقّق بالنيابة، في عملية الفهم يمكن أن يتلقّى الإنسانُ معارفَه من شخصٍ آخر، أو يقلّد غيرَه في آرائه. الإيمانُ تجربةٌ تعكس تسامي الروح في سفر النور من الخلق إلى الحق. إنه ضوءٌ ينبعث داخل الإنسان، إنّه صيرورةٌ تتحقّق فيها الروحُ وتتكامل، ونمطُ وجودٍ يرتوي به الظمأُ الأنطولوجي للمقدس، إنه مما تضيق في التعبير عنه العبارةُ، ولا تشير اليه إلا الإشارة.
يحقّق الإيمانُ الإنسانَ في طور وجودي جديد، فحيث يسافر الإنسانُ للحقّ تتكرّس قدرتُه، وتترسّخ إرادتُه، وتتعذّر هزيمتُه. لأنه يتحقّق بالحق فلا يشعرُ بهشاشةِ وخواء وجوده. بذلك يجعل الإيمانُ الاشياءَ المستحيلةَ ممكنة، والشاقّةَ سهلة، والمرّةَ حلوة.
الإيمانُ وحبُّ الله كلاهما كيمياءٌ للروح،كلاهما ينبثقان من جوهر واحد. يولدان معًا، ويرتضعان معًا، ويتكرّسان معًا، ويتوحّدان معًا، فحيث ينمو الإيمانُ ينمو الحبُّ، وحيث يذبل الإيمانُ يذبل الحبُّ. إنهما في صيرورة وتفاعل وفوران، يتحوّل الإيمانُ إلى حب،كما يتحوّل الحبُّ إلى إيمان. الإيمانُ عصارةُ الحبّ، والحبّ عصارةُ الإيمان،كلا الحالتين تستقيان من الشلّال ذاته، يصبح كلّ منهما صورةً لحقيقة واحدة متعدّدةَ الوجوه. حين يصير الإيمانُ حبًّا والحبُّ إيمانًا تشهد حياةُ الإنسان أنوارَ الأبد. ما أجمل التعبير الوارد في مناجاة المحبين للامام السجاد "ع": "اِلـهي مَنْ ذَا الَّذي ذاقَ حَلاوَةَ مَحَبَّتِكَ فَرامَ مِنْكَ بَدَلاً، وَمَنْ ذَا الَّذي أنـِسَ بِقُرْبِكَ فَابْتَغى عَنْكَ حِوَلاً".
الإيمانُ فرحُ الروح في زمن قلما تفرح فيه الروحُ، إذ يتهدّدُ العالَم تدينٌ كئيبٌ يغمر الروحَ بالأسى. في الإيمان تتناغم الأديانُ وتتعايش وتأتلف، بعد أن تكتشف شفرةَ اللغة الروحية الواحدة المشتركة التي يتكلّم فيها إيمانُها، وإن كانت في الاعتقاد تتكلّم لغاتٍ شتى لا تفقه كلٌّ منها الأخرى. يقول ابن عربي: "تنوعت المشاربُ، واختلفت المذاهبُ، وتميزت المراتبُ، وظهرت الأسماءُ الإلهية والآثارُ الكونية، وكثرت الأسماءُ والآلهةُ في العالم" .
أثر رؤية المفسِّر للعالَم في التفسير https://alsabaah.iq/38643/%D8%A3%D8%AB%D8%B1-%D8%B1%D8%A4%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D8%B3-%D8%B1-%D9%84%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84-%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%B1?fbclid=IwAR2jMPIXXZbuEbMFNFkvufSys9D94XtmQsnhSbj01rhiz_oJXPxiAOg0nUo
Читать полностью…تسجيل صوتي لمقالة: "الطبيعة الإنسانية ملتقى الاضداد"، التي هي فقرة من فصل في كتاب الدكتور عبد الجبار الرفاعي القادم يصدر هذه السنة، الذي هو الكتاب الرابع في سلسلة كتبه عن الدين.
المقالة منشورة في جريدة الصباح البغدادية، بتاريخ 4-3-2021. التسجيل بصوت الأستاذ عبدالعاطي طلبة، خريج كلية الدعوة الإسلامية في الأزهر بالقاهرة.
الطبيعةُ الإنسانيةُ ملتقى الأضدادِ
د. عبدالجبار الرفاعي
من أهمّ الاكتشافات التي يكتشفها الإنسان في حياته هو عجزه عن فهم نفسه فهمًا دقيقًا تامًا كاملًا شاملًا، وعجزه عن اكتشافِ الطبيعة الإنسانية وفهمِها فهمًا علميًا تفصيليًا. وإن كان بعضُ الناس لحظةَ تتحدث معه يخبرك أنه يعرفك بدقة وبالتفصيل، ويعرف كلَّ شيء في داخلك، وهو لا يدري أنك أنت لا تعرف نفسَك إلى هذه الدرجة التي يزعمها هو.
ما أقسى أن تكون نفسُ الإنسان غامضةً حتى لنفسه، ما لا يعرفه الإنسان عن نفسه أكثر مما يعرفه عنها. يعجز الإنسانُ عن معرفة كثيرٍ مما يحجبه عالمُه الباطني بشكلٍ واضح ودقيق، لذلك يبوح له كلُّ منعطفٍ حادٍّ في حياته بشيءٍ يثير دهشتَه مما تخفيه نفسُه عنه، ويظل في رحلةِ اكتشافٍ لنفسه مادام حيًا، يلتقط في هذه الرحلة كلَّ مرة شيئًا مما يغوص في أعماقه. نبّه إلى ذلك أبو حيان التوحيدي من قبل بقوله: "إنَّ الإنسانَ أشْكَلَ عليهِ الإنسانُ". وذهب محيي الدين بن عربي إلى: "أن الإنسان بنفسه هو الطلسم الأعظم والقربان الأكرم، الجامع لخصائص العالَم"، بصيرةُ محيي الدين يتكشف تتكشف فيها بعض الأسرار المختزنة في طبيعة الإنسان.
يكون الإنسانُ أعجزَ لو حاول معرفةَ غيره، إذ تتعذّر عليه معرفةُ كلِّ شيء في أعماق الشخصية الإنسانية وما يكتنفها من غموض وخفاء. أكثرُ الناس يحاول أن يعلن عن شخصيته بكيفيةٍ تخفي أكثرَ مما تعلن، وتضمر أكثرَ مما تظهر، وتتجلّى هذه الحالةُ بشكلٍ أوضح في المجتمع الذي يتعرّض فيه الإنسانُ منذ ولادته لتربيةٍ غير سليمة، ويتعلم على وفق نظامٍ تعليمي غير مؤسس على أسس علمية صحيحة، وتسود محيطَه الاجتماعي قيمٌ محلية متشدّدة ومعاييرُ مزدوجة، وتتحكم في حياة الناس ومصائرهم تقاليدُ عشائرية مغلقة، وسلطةٌ سياسية قمعية، في مثل هذا المجتمع يضطر الإنسانُ إلى أن أن يختفي خلفَ أقنعة ينتقيها بعناية لنفسه، لئلا يُفتضَح ما في داخله، وتتعرض مصالحُه للضياع، وربما حياتُه للخطر.
الإنسانُ كائنٌ مركبٌ غامضٌ، ما يجري من قوانين في الطبيعة لا تنطبق كلُّها عليه. تظل الطبيعةُ الإنسانية عصيةً على فهم كلِّ طبقاتها بشكل واضح، حتى على الخبراء المتخصصين. لا يمكن أن ينتهي علمُ النفس إلى مواقف نهائية حاسمة في الكشف عن كلِّ أسرار الطبيعة الإنسانية، وذلك ما يؤشر إليه الاختلافُ الواسع الذي يصل حدَّ التناقض في بعض الحالات في مدارسِ علم النفس المتعدّدة، ومواقفِها المتنوعة في تفسيرِ سلوك الإنسان واكتشافِ الدوافع المكتومة لمواقفه في مختلف أحواله.
الطبيعةُ الإنسانيةُ عميقة معقدة متضادّة، تختزن الأسرارَ حتى لدى أولئك الناس الذين نحسبهم سذّجًا إذ: "ليس من شخص، وإن كان زريًا قميئًا، إلا وفيه سر كامن لا يشركه فيه أحد" يقول أبو حيان التوحيدي. ما هو غاطسٌ في الإنسان أعظمُ وأشدُّ وأخطر مما هو ظاهر. الإنسان كائنٌ يحتل اللاشعورُ دورًا أساسيًا في تشكيل فهمه ومواقفه وسلوكه، لا تستقلّ مشاعرُ الإنسان عن عقله، ولا يستقلّ عقلُه عن مشاعره. يرى علمُ النفس التحليلي ان "كلَّ شخص هاوية، ستصاب بالدوار لو أنك نظرت إلى أعماقه" كما يقول مؤسسه فرويد.
أثرُ عواطف الإنسان ومشاعره وانفعالاته أساسيٌّ في قراراته ومواقفه. أحيانًا يتخذ الإنسانُ قراراتٍ هو لا يعرف نتائجَها، ويتكلم كلماتٍ هو لا يدري لماذا تكلّمها، ثم سرعان ما يندم عليها، لكنه لحظةَ الندم يعجز عن تدارك آثارها وارتداداتها المؤذية عليه وعلى مصالحه وعلاقاته وحياته. يمكن أن يرتكب الإنسانُ جريمةَ قتلٍ في لحظة غضب عنيفة من دون عداوة سابقة أو أسباب معروفة، بعضُ الناس يفتقد عقلُه القدرةَ على التحكم بإرادته ومواقفه لحظات الانفعال الهائجة، فيتخذ قراراتٍ حمقاء، ومواقف رعناء، تصادر عليه مصيرَه، وتفسد عيشَه، وتدمّر حياتَه. وقد صوّر جلال الدين الرومي في المثنوي التنازع في ذات الإنسان بين الشر والخير، في حديثه عن موسى بوصفه يرمز للإرادة الخيرة، وفرعون بوصفه يرمز للإرادة الشريرة، بقوله: "إن موسى وفرعون في وجودك، ينبغي أن تبحث عن هذين الخصمين في وجودك".
