سلطة الفصاحة والنحو
عبدالجبار الرفاعي
اللغةُ كائنٌ تنطبق عليه القوانينُ التي يخضع لها كلُّ كائن حي، كلُّ كائن حي لا ينمو ويتطور يتحجر ويموت. اللغةُ كائنٌ اجتماعي حقيقتُه التغيّر والتحوّل. اللغةُ الحيّة ذاتُ ديناميكية داخلية، تولد فيها كلماتٌ جديدة وتندثر أخرى، تبعًا لديناميكية التطور الحضاري للمجتمع الناطق بها، لذلك تواصل كلماتُها باستمرار الولادةَ والنموَّ والشيخوخةَ والمرضَ والموت، وتبعًا لذلك تتجدّد أساليبُها البيانية، وطرائقُ التحدث بها.
كلُّ لغة تُنطق وتُكتب بقواعد، لا يمكن إهمالُ تلك القواعد كليا في التحدث والكتابة، قواعدُ النطق في اللغات الحية سهلةُ التلقي منذ الطفولة من البيئة اللغوية، وسهلةُ التعلم والإتقان. قواعدُ اللغة العربية كثيرةٌ دقيقة تفصيلية متشعّبة، تتنوّع فيها اجتهاداتُ البصريين والكوفيين الأوائل ومن تأخر عنهم. قواعدُها صعبةُ الإتقان للمتخصّص، إذ يلبث التلميذُ سنواتٍ عديدة في دراستها ثم تدريسها ولا يتقنها أحيانًا، فكيف بغير المتخصّص الذي لا يخصّص سنواتٍ لتعلّمها، وهم أكثرُ الناطقين بها من أبنائها. هذه مشكلةٌ مزمنة يعيشها الناطقون بالعربية، تدعونا لتيسير قواعد النطق بهذه اللغة.
استبدّت مقولةُ “الفصاحة” و”الإعراب” بالعربية، وتحولت “الفصاحةُ” و”الإعراب” بمرور الزمن إلى سلطةٍ صارمة، أعاقت الديناميكيةَ الذاتية لتحديث اللغة لنفسها، ومنعت اللغويين من تيسير قواعد النطق بها، بالشكل الذي يتمكن معه المتحدّث بها من مراعاتها بسهولة، ويتبادر إليه إعرابُها بعفوية يرثها من بيئته اللغوية، بلا تَعَلَّم وإتْقَان وتخصّص. مشكلةُ العربية تشبّعها بهالة المقدّس، بوصفها لغةَ القرآن الكريم والنصوص والتراث الديني، واستحواذ المدارسُ الدينية على تعليمها بالتدريج، وأفضى ذلك إلى أن يتولى حمايتَها رجالُ الدين ففرضوا سلطتَهم وسطوتَهم، إلى درجة صارت أيّةُ دعوة لإعادة النظر في قواعدها وأساليبها وتحديثها كأنها عدوانٌ على مقدّس....
#عبدالجبار_الرفاعي
#سلطة_الفصاحة_والنحو
#اليوم_العالمي_للغة_العربية
لقراءة الملف كاملا، يمكنكم تحميله ه عبر النقر هنا:
https://www.afkaar.center/2020/11/24/2428/
في معرض بغداد للكتاب تباع هذه الكتب الخمسة بحسم 30% بطبعة مزيدة منقحة بجناح دار الرافدين AA1، من الساعة 10 صباحًا حتى 8 مساء.
Читать полностью…ولا جرمَ، أنّ لعلم الكلام دوراً في تغذية هذا السجالُ إسلاميّا وعربياً، واسهاماً في تكريسه لقرون، بل تشويه العلاقة، وتحريف طبيعتها، واشغال الدارسين عمّا هو جوهريّ في الدين، ومما لا يخفى أنّ علم الكلام القديم يقوم على غايةٍ هي الإلزام، مما تفرضُ أنْ تكونَ المنهاجيةُ جدلاً يأنسُ بنتائجها التلقي العامي، وتضفي مشروعيةً للتقليد والاتباع بلا عبء بحثٍ ومساءلة.
وإذا ما عُرفَ أنّ للعقلِ مدياته، وللوحي مدياته، وما بينهما علاقة ملء الفراغ ـ أياً كان شكلها: أفقية نظير ما صورها المشاؤون، أم عمودية «تراتبية» كتصوير العرفانيّة ـ يُكتشف الشططُ الذي مارسه علم الكلام، وينجمُ فهمٌ دقيقٌ لسؤال الدين، وربما حاولَ، قديماً، «اخوان الصفا» مقاربة هذا المسعى، ثُمَّ حاولَ، اتباعاً، «صدر الدين الشيرازيّ» تطبيق، وشيعوعة، هذه المقاربة.