اكتشفَ بعضَ خفايا الطبيعة الإنسانية علمُ النفس وعلومُ الإنسان والمجتمع ومختلفُ العلوم الحديثة، ومازالت تتواصلُ اكتشافاتُها، لأن الطبيعةَ الإنسانية تختزن الأسرارَ التي أودعها اللهُ في الخلق. ذلك ما يقوله الفلاسفةُ والعلماءُ، ويتكشف شيءٌ منه في استبصاراتِ العرفاء الحاذقة. يشير محيي الدين بنُ عربي إلى طبيعةِ الإنسان وما ينطوي عليه، وكيفيةِ خلقه من الأضداد، بقوله: "واعلم أن الإنسان شجرةٌ من الشجرات، أنبتها اللهُ شجرةً لا نجمًا، لأنه قائمٌ على ساق، وجعله شجرةً من التشاجر الذي فيه، لكونه مخلوقًا من الأضداد، والأضدادُ تطلبُ التخاصمَ والتشاجرَ والمنازعةَ". ويقول محيي الدين في محل آخر: "لا شئ أوسع من حقيقة الإنسان ولا شئ أضيق منها".
في النزعة الإنسانية عند عبدالجبار الرفاعي:
الدينُ حياةٌ في أفق المعنى
د. نايلة أبي نادر
https://al-aalem.com/article/49133-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B2%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%86%D8%AF-%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%81
يتحدّث المؤلف عن الالهيات الجديدة التي بإمكانها ان ترسم حدود المقدّس والدنيوي، وتكشف عن الاقنعة التي تستر ما هو دنيوي لكي تجعله مقدساً. وهي تشير ايضاً الى أن الإنسان يحتاج الى المقدّس بشكل دائم، حتى ان الحياة "لا تطاق" من دون المقدس، كما أنها لا تطاق ايضاً عندما يبتلع المقدس كل ما هو دنيوي ويخلع عليه الوشاح الديني، حارماً العقل من تجلّي ابداعاته ومكاسبه في مجالات الحياة المتعدّدة.
ان من يقرأ كتاب الرفاعي يلمس عن قرب الهمّ الذي يشغل فكره. انه على مدى فصول الكتاب لا ينفكّ يبرز الوجه المشرق للدين خلافاً لما يظهره الخطاب السلفي والممارسات الضيّقة لمن يتبنّى هذا الخطاب، كما ويبرز الحاجة الملحّة والمتزايدة اليوم أكثر من أي وقت مضى للفكر النقدي المنفتح على المعرفة وتجربة الآخر، في آن معاً. انه في تشديده على الوجوه النيرة التي أضاءت تاريخ الفكر الاسلامي بالفكر النقدي المتجدّد والمتحرّر من القيود الضيقة التي تسجن الفكر في إطار ايديولوجي ضيّق، يريد ان يلفت الانتباه الى ما يخالف مضمون الخطاب السلفي الطاغي اليوم، والذي يقتحم الشاشات ومختلف وسائل الاعلام بشكل واسع.
أردنا من خلال هذا البحث ان نسلّط الضوء على مفهوم الرفاعي الخاص بالدين والنزعة الإنسانية فيه، اعتقاداً منا بأن في ذلك إضاءة على نموذج من الخطاب الاسلامي المعاصر المناهض للتقوقع والتعصّب وتكفير المختلف، والذي نحتاج اليه اليوم بقوة. من هنا اخترنا أن نتوقف عند فصلين من الكتاب هما: "الدين هو الذي يمنح الكائن البشري معنى لحياته وسلوكه"، و"الأخلاق والنزعة الإنسانية في الدين"، وذلك من باب الإضاءة على المفاصل النقدية الرئيسة في فكر الرفاعي.
الدينُ حياةٌ في أفق المعنى عند عبدالجبار الرفاعي:
يتناول في الفصل الأول معنى المقدّس ويميّزه عن الدين كخطوة أولى، ثم يتوقف عند مفهوم الدين ودوره في حياة المؤمن كما في المجتمع من خلال حوار مع علي السومري نُشر في صحيفة الصباح العراقية. أما في الفصل الحادي عشر فنجده يبحث في مسألة التأليف في الاخلاق في الفكر العربي طارحاً علاقة الإنسان بالتديّن ومفصلاً القول في ضرورة "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين".
يبدأ الفصل الأول بالبحث في مفهوم المقدّس، فيرى المؤلف انه يتسع لأكثر من معنى، بسبب ارتباطه بشبكة واسعة من العلاقات المفاهيمية، وبنظام من المراجع والأحكام القيمية. ويستعرض من ثم مختلف المعاني التي يشير اليها هذا مفهوم، (مثل المتعالي، وما يرتبط بالدين،... ألخ)، وما يقابله من مفاهيم (مثل دنيوي، ومدنّس، عادي، ورجس،... ألخ). ثم يميّز بين المقدس والديني شارحاً أن مجال المقدس اوسع على صعيد التداول بوصفه مرتبطاً بطبيعة المجتمعات وحدوده فيها. يرى ان كل شيء يُمنح بُعداً قيمياً يتجاوز الوجود البشري، يمكن النظر اليه كمقدس على نحوٍ ما، لأن الإنسان يصنع مقدّساته، وهي ليست وليدة الصدفة. بمعنى آخر، "إن تكوين أية فكرة عن ما هو "مقدس" إنما يخضع لفهم الإنسان ونظرته الى وجوده ووجود العالم الذي يحيا فيه. من هنا نجد ان أشكال المقدس وتمثلاته قد تتنوّع وتتعدّد لدى الإنسان تبعاً لثقافته حتى انها تخرج عن المسألة الدينية التي تبدو للوهلة الاولى انها الميدان الحصري له فقط". (عبد الجبار الرفاعي، المصدر السابق، ص17)
ان هذه النظرة للمقدس مشبعة بالانفتاح على عالَم الانتروبولوجيا الرحب، ومتحرّرة من الاطار المرسوم مسبقاً لهذا المفهوم لتغوص به في العمق. فالمقدس ليس محصوراً فقط بما يحدّده الدين، انما بات مرتبطاً بما يراه الإنسان ايضاً. هنا تبدو جلية النزعة الإنسانية التي توجه التحرّي المعرفي لدى الرفاعي. بيّن كم إن عمل الإنسان وهمومه الفكرية لها الأثر الكبير في تحديد المفاهيم، ومن بينها مفهوم المقدس.
يرى ان فضاء المقدس رحبٌ، مفتوحٌ على اللامتناهي، لا يمكن حصره بمجال ضيّق الافق، اذ أنه يرتبط بتنوّع الثقافات والمجتمعات والازمنة." فكل شيء سواء كان انساناً أو كائناً آخر أو زماناً أو مكاناً، يمكن أن يغدو مقدساً في اطار مشروطية معينة. من خلال انتروبولوجيا الدين، وسوسيولوجيا الدين، وعلم نفس الدين، والهرمنوطيقا، بوسعنا أن نتعرّف على تجلّيات المقدس وتعبيراته وطبقاته ونفوذه وعوالمه ومجالاته". (عبد الجبار الرفاعي، المصدر السابق، ص18)
الدينُ حياةٌ في أفق المعنى في النزعة الإنسانية
عند عبدالجبار الرفاعي
بقلم: د. نايلة أبي نادر
عندما يصبح اسم الإنسان عنواناً لمسار، وعلامة مفارقة تُرصَد في وسط الضوضاء، يكون العمر قد أثمر فعلاً وأفاض.
عندما يقترن الفكر بالعمل، تتوهّج النفس مشرقة أبهى ألوانها فترسل "إشاراتٍ وتنبيهاتٍ"، توقظ وعي الآخر من سباته العميق.
عندما تلوحُ في أفق المعنى محاولاتٌ جديدةٌ تُنبىء بقراءة مختلفة عما سبق، تُمطر السماء فيضاً من أمل على عقول أضناها العبث.
يبدو فعل الكتابة في وسط الحراك القائم على الساحة العربية الاسلامية أمراً غير ملح، والمستفيدون منه قلائل، لكن الاصرار على هذا الفعل عمل جبار في حدّ ذاته، يقاوم اليأس ويدحض القنوط ليرفع النفس العاقلة الى مرتبة التأمل والتفكّر والابداع.
يشكّل كتاب "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين" للدكتور عبد الجبارالرفاعي محطة مشرقة في ظلمة التعصّب والغوغائية والكراهية التي تكبّل العقل وترمي به في متاهات مضنية. لم يكتفِ المؤلّف بالاحتجاج على ما يُرتكب من عنف باسم الدين. كما لم يرُق له التوقف عند الدفاع عن الدين في وجه التيارات المادية والالحادية المتطرّفة. حطّ رحال قلمه عند الدفاع عن الدين ليحميه من الدين نفسه، من الفهم الخاطئ لمضمونه المشرق. حاول ان يشير الى مكامن الاشراق الإنساني الراقي في التجربة الدينية، هذا الاشراق الذي يصدّ كل محاولة لالغاء الآخر، ويحرّم العنف، ولا يستعبد الإنسان.المهمة انقاذية، والمبادرة جريئة، والخطاب ثوري انقلابي يستحق وقفة تحليل وتأمل.
تتكشّف في طيات الكتاب ملامح الفلتات العرفانية التي جذبت قلم المؤلّف وأخذته بعيداً حيث الاشياء لها وهجٌ آخر، والكلمات لها معانٍ تتجدّد بتجدّد قارئها. يبدو جلياً في الكتاب مدى غرق صاحبه في مياه المعنى العرفاني. انه ومنذ الصفحة الاولى يفتتح البحث بقطرات ترشح من معين ابن عربي: "واعلم ان الشفقة على عباد الله أحقّ بالرعاية من الغيرة في الله". فكتاب الدكتور عبد الجبار لا يُقرأ فقط من عنوانه، انما ايضاً من العبارة التي صدّر بها الصفحة الاولى. قولٌ لابن عربي ملفتٌ فعلا في تقديمه الشفقة على الوضع الإنساني، وما يعانيه من اضطهاد باسم الدين، وجعله هذه الشفقة أولوية يجب الانتباه اليها اكثر من "الغيرة في الله". لماذا هذا الانقلاب في تظهير فهمٍ للدين مغايرٍ عما هو سائد وسط الحملات التكفيرية؟ لماذا جعل الإنسان في المقام الاول؟ هل ما نشهده اليوم من انزلاقات نحو العنف المدمّر والقابض على انفاس الحياة هو فعلاً تديّنٌ يجب نشره واتباعه؟ هل هذا ما يبغيه الدين حقاً في دعوته السماوية؟
اسئلة قادت مسار الكاتب نحو شاطئ الانتروبولوجيا التي تظهّر عمق البعد الإنساني في الدين، وجعلته يبحث عن تجارب عرفانية وفلسفية وكلامية من أجل تدعيم خطاب الانسنة وتهميش الخطاب التكفيري والتدميري. هو الذي بات يرى في التديّن فعلاً مضاداً للدين. هو الذي أتعبته التجربة العراقية، وقطعت بوحشيتها انفاس البهجة في قلبه. هو المجبول بصراخ المعذّبين، والمتّـشح بأنات المتألّمين التي تتردّد اصداؤها في صوته. لقد تحوّل التديّن في نظره "الى اعصار عاصف يجتاح الحياة، ويحطم كافة المكاسب المدنية والحضارية والمعرفية للبشرية. انه سادية وجدانية ومعرفية، تتلذّذ بقتل الضحية واستباحتها، ومازوشية فظيعة تحتفل بتدمير النفس وهتكها".( عبد الجبار الرفاعي، انقاذ النزعة الإنسانية في الدين، بيروت، دار التنوير، ط2، ص198 )
معنى الأنسنة
ندوة تحدث فيها:
د. عبد الجبار الرفاعي، د. أم الزين المسكيني، د. أحمد الفراك.
https://www.youtube.com/watch?v=x9rhHjGzyUA&t=19s&ab_channel=%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%B9%D9%8A
أعلى جون كالڤن 1509- 1564، من قيمة العمل الروحية فجعله طقسًا دينيًا، لذلك كانت الأخلاقُ البروتستانتية طاقةً ألهمت العمالَ الإخلاصَ والمثابرة. في ضوء هذه الرؤية أصبحت المصانعُ وورشُ العمل بمثابة كنيسة، وصار العملُ طقسًا يحقّق الخلاصَ بمعناه الديني.
في سياق تفسير ماكس فيبر أضحت الرؤيةُ البروتستانتية الكالڤينية للدين وإعادةُ قراءة الكتاب المقدّس في ضوئها الدافعَ الأهمَّ لتكوين الرأسمالية. ففي كتابه: "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" يرى ماكس فيبر أن الرأسمالية، بوصفها نظامًا مجتمعيًا، وُلدت في سياق الرؤية الدينية الكالڤينية للبروتستانتية، وليس نتيجةَ تطور اقتصادي تاريخي.
أخلاقُ العمل الكالڤينية التي تحثُّ على الانضباط والإخلاص والعمل الشاقّ كانت سببًا أساسيًا في ظهورِ العقلية الرأسمالية في أوروبا، وولادةِ الثورة الصناعية. تشدّد الكالڤينية على قيم: الثقة، والادخار، والتواضع، والصدق، والمثابرة، والتسامح، وترى النجاحَ على الصعيد المادي دلالةَ نعمة إلهية واختيار سابق للخلاص . على وفق القراءة الكالڤينية للبروتستانتية، لا يتحقّق خلاصُ الإنسان من خطيئته إلا بالتقوى، والتقوى ورضا الربّ لا يتحقّقان إلا بالعمل والإنتاج واستثمار الأرض، وليس بالقدّاس في الكنيسة .
سحرُ الدين وتغلغلُه في أعماق النفس البشرية مدهش، لم أجد عاملًا شديدَ الفاعلية والحضور وذا سطوةٍ وتأثيرٍ لافت في حياة الناس أكثرَ من الدين في مجتمعنا، كان الدينُ ومازال أحدَ أعمق منابع ترسيخ البنى اللاشعوريّة المكونة لرؤية الفرد والمجتمع للعالَم.
رؤيةُ الدين للعالَم وكيفيةُ قراءة نصوصه فرضها في الإسلامِ علمُ الكلام التقليدي، وصنعتها الأنساقُ الراسخةُ لمقولات الأشعري الاعتقادية، ومختلفُ معتقدات متكلمي الفرق.كان لهذه الرؤية الكلامية تأثيرٌ بالغٌ في تعطيلِ الاجتهاد والتجديد في الدين، والانحطاطِ الذي حدث في مجتمعات إسلامية. جاءت الدعوةُ للانتقال من علم الكلام القديم إلى علم الكلام الجديد استجابةً لما فرضته الأسئلةُ الحائرة للإنسان، وقلقُه الوجودي، وشحةُ المعنى الديني الملهم في حياته، وشعورُه بعدم الأمان، في عالَم يتسارع فيه ويشتدّ إيقاعُ تراكم المعرفة واتساعُ آفاقها، ولا يتوقف العلمُ والتكنولوجيا عند نهايات مسدودة، فكما أن الأسئلةَ لا تنتهي كذلك الأجوبةُ لا تنتهي، والمعرفةُ والعلوم والاكتشافات والاختراعات لا تنتهي، إذ تتوالد على الدوام في سياق الأجوبة أسئلةٌ جديدة، وفي سياق هذه الأسئلة تتوالد أجوبةٌ جديدة، وهكذا.
الانتقال من علم الكلام القديم إلى علم الكلام الجديد يتطلب دراسة علمية للتراث الكلامي، وذلك يعني التوفر على خبرة ودراية في التعاطي معه، واستلهام روحه الحية، والقدرة على توظيفها في منظومة الأفكار الكلامية الراهنة. وكما هو معروف بين أهل العلم أن الاجتهاد في أي حقل من حقول المعارف الإسلامية مما لا يدركه كل أحد، وذلك لأنه يتوقّف على دراسة جادة ومعمّقة للتراث، ووعي دروبه ومسالكه المختلفة، مضافًا إلى الإلمام بالقواعد والأدوات الخاصّة للاجتهاد في ذلك الحقل. فلا يمكن تجديد علم الكلام من دون دراسة وبحث يستكشف مسالك التراث الكلامي المتنوعة، واستيعاب مقولات وآراء المتكلّمين المختلفة. وبموازاة ذلك يتوقّف تجديد علم الكلام على تمثّل روح العصر، والانفتاح على المكاسب الهائلة للعلوم الراهنة، خاصّة العلوم الإنسانية، والتخلّص من الحساسية والوجل أو العقدة في التعامل مع معطيات العلم الحديث، فإن بعض العلوم الإنسانية تطوّرت بدرجة توازي تطوّر العلوم الطبيعية والعلوم البحتة في الغرب، وهي ذات وشيجة عضوية بمناهج علم الكلام ومسائله ولغته ومنظومته المعرفية بأسرها.
أولُ كتاب نُشِر يحمل عنوان: "#علم_الكلام_الجديد" كان لشبلي النعماني، صدر في الهند سنة 1903. وكما أوضحتُ، في سياق بيان مفهومي للكلام الجديد في هذا الكتاب، فإن عمل شبلي النعماني لا يحمل من الكلام الجديد إلا اسمَه.
لم يصل البحثُ حول مشروعية فتح باب الاجتهاد في علم الكلام إلى غايته، لرسوخِ التراث وتصلّبِه وتجذّرِه في البنى اللاشعوريّة، وممانعتِه وإجهاضِه لأية محاولةٍ لعبوره، وانحيازِ أكثر الباحثين والدارسين لعلم الكلام لمقولات المتكلمين القدماء، وتلقيها كما هي بلا مراجعة وتدبر وفحص وغربلة وتمحيص. أكثرُهم يرتاب من الحديث عن الاجتهاد في علم الكلام، لظنه بأنه محاولةٌ للخروج من الدين، فيلتمس مختلفَ الذرائع لرفضه، ويشدّد على الانصياع للمسلمات والمقولات الكلامية الموروثة، ينظر إليها بوصفها مسلماتٍ لا تقبل النقاش، ولا يتعامل معها على أنها اجتهاداتٌ بشرية قالها أئمةُ الفرق والمجتهدون الأوائل في علم الكلام، وكلُّ اجتهاد يفترض أنه قابلٌ للصواب والخطأ.
مشكلة الشرّ في العدد الجديد 73-74 لمجلة قضايا اسلامية معاصرة
د. عبدالجبار الرفاعي
بعد 24 عاما من عملها على بناء فضاءٍ للتفكير النقدي والنقاش والبحث في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، والخروج من تكرار الشروح والكتابات الوعظية والتبجيلية المكرّرة، استطاعت مجلة قضايا إسلامية معاصرة تخصيص 72 عددا من أعدادها الصادرة في سنواتها الماضية لدراسة الموضوعات المحورية في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد.
يصدر في بيروت هذا الأسبوع العدد الجديد 73-74 من مجلة قضايا إسلامية معاصرة. تخصّص المجلة هذا العدد للقسم الأول من دراسة: (مشكلة الشر – 1)، وتعمل على أن تستكمل البحث والنقاش في هذا الموضوع في العدد القادم، وربما في عدد ثالث يليه إن وجدت إسهامات جادّة بالعربية، أو موضوعات مترجمة من اللغات الأخرى.
تقدّم هذه الدورية منجزَها هذا للأساتذة والباحثين وطلاب الدرسات العليا في الجامعات ومعاهد التعليم الديني والحوزات، وكلّ المهتمين بفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، عسى أن يتنبه الخبراء لدراسة هذا الموضوع، الحاضر على الدوام في الكلام حول وجود الله وعلمه وقدرته وإرادته وأفعاله وعدالته.