يبدو لي أنّ سؤال الدين في تجربة الرفاعيّ يتأسسُ على فهمِ العلاقة بين العقل والوحي، وهو فهمٌ يقومُ على إعادة تعريف العقل والوحي على غير ما قرّ في المدوّنة القُدمى، وبمعزلٍ عن التركةِ النظرية التي ورثها المتكلمون والفلاسفةُ عن «أرسطو»، وهو ما يقترحه كمقدمة لعلم الكلام الجديد بقوله: « يبدأ علم الكلام الجديد بإعادة تعريف الوحي بنحو لا يكرر تعريفه في علم الكلام القديم كما هو...»(). ثُمَّ يقول: « العقل كائن تاريخي يتغير ويتطوّر ويتكامل تبعاً لنمو وتراكم معقولاته كيفاً وكماً...»(). وإذا ما كانَ هذا المدخلُ لسؤال الدين؛ فتكون النتيجةُ أنّ ثَمَّ فهماً جديداً للدين، وقراءة مختلفة، أو بتعبير الرفاعيّ نفسه: «يفهم الدين من داخله، وإن كانت تمثلاته في الحياة البشرية تفهم من خارجه. الدين حياة في أفق المعنى، الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية هي الأفق الذي يتحقق فيه الدين، وهي لا تتطابق مع المادة التي تتحقق وتنكشف فيها العلوم وقوانينها.»()
زاولَ الرفاعيّ هذا الفهمَ بوصفه أصلاً مرجعيّاً تستندُ إليه تمثلات تجربته، ففي كتابه «الدين والظمأ الأنطولوجي» يضعُ هذا الأصلُ مفتتحاً؛ ليتفرّعَ منه إلى سردِ سيرته الفكريّة وتحولاتها، ثُمَّ معالجة المشكلات التي أرهقته، وهي مشكلات عامة، بل إنّها مشكلات الإنسان المفكر.
ولا يُعدمُ هذا الأصلُ في كتابه «الدين والنزعة الإنسانيّة»، إذ يقول: « لا أفهم الدين فهماً وضعياً يقطع صلته بالمطلق، لذلك أختلف في فهمي لـ «أنسنة الدين» عما هو شائع لدى كثيرين من الباحثين في هذا المضمار»(). ثُمَّ يعودُ لتعريفِ الدين قائلاً: «الدين حياة في أفق المعنى، تفرضه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاج معنى روحيّ وأخلاقيّ وجمالي لحياته الفردية والمجتمعية. هذا هو تعريفي للدين»(). ولهذا الأصلُ المرجعيّ تجلٍ آخر في كتابي «الدين والاغتراب الميتافيزيقي»، و«الدين والكرامة الإنسانيّة».
حاولَ القدامى، بمختلف اتجاهاتهم، أنْ يقدموا فهماً لعلاقة العقل بالوحي، غير أنّ هذا الفهم لم يخلُ من الميلِ إلى طرفٍ، والانتصار له. فثَمَّ نفرٌ مالَ إلى فاعلية الوحي ميلاً كلياً بوصفه مصدر المعرفة الرئيس، والكاشفُ عن الواقعِ، أمّا العقلُ فلا يحوز مزيةَ كشفٍ، بل هو خطّاء، ولا يصحُ الوثوق به، وكانَ «أوغسطين»، و«توما الأكويني» الآباء المؤسسين لهذا الرأي، وتبعهم، إسلاميّاً، «أبو حامد الغزالي».
ونجمَ، في الثقافةِ الإسلامية، رأيٌ آخر، كانَ يصوّر العلاقة، بين العقلِ والوحي، على أنّها توصلية، أي أنّ العقلَ يحوزُ مزيةَ توكيد الأصول، توحيداً ونبوةً، ثُمَّ يقفُ، ويمضي الوحي بوصفه المصدر الرئيس لتوكيد الأصول الأخرى، ومكاشفة التفاصيل، وإذا ما تعارضَ العقلُ والوحي تعارضاً بدوياً، أو مستقراً، فيقدمُ الوحي.
وبينَ هذين الرأيين ثَمَّ رأي آخر يحوز للعقلِ مزية المعرفةِ مطلقاً؛ مستبعداً فاعلية الوحي، وهو يستندُ إلى تكأةِ علميّة صرفة «تجريبية»، وربما هو أشبهُ بما قرّ في الفلسفةِ الوضعية.
لا تبعدُ تيك الآراء عن دائرة الجدلِ الكلاميّ القديم التي أرادَ المحدثون، عرباً وغيرهم، أنْ يعيدوا النظرَ فيها، وأن ينقدوا بالمساءلةِ ما تسربَ منها إلى المدوّنة الجديدة، غير أنّ نفراً من هؤلاءِ المحدثينَ وقعوا بفخاخ الاستعادة، أي أنّهم تبنوا، قبلياً، رأياً ما في مساءلة الآراء الأخرى بمعزلٍ عن التفكير بإعادة تعريف العقل والوحي تعريفاً جديداً، كما فعلَ الدكتور الرفاعي، ثُمَّ محاولة فهم العلاقة فهماً ايجابياً.