كانت مشكة الشرّ ومازالت من القضايا التي لم يتعطّل فيها التفكر، يتساءل الناس عن الكوارث الطبيعية والزلازل والأعاصير والأوبئة وغيرها، يتساءل عن ذلك الناس بمختلف درجات وعيهم، وهكذا يتساءلون عن الظلم والعنف الذي يصدر عن الإنسان، واعتداء الإنسان على أخيه الإنسان، واعتداء الإنسان على الكائنات الأخرى في الأرض، واعتداء الإنسان على الطبيعة وتخريبها.
على الرغم من شدّة الحاجة لدراسة مشكة الشرّ، وفرض سؤال الشرّ لحضوره كسؤال ميتافيزيقي إنكاري معلن في أحاديث وكتابات بعض الباحثين والأساتذة والتلامذة، ومختبئ أحيانا لدى غيرهم من البشر. طالما أعلن السؤالُ الإنكاري عن الشرّ حضورَه بكلمات وعبارات لا تخلو من استغاثة وعتب واحتجاج على لسان الأمهات والآباء الذين يفجعون يفقدان أبنائهم، والناس الذين يتعرضون لمصائب ونكبات شتّى في كلّ المجتمعات.
التأليف والبحث في موضوع الشرّ مازل فقيرا باللغة العربية، فلم نقرأ دورية فلسفية أو دينية عربية أفردت عددا لـ"مشكلة الشر"، ولم نقرأ كتابات جادّة تتناول الأسئلة الكبرى في هذا الموضوع الأبدي، ولم نعرف تخصيصَ ساعات في الدراسات العليا تهتم بدراسته فلسفيا ولاهوتيا وكلاميا. ظلّ هذا الموضوع للأسف مهملا في الدراسات العليا في كليات الفلسفة والكليات اللاهوتية والدينية، وغفل عنه أغلبُ التلامذة والأساتذة.
من هنا بادرت قضايا إسلامية معاصرة لدراسة هذا الموضوع، وانشغلت بالإعداد له منذ سنوات، كانت الصعوبةُ في ندرة الخبرة البحثية في مشكلة الشرّ بالعربية، لذلك هاتفت المجلة وراسلت باحثات وباحثين تحترم تكوينَهم الأكاديمي وخبرتَهم العلمية والبحثية في الفلسفة واللاهوت والأديان، وترجمت مادة وفيرة من لغات أخرى، ولم تصدر هذا العدد إلا بعد أن تراكمت لديها مادة وفيرة تغطي أكثر من عدد. بادرت قضايا إسلامية معاصرة لدراسة "مشكلة الشر"، بمداخل متنوعة: فلسفية، ولاهوتية، وكلامية، وأخلاقية، ودينية مقارنة، عسى أن نستمع لصوت يتحدّث لغة بديلة تحدّثنا بما لم نقرؤه من قبل. تعرب مجلة قضايا إسلامية معاصر عن امتنانها لكلّ المشاركين فيها من الكتّاب والمترجمين، ولكلّ من دعمها ووقف معها في مسيرتها الطويلة، وكلّ من اهتم بها وقرأها ونقدها.
كما تعرب عن امتنانها لعائلة صبورة أنفقت جهودا منهكة، وكافحت لسنوات طويلة من أجل أن تفرض مجلة قضايا إسلامية معاصرة حضورَها النوعي للانتقال بالاجتهاد والتجديد لآفاق بديلة للتفكير الديني، تنتزعه من ركام الكلام المكرّر منذ قرون، والانسداد الذي أرهقه الأزمنة السابقة. وقد استطاعت أن تنجز شيئا من أحلامها في بناء حقل دراسات فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد بالعربية الذي دشّنته منذ ربع قرن تقريبا. قضايا إسلامية معاصرة نجحت في تدشين فضاء رحب للتفكير الديني، وسمحت لكتّابها بالبحث والنقاش بحرية في كلّ موضوع يتناولونه في الدين والدنيا، وإن كان ذلك الموضوع من الممنوع التفكير فيه.
تحية وامتنانا للأستاذة انتزال الجبوري، الأم، سكرتيرة التحرير، ومحرّرة النصوص الذكية.
تحية وامتنانا للدكتور محمد حسين الرفاعي، الابن، مدير التحرير، واستاذ علم الاجتماع والفلسفة اليوم في الجامعة اللبنانية والجامعة اليسوعية ببروت، والذي لولا جهوده منذ وقت مبكر من حياته لم تصدر هذه المجلة، ولولا إصراره على المضي في الطريق، لم تواصل مسيرتَها كلّ هذه السنوات الطويلة.كنا كلّما تعبنا من العمل المنهك وقرّرنا التوقف يرفض محمد حسين ذلك بشدّة، ويصرّ على المضي في الطريق مهما كانت العوائق.
هذه الكتابات والتوصيات تجهل التناقضات الذاتية في الإنسان، وتتعاطى معه كأنه كائنٌ ميكانيكي. يشبه هذه الكتاباتِ في الجهل بحقيقة الطبيعة الإنسانية أكثرُ التوصياتِ الجاهزة والعبارات المتداوَلة بين الناس. لا يكترث علمُ النفس الحديث كثيرًا بهذه التوصيات الغائمة لكتابات تشدّد على نصائح وإرشادات، من قبيل: "لا تحزن"، "لا تكتئب"، "لا تقلق"، "لا تتشائم"، "لا تتألم"، "لا تنزعج"، "لا تغتم"، "لا تتأرق في نومك"، "كن حازمًا وجادًا"، "تأقلم مع الظروف بدلًا من تضييع الوقت بالتفكيرِ الزائد"، "استمتع باللحظة الحالية"، وأمثالِها من توصياتٍ ومواعظ غيرِ علمية. أحيانًا يكرّرون مثل هذه التوصيات لأشخاصٍ يعانون من اضطراباتٍ نفسية، وحالاتِ إصابةٍ بـأمراض، مثل: "الاضطرابات الوجدانية"، أو "اضطرابات الشخصية"، أو "اضطرابات القلق"، أو "الكآبة الحادة"، أو "الوسواس القهري"، أو "الهستيريا"، أو "البارانويا"، وغير ذلك من أمراض تحتاج عياداتٍ يديرها أطباءُ نفسانيون متمرّسون ومعالجون حاذقون.
مادام الناسُ في مجتمعنا يستهجنون مراجعةَ الطبيب والمعالج النفساني، يتكاثرُ كلَّ يوم دعاةُ ما يسمى بـ "علم الطاقة"، ويتفشى حضورُ المشعوذين والأفاكين والمحتالين والمُخادِعين والنَصَّابين، كمعالجين للأمراض النفسية، والوهن الروحي، والقلق الوجودي الذي يكابده الناس. أخطرُ هؤلاء وأشدُّهم سطوةً على مشاعر الناس، وأبرُعهم في إغوائهم وخداعهم، مَنْ يزعمون أن لهم صلة مباشرة بالغيب، وأن علاجَهم الذي يقدمونه يعتمد على المقدّس ويستعين بأسباب ميتافيزيقية في شفاء هذه الأمراض.
الغريبُ أن الناسَ في مجتمعنا لا يستهجنون مراجعةَ هؤلاء المشعوذين وأمثالِهم، في حين يستهجنون مراجعةَ الأطباء النفسانيين والمعالجين المختصين، ويحذرون من ذلك إلى الحدِّ الذي يمنع أكثر المصابين بهذه الأمراض من زيارة العيادات النفسية، على الرغم من حاجتهم الماسة لذلك، لئلا يفتضحون وينعتون بالجنون في المحيط الذي يعيشون فيه. تؤشر الاستطلاعاتُ الجادّةُ للصحة النفسية إلى أن مجتمعَنا من أكثر المجتمعات المتوطنة فيها الأمراضُ النفسية، والمفارقة أنه من أفقر المجتمعات بعدد الأطباء النفسانيين والمعالجين والعيادات المختصة.
كثيرون يتحدثون ويكتبون جهلًا، لكن المشكلةَ في جاهلٍ يفرضُ نفسَه مُعلِّمًا للناس، بصدق وحُسنِ نية. حُسنُ النيةِ والصدقُ وحدَهما لا يبرّران ترويجَ الجهل، وأن يكونَ الجاهلُ مُعلِّمًا للعالِم. مشكلةُ بعض من يكتبون عن الإنسان والدين جهلُهم بالفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة، وعدمُ معرفتهم بعلم الأديان.
د. #عبدالجبار_الرفاعي
#الجهلُ_بالطبيعة_الإنسانية_وأخطاءُ_التربية
#الصحة_النفسية
#علم_الطاقة
https://alsabaah.iq/43788/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D9%84-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A9-%D9%88%D8%A3%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%A9?fbclid=IwAR115yjcpSnnhmOiw2HlEXem3SN5N7F8FBTbOTCb0CWZV1YKISM3lmAXXUA
الدين و الاغتراب الميتافيزيقي مقدمة الطبعة الأولى by Dr. Hussein Almuhtaseb on #SoundCloud https://soundcloud.app.goo.gl/925o85pPhUPL8Vc3A
Читать полностью…لا يولد السلامُ بين الأديان في فضاء الاعتقاد، بل يولد السلامُ بين الأديان في فضاء الإيمان. الإيمانُ يتكلّمُ لغةً واحدة، المؤمنون في كلّ الأديان يستوحون إيمانَهم من منبع مشترَك هو الحق، وإن تجلّى لكلّ منهم في صورة، تتنوّع صورُ الحق بتنوّعِ دياناتِهم، وبصمةِ ذواتهم وبيئاتهم، غير أنهم يعيشون التجاربَ الروحيةَ المُلهِمةَ للطمأنينة والسكينة والسلام. الإيمانُ حقيقةٌ يتجلّى فيها جوهرُ الأديان، وأرضيةٌ تتوحّد في فضائها، ومنبعٌ مُلهِم للحياة الدينية فيها. لا يتخلّص الإنسانُ من نزاعات الأديان وحروبها إلا في فضاء الإيمان.
إن كانت نصوصُ الدين مقدّسةً غير أن تفسيرَها وتأويلَها وفهمَها يتجلى فيه الأفقُ التاريخي الذي يتموضع فيه الكائنُ البشري، لا يمكن أن يكون ذلك الفهمُ عابرًا للإطار المعرفي الذي يعيش فيه ذلك الكائنُ. إن تطبيقَ المناهج العلمية في دراسة الأديان وفرقها ومذاهبها ضرورةٌ يفرضها التعرّفُ على كيفيةِ ولادتها وصيرورتها عبر التاريخ، والآثارِ المتنوعة لها في الحياة البشرية. الأديانُ تولد في عصر مؤسّسيها، لكنها تظلّ تتخلّق وتنمو في صيرورة لا تتصرّم عبر الزمان والمكان، في سياقات نسيجِ المتطلبات المتنوّعة لحياة الإنسان فردًا وجماعةً، والعلاقاتِ العضوية بين السلطة والمعرفة، كما يشرحها ميشيل فوكو.
ما لم يتسع حقلُ دراسةِ الأديان ومقارنتِها لدى الباحثين في الدراسات الدينية، لا يمكن تصويبُ سوء الفهم والأحكام السلبية السابقة، وحذفُ الكثير من الأخطاء المتراكمة في فهم أتباع ديانةٍ لمقولات ومعتقدات أتباع ديانةٍ أخرى، إذ تتوالد من سوءِ الفهم والأحكامِ السلبية السابقة دائمًا أحكامٌ إقصائية حيالَ الآخَر المختلف.
إن دراسةَ الأديان ومقارنتَها هي المعيارُ الحقيقي لاختبار وفاءِ الأديان بوعودها، ومصداقيةِ ادعاءات أتباعها. ولا يتحقّق ذلك إلا بالعودة إلى نصوصِها المقدّسة، ومدوناتِها الخاصة الموازية لهذه النصوص، والتعرّفِ على أنماطِ حضورها في حياة الأفراد والمجتمعات التي تعتنقها، ومدى تأثيرِها الإيجابي في تنمية الحياة الروحية والأخلاقية، والتفتيشِ عن أثرها السلبي، وفضحِ ما تعمل على إخفائه أو تتعمّد حذفَه من تراثها وتاريخها الخاص. دراسةُ الأديان الوحيانية مثلًا لا تصحّ إلّا بالعودة إلى نصوصِها المقدّسة وتراثها الخاص، وطبيعةِ تأثيرها في حياة الفرد والمجتمع الذي يعتنقها، وكيفياتِ حضورها في التاريخ البشري، وما تركته من آثار مختلفة في البناء والهدم.
ليس هناك ديانةٌ تستأثر وحدها بالمحبة والحرياتِ والحقوقِ واحترامِ كرامة الإنسان، وليس هناك تاريخُ ديانةٍ منزّهٌ من التعصب والعنف وانتهاك الكرامة. لا يكفي الحكمُ على أخلاقية وإنسانية الديانة بما تشتمل عليه مدوّنتُها، وليس بشهاداتِ أتباعِها عنها، مهما ادعوا من انحصار الأخلاق والإنسانية فيها. لا يكون الحكمُ صادقًا إلا بمقارنتها بالديانات الأخرى، وتفحّص وغربلة مسيرتها التاريخية، وما صنعته في محطات رحلتها عبر الزمان، وما قدمته من مكاسب للحضارات البشرية، مضافًا إلى اكتشاف مقدار تجلّي القيم الإنسانية لهذه الديانة وأخلاقياتها في سلوك معتنقيها أفرادًا وجماعاتٍ في الماضي والحاضر.
كي تتعايش الأديان وتأتلف ينبغي العمل على تكريس المشترك الإنساني الروحي والأخلاقي والجمالي للأديان، وتوظيف الرصيد الايماني والرمزي الحي لها من أجل صناعة السلام في العالَم. والكفّ عن نبش ذاكرة حروبها المريرة والانتهاكات الشنيعة في مسيرتها، وما يختبئ في أرشيفاتها من تعصّبات وكراهيات وصراعات دينية مريرة. وأن ينشد الكلُّ الكفَّ عن ثنائية أنا / أنت، والانتقال إلى الـ "نحن"، على وفق رؤية البابا فرنسيس في ترسيخ معنى "العائلة البشرية"، بوصفها مقصدًا إنسانيًا أسمى يكشف عن الغاية العظمى لكلّ الأديان، وبوصف: "الأخوّة أقوى من قتل الإخوة، الرجاء أقوى من المَوت، السلام أقوى من الحرب".
أما أن نعيشَ معًا وذلك ما ينشده كلُّ حكيم في الأرض، وأما أن نموت معًا وذلك ما يعمل عليه كلُّ متعصب أحمق.كتب الأديان المقدسة وميراثها منجم يكتنز بالمعاني الروحية والأخلاقية الأصيلة، التي تبني أُسس العيش معًا. "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" .
الإنسان في القرآن الكريم
د. عبدالجبار الرفاعي
ندوة في منتدى واحة الحوار القرآني، بتاريخ 16-3-2021 بعنوان:
#الإنسان_في_القرآن_الكريم
د. #عبدالجبار_الرفاعي
https://www.youtube.com/watch?v=Rrfe8VteD2Q&ab_channel=%D9%88%D8%A7%D8%AD%D8%A9%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86%D9%8A
زيارة البابا فرنسيس لأور السومرية والتعريف بالحضارة صانعة فجر التاريخ البشري
د. عبد الجبار الرفاعي
سلامًا لرسولِ رسول المحبة والسلام في أرض الحضارات الرافدين .. في الإيمان تلتقي الأديانُ وتتعايش وتأتلف، بعد أن تكتشف شفرةَ اللغة الروحية الواحدة المشتركة التي يتكلّم فيها إيمانُها، وإن كانت في الاعتقاد تتكلّم لغاتٍ شتى لا تفقه كلٌّ منها الأخرى .. لا يولد السلامُ بين الأديان في فضاء الاعتقاد، بل يولد السلامُ بين الأديان في فضاء الإيمان، لأن المؤمنين في كلّ الأديان يستقون إيمانَهم من منبع مشترَك هو الحق، وإن تجلّى لكلّ منهم في صور تتنوّع بتنوّعِ دياناتِهم، وبصمةِ بيئاتهم، غير أنهم يعيشون التجاربَ الروحيةَ الملهِمةَ للطمأنينة والسكينة والسلام ذاتها .. الإيمانُ حقيقة يتجلّى فيها جوهرُ الأديان، والأرضيةُ المشتركة التي تتوحّد في فضائها، والشلّالُ الملهِم للحياة الدينية فيها. لا يتخلّص الإنسانُ من نزاعات الأديان وحروبها إلّا في فضاء الإيمان... زيارة البابا للعراق مهمة انسانيا وروحيا وأخلاقيا ورمزيا، لأنها تكرس الرصيد الانساني والايماني والاخلاقي والرمزي لصناع السلام في العالم. كما حققت هذه الزيارة أحد أهدفها المهمة، وهي الاعلان والتعريف مجددًا بصورة من الصور التي انجزتها الحضارة السومرية وحضارات العراق التي صنعت الاسس العظمى للتاريخ البشري، منذ نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد، باكتشافاتها وابداعاتها للأسس المحورية التي قامت عليها الحضارات وراكمت عليها ابداعاتها واكتشافاتها عبر التاريخ حتى اليوم، وأبرزها:
1. الكتابة.
2. العجلة.
3. تنظيم الري والزراعة الاروائية.
4. الدولة، أول دولة تأسست في التاريخ هي دولة المدينة السومرية.
5. الفنون، مثل: العمارة ومثالها الزقورة، والقيثارة، وغيرها.
6. القانون، أول قانون في التاريخ هو شريعة أورنمو. (استمر حكم الملك اورنمو ما بين 2047-2030 ق م أي قبل ثلاثة قرون من زمن الملك حمورابي الذي كان المشرع الثاني في التاريخ وكان أغلب الدارسين والعامة يظنون أن شريعة حمورابي وقوانينه هي الأولى في التاريخ) ويكيبيديا.
7. اكتشاف علم الفلك في بابل عاصمة الحضارة البابلية.
8. تطور الرياضيات في بابل. (الرياضيات البابلية، وتُعرف أيضاً بإسم الرياضيات البابلية-الآشورية تطلَّب العمل في الزراعة وقياس الأراضي وبناء قنوات الري والقصور والمعابد وسواها ومزاولة التجارة معرفة الحساب والهندسة والجبر. وكان النظام السائد في بلاد الرافدين كلها هو النظام الستيني سواء في الحساب أو في أنظمة قياس الزمن أو المكاييل والموازين. فقسمت السنة إلى اثني عشر شهراً واليوم إلى أربع وعشرين ساعة، وهو النظام المعمول به حتى اليوم. وعرف البابليون فكرة المربع والمكعب وتمكنوا من حساب مساحة الدائرة ومحيطها. واهتموا برصد الكواكب... معرفتنا بالرياضيات البابلية أتت من ألواح طينية اكتشف منها حتى الآن 400 لوح منذ 1850م. وقد كُتبت بالكتابة المسمارية، وتم تدوينها على الألواح الطينية بينما كانت رطبة، ثم تم تحميصها بشدة في فرن أو بحرارة الشمس. معظم الألواح التي تم ترميمها يحدد تاريخها من 1600 ق.م. إلى 1800 ق.م.، وغطت مواضيع تتناول الكسور والجبر والمعادلات التربيعية والدوال التكعيبية ونظرية فيثاغورس) عن مقالة بعنوان: الرياضيات البابلية، منشورة على الانترنيت.
9. الابداع الأدبي، والذي تمثل في نصوص ابداعية مبتكرة فريدة، لم تعرف خارج الحضارات الرافدينية، مثل: ملحمة جلجامش، كتبت نحو 2000 ق. م، وهي تسبق في تأليفها: "الإلياذة" و"الأوديسا" لهوميروس، بما يقارب 1000 سنة... ذلك هو العمق الحضاري للعراق، وتلك هي الجذور العريقة للهوية العراقية في حضارات وادي الرافدين.
د. #عبدالجبار_الرفاعي
#زيارة_البابا_فرنسيس_لأور_السومرية
https://iraqpalm.com/article/%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%A8%D8%A7-%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%B3-%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%85%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A5%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D9%81-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%B5%D8%A7%D9%86%D8%B9%D8%A9-%D9%81%D8%AC%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B4%D8%B1%D9%8A?fbclid=IwAR32XmL3cXQNfXFTE_B7OAeY3NBvg12OhNr5tbTzJQDaBa95guOhULwvpE0
التضادُّ بين الروح والعقل قدرٌ فرضته على الإنسان طبيعتُه المخلوقة بهذه الكيفية، وهذا التضادّ لا ينتهي، ويتوالد من المواقف المتضادّة باستمرار مواقفُ بديلة، وكأن الإنسانَ يظل محكومًا بهذه المعادلة التي شرحها هيغل في ديالكتيكه، الإنسانيةَ الطبيعيةَ هي "تناقض لم يتم حله داخليًا"، حسب رأيه. وقبل هيغل أشار إلى ذلك شيخُ الإشراق السهروردي المقتول سنة 586 ه في قلعة حلب، بقوله: "لولا التضاد لما صح الكون والفساد".
نرى التضادَّ بين الروح والعقل بوضوح، فعندما يتحدث العقلُ تصمت الروحُ، وعندما تتحدّث الروحُ يصمت العقلُ، إذ لا تستفيق الروحُ إلا عندما يصمت العقل، ولا يستفيقُ العقلُ إلا عندما تصمت الروحُ. مادام الإنسانُ مقيمًا في العقل لن تمتلئ الروح، ومادام الإنسانُ مقيمًا في الروح لن يمتلئ العقل. عندما يتوهج العقلُ تنطفئ الروح، وربما تصير رمادًا، وعندما تتوهج الروحُ ينطفئ العقل، وربما يخمد ويغرق في سباتٍ أبدي. عندما يغيب العقلُ يغرق المرءُ في كهوف ظلام الوهم والخرافة والضياع. لذلك تُخفِق محاولاتُ الجمع بينهما في: وعاءٍ واحد، وآنٍ واحد، وموقفٍ واحد، لامتناعِ السير في طريقين متوازيين في آن واحد. مرجعيةُ عقل الفيلسوف تدلّه على طريق، وحججُ اللاهوتي والمتكلم تدله على طريق ربما لا يتطابق مع عقل الفيلسوف، واستبصاراتُ العارف تمكنه من تذوق بعضَ الحقائقِ عبر شهوده لها. وذلك ما يحكيه الاختلافُ والتنوّع في آراء ومواقف الفلاسفة واللاهوتيين والعرفاء في كلِّ الأديان. لا يمكن أن يستغني الإنسانُ بالروح عن العقل فيضيع في متاهات الحياة المظلمة، ولا يمكن أن يستغني الإنسانُ بالعقل عن الروح فيهجر ما تغتني به آثارُ العرفاء من إشراقات مُلهِمة للروح، ويصعب جدًا أو يتعذر على الإنسان الجمعُ بينهما في المواقف ذاتها.
ذلك هو أحدُ أقدار الإنسان الوجودية، وما فرضته عليه طبيعتُه الإنسانية. لحظةَ اجتياز هذا الامتحان العسير بنجاحٍ يصل الإنسانُ في سفره إلى طورٍ وجودي يستطيع فيه أن يعيش من دون أن يضحي بالعقل قربانًا للروح، أو يضحي بالروح قربانًا للعقل. وهو من أعسر اختبارات المرء في الحياة وأشقّها وأشقاها، إنه الاختبارُ الوجودي المزمن الذي يولد بولادتنا، إنه اختبارٌ يعيش معنا ونعيش معه ليلًا ونهارًا، إنه اختبارٌ يفشل فيه كثيرٌ من البشر، اختبارٌ لا ينجو منه أحد، ولن يظفر باجتيازه بنجاح إلا الأفذاذ. يقول إريك فروم: "أؤمن بأن طبيعةَ الإنسان هي تناقضٌ متأصلٌ في ظروف الوجود الإنساني، ويتطلب هذا التناقضُ البحثَ عن حلول تخلق بدورها متناقضاتٍ جديدة، وبالتالي تحتاج إلى الاستمرار في البحث عن حلول".
د. #عبدالجبار_الرفاعي
https://alsabaah.iq/42449/%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A8%D9%8A%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A9-%D9%85%D9%84%D8%AA%D9%82%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B6%D8%AF%D8%A7%D8%AF?fbclid=IwAR14eZiuECXV2OfZh6ijXTsI5DV2cxZ9qM2SP6Adz92nH16-nick6XGqO5Q
ان هذا النص يبرز بوضوح التناقض الذي يقوم عليه الخطاب السلفي، ومقدرته على التلاعب بوعي المحرومين والمستضعفين وغيرهم ممن زاغ بصرهم عن الحق والمنطق. ينصبّ جهد المؤلف على دحض هذا الخطاب، ورأب الصدع الذي خلّفه في الوعي من خلال العمل على إظهار النزعة الإنسانية في الدين بعامة والاسلام بخاصة. انه اعلن حرباً شرسة ضدّ التطرّف والانغلاق، مواجهاً العنف بالنظر الى مواضع الرحمة في الدين عن طريق مناقضة ما يسمّيه بـ "القراءة الفاشية للنصوص"، هذه القراءة التي تولّد جماعات تسير ملتحفة بأكفانها نحو مصيرها المحتوم.
انه يدعو الى القيام بنهضة معرفية هامة يمكن تلخيصها في الخطوات الآتية:
- مراجعة نقدية للتاريخ
- قراءة تحليلية للنصوص
- تقويم الموروث من منظور مختلف
- الابتعاد عن الرؤية الاحادية والذهنية المغلقة
- محاولة استيعاب القيم الإنسانية المنفتحة
- الخروج من الالهيات التقليدية نحو بناء الهيات عقلية مستنيرة
- طرح تساؤلات جديدة تفضي الى التحرر من الصورة النمطية للاله
ان هذه الخطوات تشكّل بحد ذاتها مشروعاً فكرياً ذا مسار نقدي منفتح على المعرفة. انه يحمل في طياته رؤية تنويرية عقلانية مبنية على الانفتاح، والتحرّر من الافق الضيق، والخروج من سجون الماضي،والتوجّه نحو ثقافة الرحمة والاخلاق في التعاطي مع الآخر، ومع التعدد والاختلاف.
من هنا نجد مفكرنا يسلّط الضوء على التجربة العرفانية التي عرفها تاريخ الفكر الاسلامي. انها تجربة تستحق فعلا التوقف عندها ملياً في هذا الزمن تحديداً لما فيها من رقي في الاخلاق، وانفتاح في النظر الى الله والوجود والآخر. يستعرض في سياق هذا الفصل اسماء عدّة سطعت في سماء التصوف ليشير الى تجلّي النزعة الإنسانية في الدين والتديّن، مطالباً بإنقاذها من الخطاب المدمّر المستفحل في كل مكان. ان ما يقوم به الرفاعي محاولة راقية لإنقاذ الدين من دون استخدام العنف، فينقض بذلك كل الحجج الواهية التي تدعو الى استباحة دم الآخرين وإراقته في سبيل تحصيل حقوق السماء.
ان توقفه عند ابن عربي، والبسطامي، ورابعة العدوية، وجلال الدين الرومي، وغيرهم هدفه وضع الأصبع ليس على الجرح انما على النزعة الإنسانية في الدين التي من شأنها أن تلحم الجرح وتداوي آلامه المريرة. ان الاشارة الى المتصوفة لا تعني الالتزام بكل مبادئهم وسلوكياتهم، اذ ان انقاذ النزعة الإنسانية في الدين تتطلب حالة متوازنة تؤسّس على الإنسجام بين متطلبات الجسد وتنمية الروح في آن معاً، وعلى نحو متصالح مع العالم. ان التناغم مع ايقاع الكون والغوص في الانتماء الى الوجود أمران ضروريان للمحافظة على النزعة الإنسانية للدين. فالإنسان في النهاية كائن طبيعي منخرط في العالم ومجبول من عناصره، من دون التغاضي عن بعده الوجودي كما الفكري والروحي.
يبدو انطلاقاً مما سبق مسارُ الرفاعي واضحاً في كتابه هذا: البداية مع الخطوة الاولى في تحديد مفهوم الدين، والنظر في الحاجة اليه من خلال التحدّث عن وظيفته، وابراز قيمته الإنسانية الراقية، وذلك نقضاً ودحضاً لما خلّفه الخطاب السلفيّ من كوارث على الصعيد الاجتماعي كما السياسي والديني والمعنوي، لتأتي الخطوة التالية التي تكمن في التركيز على نماذج من الخطاب العرفاني والاخلاقي الذي أضاء التاريخ بإنتاجه، لكن تمّ تهميشه واستبعاده. الاستنتاج الاساس الذي يمكن الخروج به بعد قراءة الكتاب هو الدعوة الى بناء الهيات جديدة اكثر عقلانية، وانسانية، الهياتٍ متحرّرة من قيود "القراءة الفاشية" وما خلفته من ركام حولها.
نختم بهذه الخلاصة التي ينهي بها الكاتب الفصل الحادي عشر لما فيها من جدية وغنى وعمق في كيفية التعاطي مع مسألة التديّن: " ان السبيل للتخلّق بأخلاق الرحمن انما يتحقق عبر انقاذ النزعة الإنسانية في الدين، واضاءة أبعاده الاخلاقية والمعنوية والرمزية والجمالية، وتطهير التدين من كافة اشكال الكراهية والاكراهات".(عبد الجبار الرفاعي، المصدر السابق، ص210)
يبقى لنا ان نعمل مع المؤلف في سبيل تعزيز اخلاقيات المحبة، وتدريب المشاعر على القيم النبيلة، والسعي وراء اكتشاف الطاقة الاجابية في العالم والتواصل معها. ولتحقيق كل هذا المشروع الفكري الراقي والنبيل علينا، على حدّ تعبير الرفاعي "استلهام صفات الرحمة والمحبة والسلام ونحوها من الرحمن ".
د. نايلة أبي نادر، أكاديمية وباحثة لبنانية، أستاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية.
https://iraqpalm.com/article/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%8F-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9%D9%8C-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%81%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D9%86%D9%89-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B2%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%86%D8%AF-%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%B9%D9%8A?fbclid=IwAR3h3-qOHrTLeIeTVSicBDmMcHixmI32PQ84m9yHZnwx4kr7B1RjvZkUokI
ان من يقرأ بعمق فصول الكتاب كافة يجد ان الرابط الاساس في ما بينها يكمن في هذا القلق الملح من اجل محاربة اصحاب الايادي السود التي شوّهت ملامح الحياة الدينية الراقية بإنسانيتها، عن طريق الفساد، والتطرّف، والتعصّب، والقتل المتبادل، وهدر الدماء البريئة ...انه القلق على الحضارة والتمدّن والمعرفة وما أنتجته التجربة الإنسانية عبر تطوّر التاريخ. يرى جيداً الكمّ الهائل من الدمار الذي سبّبه التطرّف في التديّن إن في بلده العراق أو في الأماكن المختلفة التي ضربها إعصاره العاصف بالبشر. ينتقد القراءة الحرفية المغلقة للنصوص المقدسة مبرزاً مدى الأذى الذي تسبّبه على ارض الواقع السياسي والاجتماعي. انه أذى يضرب عمق التجربة الدينية عينها، ويكرّس الانغلاق على الذات، وينفي الآخر في دائرة التكفير.هذا الواقع المتردّي أسهم في نشوء جماعات تحتكر تمثيل الدين، وتهيمن على كيفية فهمه وعيشه في آن. يرى في ذلك عملية "انتهاك لإنسانية الإنسان"، و"تزييف لأهداف الدين"، و"اهدار للقيم الروحية". ان ما قامت به هذه الجماعات الدينية على صعيد فهم النص المقدّس ليس سوى " قراءة حرفية مغلقة"، حصرت نفسها بالمدلول اللغوي "الساذج"، وأشاعت " تفسيراً قمعياً للنصوص، تقبع خلفياته وقبلياته النفسية والثقافية في الصحراء والمحيط البدوي المغلق على العالم، كما وتحارب بلا هوادة القراءات التي تتخطّى المعنى السطحي، وتغور في الأعماق، مستلهمة المضامين الروحية الغنية في النص، ومستوحية رؤيته الرمزية المعنوية الجمالية، مثلما فعل العرفاء والفلاسفة والاشراقيون، وغيرهم ".( عبد الجبار الرفاعي، المصدر السابق، ص 199 )
ان هذا النهج في التعاطي مع النصوص المقدّسة أدّى الى حجب الوجه الحقيقي للدين الذي تجلّى لدى العديد من المستنيرين. يشدّد د. الرفاعي على ان رسالة الأديان ومقاصدها الكلية بعيدة كل البعد عن فحوى ما تقوم به الجماعات المتديّنة. فرسالة الأديان تكمن في " إشاعة السلم والتراحم والمحبة بين الناس".
يقدّم المؤلف للطبعتين الاولى والثانية من كتابه بنصين يجدر بالقارئ التوقف عندهما؛ لأنه يوضّح من خلالهما الاستراتيجية التي سيعتمدها في مقاربة موضوعه، كما انه يرسم الأهداف التي وضعها نصب عينيه عندما قرّر جمع نصوصه تحت عنوان: "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين". يمكننا تلخيص هذه الأسباب التي دفعته الى وضع هذا الكتاب بما يلي:
أولاً: تسجيل الاحتجاج على الواقع المأساوي للدين في المرحلة الراهنة.
ثانياً: نقد تزييف الدين من قبل الاسلاميين.
ثالثاً: الحرص على ابراز النزعة الإنسانية في الدين والدفاع عنها.
أما الأهداف التي يبغي العمل عليها فهي التالية:
أولاً: الدعوة الى فهم آخر للدين يخالف الى حدّ بعيد فهم الجماعات المتدينة التي فرضت تصورها الخاص بالقوة، مبرّرة استخدام العنف الديني.
ثانياً: الحث على القيام بتأويل مختلف للنصوص الدينية، من خلال العبور من المنظومة المغلقة لفهمها التقليدي نحو قراءة شاملة تأخذ بالاعتبار نظامها الرمزي.
ثالثاً: تقديم تفسير لا يختزل الدين في اطار المدونة الفقهية وحدها.
رابعاً: اكتشاف وظيفة الدين الاصلية التي تكمن في انتاج معنى لحياة الكائن البشري، ليكون الدينُ حياةٌ في أفق المعنى.
خامساً: التشديد على النزعة الإنسانية في الدين، والتوقف عند توضيح تصوره لهذه النزعة.
اما المنهج الذي اتبعه في بلوغ الهدف فيمكن تحديده بخطوات ثلاث :
أولاً: الابتعاد عن القراءة التقليدية للنصوص المقدسة عن طريق توظيف منهجيات ومفاهيم وأدوات ومعطيات المعرفة البشرية والعلوم الإنسانية لتأويل هذه النصوص في ضوء متطلبات العصر. نجده يستفيد بقوة هنا من مكتسبات الانتروبولوجيا الدينية ومنهجها الخاص في مقاربة الدين.
ثانياً: الحرص على عدم ترحيل الدين من حقله المعنوي القيمي الأخلاقي الى حقل آخر يسيطر فيه القانون على الروح، لكي لا يغدو الدين مجرّد ايديولوجية سياسية صراعية.
ثالثاً: الاهتمام بطرح الأسئلة أكثر من تثبيت الأجوبة النهائية، وفرضها على القارئ، وذلك في سبيل تنمية التفكير النقدي، وطرق باب المسكوت عنه والممنوع التفكير فيه، وعدم التوقف عن التحرّي واعادة النظر في المسلّمات، والابتعاد عن تكرار الشروح التي عّطلت برأيه التفكير الديني وسجنته في اطار الترسيمات التقليدية المغلقة . ان الاستفهام العميق في نظره يستوجب القلق المعرفي الذي يؤمّن للتفكير الشرط الضروري للابداع والديناميكية اللازمة للتطور.
يمكن عد المنهج النقدي بمثابة العصب الرئيس الذي يسيّر خطوات الباحث في كتابه هذا. فالتفكير بالنسبة اليه هو النقد، "ونقد المعرفة الدينية مقدمة لكل نقد، ولا تنطلق عجلة الاصلاح الديني الا من خلال مراجعة وتقويم وغربلة الموروث، والجرأة في استبعاد كافة المفاهيم والمقولات والعناصر العميقة والمعطلة للتحديث والبناء والتنمية الشاملة". (عبد الجبار الرفاعي، المصدر السابق، ص 13- 14)
ندوة نقاشية بعنوان: #منشأ_الحاجة_للدين
تحدث فيها: د.#عبدالجبار_الرفاعي
https://www.youtube.com/watch?v=tZM7Qkfe-AE&t=27s&ab_channel=%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%B9%D9%8A
منشور على هذا الرابط أعمال الدكتور #عبدالجبار_الرفاعي الأخيرة، وكل أعداد مجلة #قضايا_إسلامية_معاصرة، من العدد الأول الذي صدر سنة 1997 إلى العدد الأخير، كل الأعداد الصادرة في 24 سنة:
https://www.noor-book.com/u/%D8%AF-sharp-%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%B9%D9%8A/books
انشغلتُ سنوات طويلة في علم الكلام الجديد، وقرأتُ وسمعت البلبلةَ والغموضَ والتشويشَ والالتباسَ في تعريفه، وتحديد مفهومه وموضوعه وأركانه ومرتكزاته، فأدركتُ الحاجةَ الماسة لتأليف مقدمة تحدّد الإطارَ العام لهذا العلم، وتضع المعيارَ الذي يمكن اعتمادُه في تصنيف هوية المتكلم والكلام الجديد، وتوفر للباحثين والدارسين في علم الكلام وفلسفة الدين خارطةَ طريقٍ ترسم المعالمَ الأساسية للكلام الجديد.
ينطلق هذا الكتابُ من رؤيةٍ تبتني على أنه مادام هناك إنسانٌ فهناك أسئلةٌ ميتافيزيقية كبرى، وهذا النوعُ من الأسئلة لا جوابَ نهائي له، وهو ما يقوله لنا تعدّدُ وتنوّعُ إجابات الفلاسفة واللاهوتيين والمتكلمين المتواصلة لهذه الأسئلة، وتجدّدُها في مختلف مراحل تطور الوعي البشري، وفي منعطفات الفكر الفلسفي واللاهوتي والكلامي.
تطمح الأسئلةُ والآراءُ الواردة في صفحات هذا الكتاب أن تثري النقاشَ في علم الكلام الجديد، عبر محاورةِ مقولات اعتقاد يعتقد من يعتنقها أنها نهائية، وزحزحةِ آراء جزمية، وإعادةِ النظر في قناعات جاهزة، ومسائلةِ مواقف متصلبة، ترتكز على التعاطي مع اجتهادات الأوائل في علم الكلام كمقولات اعتقاد أبدية، تراها صالحةً في كلِّ زمان ومكان، وترفض إعادةَ النظر فيها مهما تغيّر نمطُ عيش الإنسان، ومهما اتسعت آفاقُ معارفه، ومهما تطورت علومُه، ومهما تقدّمت التقنياتُ المستخدَمة في حياته.
يبدأ علمُ الكلام الجديد بإعادة تعريف الوحي بنحو لا يكرّر تعريفَه في علم الكلام القديم كما هو. اقترحتُ في هذا الكتاب معيارًا يمكن على أساسه أن نصنِّف مفكرًا بأنه "متكلم جديد"، ويتمثل هذا المعيارُ في كيفية تعريف المتكلم للوحي، فإن كان التعريفُ خارجَ سياق مفهوم الوحي في علم الكلام القديم، يمكن تصنيفُ قوله كلامًا جديدًا، لأن طريقةَ فهم الوحي هي المفهوم المحوري الذي تتفرّعُ عنه مختلفُ المسائلِ الكلامية، ومن أبرزها مسألةُ "الكلام الإلهي" وغيرُها من مقولات كانت موضوعًا أساسيًا لعلم الكلام القديم. إن كيفيةَ تعريف الوحي والنبوة والقرآن يتفرع عنها ويعود إليها كلُّ شيء في الدين، لا يبدأ تجديدُ فهم الدين إلا بإعادة تعريف هذه المفاهيم المحورية الثلاثة، في سياق متطلبات الإنسان اليوم للمعنى الديني، واحتياجه لما يثري حياتَه الروحية والأخلاقية والجمالية. في حدود تعريف الوحي وسياقه يتحدّد مفهومُ النبوة، ويتحدّد حضورُ الإلهي في القرآن في حدود مفهوم النبوة. "الوحي والقرآن والنّبوّة هي أصل كلّ شيء، وبقيت العمود الفقريّ للحضارة الإسلاميّة على طول الزّمن التّاريخيّ" ، كما يقول هشام جعيّط. إن كلَّ من يقدّم تفسيرًا جديدًا للوحي، بشرط أن يكون مؤمنًا بمصدره الميتافيزيقي، يمكن أن يُصنَّف تفسيرُه على أنه علم كلام جديد. أما من يقدّم تفسيرًا جديدًا للوحي، لكنه لا يؤمن بالله، أو يؤمن بالله لكنه لا يؤمن بمصدر إلهي للوحي والنبوة والقرآن، فهو ليس متكلمًا جديدًا، يمكن أن يكون فيلسوفَ دينٍ لأن المتكلمَ غيرُ فيلسوف الدين، فيلسوفُ الدين يُفكِّر خارجَ إطار الدين، أما المتكلمُ فيُفكِّر في إطار الإسلام، كاللاهوتي في كلِّ دين وحياني الذي يُفكِّر في إطار ذلك الدين، وإن كان يستعير مناهجَ بحثه مما أنجزته العلومُ والمعارفُ البشرية.
المتكلمُ كاللاهوتي في كلِّ الأديان الوحيانية يؤمنُ بالمصدر الإلهي للوحي، مهما كان فهمُه للوحي، ومهما كان رأيُه في حقيقته، ومهما كان رسمُه لحدوده، ومهما كانت طريقةُ بيانه في التعبير عنه.كما يؤمن المتكلمُ بمصدرٍ إلهي للقرآن الكريم. وفي ضوء ذلك لا ينطبق على من يُنكِر الوحيَ والنبوةَ عنوانُ المتكلم. "وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"، هود 88.
#عبدالجبار_الرفاعي
مقدمة كتابنا الجديد: "#مقدمة_في_علم_الكلام_الجديد"، يصدر الاسبوع القادم في بيروت.
https://iraqpalm.com/article/%D9%85%D9%82%D8%AF%D9%85%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B9%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF
مقدمة في علم الكلام الجديد
د. عبدالجبار الرفاعي
كلُّ بداية للتجديد في عالَم الإسلام تتجاهل الدينَ تخطئ الطريقَ. الدينُ مكونٌ أنطولوجي للهوية الوجودية للكائن البشري، وبنيةٌ لاشعوريّةٌ عميقة غاطسة في شخصية الفرد والمجتمع. فهمُ الدين وكيفيةُ قراءة نصوصه يرسم الرؤيةَ للعالَم، وفي ضوء ذلك يتحقق نمطُ وجود الإنسان، ويتشكل نظامُ انتاجه المعنى لحياته، ويتكون فهمُه لذاته وتقديرُه لها، وتتحدّد مكانتُه في الواقع الذي يعيش فيه، وتبتني صلاتُه بما حوله، وطريقةُ إدراة شؤون حياته في المجتمع الذي يعيش فيه، وموقفُه من الآخر، وأسلوبُ تعاطيه مع المختلِف في المعتقَد والرأي والموقف، وقدرتُه على إدارة اختلافاته وتسوية مشكلاته بوسائل سلمية، خارج أدوات العنف الرمزي واللغوي والجسدي.
فهمُ الدين وكيفيةُ قراءة نصوصه من أهمِّ العوامل الفاعلة في تحولات السياسة والاقتصاد والثقافة والعلاقات في حياة المجتمعات. الدينُ هو الحبل السري الذي يتغذى منه تكوينُ الفرد، وتقاليدُ المجتمع وأعرافُه وقيمُه وهويتُه، لكن لم يهتم أكثرُ من يكتبون عن الدين في بلادنا بالأثرِ المهم لاختلافِ طرق فهم الدين وكيفيةِ قراءة نصوصه في تكوين الفرد والمجتمع، ولم يُسلَّط الضوءُ على دورِه في رفد اللاشعور الجمعي وترسيخه، وأثرِه في تشكيل شخصية الفرد في طفولته، وتوجيهِ سلوكه وبناء مواقفه في مختلف مراحل حياته.
الدينُ يمكن أن يكون عاملًا أساسيًا في البناء، كما يمكن أن يكون عاملًا أساسيًا في الهدم، ويعود الاختلافُ في ذلك إلى الاختلاف في طريقةِ فهم الناس للدين، ونمطِ قراءتهم لنصوصه، وكيفيةِ تمثلهم له في حياتهم.
مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ الحياةَ يمكنه استثمارُ الدين، كما يمكن استغلالُ الدين ممن يريد أن يُعلِّم الناسَ الموت، وهو ما تفعله الجماعاتُ المتشدّدة العنيفة في كلِّ الأديان. مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ السلامَ يجد الدينَ منجمًا يمكنه استثمارُه فيه، كذلك يمكن استغلالُ الدين في الحروب، مثلما حدث في الماضي ويحدث في الحاضر. مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ التراحمَ يجد الدينَ منهلًا غزيرًا يمكن استثمارُه في التراحم، كذلك يمكن استغلالُ الدين في التخاصم مثلما نراه ماثلًا في علاقات بعض المختلفين في المعتقَد في مجتمع واحد. مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ المحبةَ يجد الدينَ منبعًا لا ينضب يمكن استثمارُه في تكريسها،كذلك يمكن استغلالُ الدين في إشاعة الكراهية، وهي من أسوأ أشكال توظيفه في الحياة. مَنْ يريد أن يدلّ الناسَ على الطريق إلى الجنة لا يجده إلا في الدين، ومَنْ يريد أن يسوق الناسَ إلى النار يمكنه أن يزجّهم في جحيمها عبر الدين. مَنْ يريد أن يهدي للناس طمأنينةَ القلب وسكينةَ الروح لا يجد رافدًا يلهمهما أغزر من الدين، وذلك ما نراه ماثلًا في حياة أصحاب التجارب الروحية، الذين ينظرون للدين بوصفه ملهمًا للحق والعدل والخير والمحبة والتراحم والأمل والسلام، يقراؤن نصوصَه ببصيرة مضيئة، فيكتشفون ما يرمي إليه الدين من بناء مجتمع يمكن أن تسوده الأُلفة والأمن الروحي والنفسي والأخلاقي، الذي يتحقّق به الأمنُ الفردي والعائلي والمجتمعي، وتترسّخ فيه قيمُ العيش المشترك. أصحابُ التجارب الروحية يتذوقون نكهةَ الدين وأخلاقياتِه السامية فتنعكس على مواقفهم وسلوكهم، يضيئون مصابيحَه ببصيرتهم، فينكشف لهم الدينُ كأنه مرآةٌ يرتسم فيها كلُّ ما هو رؤيوي من تجليات الرحمة الإلهية وألوانها البهيجة. في نمط تَديّنهم يتعلم الإنسانُ كيف يفرح بلقاء الله، وكيف تسقي قلبَه الطمأنينةُ، وروحَه السكينةُ، وينشرح داخلُه بسلام باطني.
في مقابل ذلك يمكن أن يكون التَديّنُ عنيفًا، حين لا يُفهم الدين إلا بوصفه رسالةً للموت، ولا تُقرأ نصوصُه إلا قراءةً مغلقة غليظة، ويتمثَّله الأفرادُ والجماعاتُ على أنه إعلانٌ لحرب لا تنقضي على كلِّ مختِلف في المعتقد.
للدين في مجتمعنا سلطةٌ على الأرواح لا يضاهيها نفوذُ أيّةِ سلطةٍ أخرى، لذلك يمكن أن تكون كيفيةُ فهم الدين وطريقةُ قراءة نصوصه فاعلةً في إحداثِ تحول أساسي إيجابي أو سلبي في اقتصاد المجتمع وتنمية كافة مجالات حياته. الدينُ يمكن أن يكونَ حافزًا خلّاقًا للعمل والإنتاج والتنمية الاقتصادية، وذلك ما كشف عنه ماكس فيبر 1864 –1920 ، حين فسّر كيفيةَ تأثير البروتستانتية والقراءة الكالڤينية للكتاب المقدس في بناء فهمٍ يكتسي فيه العملُ والإنتاجُ معنى دينيًا، وكيف بعثت الكالڤينية تَديّنا ينشغل فيه المسيحي بحياته الدنيا، لينال الخلاصَ ورضا الله في الآخرة. صنعت هذه القراءةُ الكالڤينية نمطَ تَديّن تبدأ النجاةُ فيه دنيوية، والمعنى الديني للخلاص ينتقل إلى العمل الذي يتركز على تسخيرِ الطبيعة، واستثمارِ مواردها لإنتاج ما يتطلبه معاشُ الناس.