حاولَ الرفاعيّ أن يعرّفَ الوحي بأنه: «صلة وجودية بين عالم الغيب والشهادة، تصيّر النبي شاهداً للغيب. إنها نحو ظهور للإلهي يتجلى على مرآة البشري.»، وبهذا يفارق الرفاعي بين الوحي والعقل مفهوماً ومحددات، مجترحاً رأياً رابعاً لا ينتصر فيه إلى طرفٍ ما، أو يقصر، أو يهمش، فاعليته، بقدْر ما يقدّم فهماً للعلاقة على أصلٍ من تنوّعِ الواقع الوجودي وسعته، غيباً وشهادةً.
صدر حديثًا عن دار الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة في بغداد كتاب: "عبد الجبار الرفاعي: الدين حياة في أُفق المعنى". يتوفر الكتاب في جناح دار الشؤون الثقافية في معرض بغداد للكتاب.
Читать полностью…كتب الدكتور علي الموسوي الاستاذ بجامعة اوتاوا بكندا:
جناب الدكتور الموقر الرفاعي الكبير والشامخ ...لقد قرأت الفصول الثلاثة الأولى من كتابكم الموسوم "مقدمة في علم الكلام الجديد"... تحديدا ال١٠٠ صفحة الأولى.... شيء مذهل، استطيع ان اقول و بكل ثقة ان لو عمل بهذه المنهجية والمقاربة في بناء عقلانية علم كلام جديد، فسوف يكون اهم منجز يضاف إلى الدين ، يكون طوق نجاة لقراءة الدين حيث هو، وفي الحيز الذي يثري، وفي الموضع الذي جاء الدين لأجله، وسوف نرى انبعاث جديد مشرق للدين به توهج الأخلاق و الروح والجمال .. ادام الله عطاءكم جناب الدكتور وان لاشراقاتكم العرفانية منهج ووهج وسكينة الروح.
في معاشرةِ الناسِ نحتاجُ القلبَ أكثر من العقل
د. عبدالجبار الرفاعي
في معاشرةِ الناس نحتاجُ القلبَ أكثر من العقل، نحتاجُ لغةً تتقن مخاطبة العواطف أكثر من لغة المنطق والفلسفة والرياضيات والعلم، نحتاجُ المشاعرَ أكثر من الفكر، نحتاجُ الكلماتِ الحيّة المهذبة أكثر من كلمات المجاملة المنطفئة، ونحتاجُ المعاني الأصيلة الصادقة أكثر من الفائض اللفظي الذي يمكن أن تقول الألفاظُ فيه كلَّ شيء من دون أن تقول شيئًا جميلًا. الحكيمُ في هذا العالَم هو من يعمل من أجل أن تكون حياتُه والعالَمُ الذي يعيش فيه أجمل، ولا تكون حياتُه أجملَ إلا إن كانَ قادرًا على صناعة الجمال في حياة غيره. صناعةُ الجمال تتطلب أن يعطي الإنسانُ ما هو أجمل في كلِّ كلمة يقولها، في كلِّ حرف يكتبه، في كلِّ فعل يفعله، وفي كلِّ قرار يتخذه، في كلِّ شيء يقدمه لغيره. وهذا سلوكٌ شاقٌّ على النفس.
الحُبُّ ليس صعبًا فقط، بل هو عصيٌّ على أكثر الناس، لا يسكن الحُبّ الأصيلُ إلا الأرواحَ السامية، ولا يناله إلا مَنْ يتغلّب بمشقةٍ بالغةٍ على منابع التعصب والكراهية والعنف الكامنة في أعماقه. حُبُّ الإنسان من أشقِّ الأشياء في حياة الإنسان، لأن هذا الكائنَ بطبيعته أسيرُ ضعفه البشري، يصعب عليه أن يتخلّص من بواعث الغيرة في نفسه، وما تنتجه غيرتُه من منافسات ونزاعات وصراعات، وما يفرضه استعدادُه للشرِّ من كراهياتٍ بغيضة، وآلامٍ مريرة.
مادام الحُبّ أثمنَ ما يظفر به الإنسانُ وأغلاه، فإن نيلَه يتطلب معاناةً شاقةً وجهودًا مضنية. الإنسانُ أعقدُ الكائنات في الأرض، وأغربُها في تناقضاته، وتقلّب حالاته. تناقضاتُه لا تنتهي، لأنها تتوالد منها تناقضاتٌ باستمرار، مالم يفلح الإنسانُ بالتغلب عليها بمزيدٍ من صلابة الإرادة، ووعي الحياة، واكتشافِ مسالكها الوعرة، والخلاصِ من ضغائنها، والعملِ على الاستثمار في منابع إلهام الحُبّ، ونحوٍ من الارتياض النفسي والروحي والأخلاقي الذي يسمو بالإنسان في مراتب الكمال.
حُبُّ الناس صعبٌ، حُبُّ الناس، إن ظفرَ به الإنسانُ، حالةٌ يعيشها الإنسانُ ويتحقّقُ بها في طور وجودي جديد، وهي لا تتكرّس إلا بالتربيةِ والتهذيب، والصبرِ الطويل بإكراه النفس على العفو والصفح، والتدريب المتواصل على إخماد نيران التعصب وتحطيم الأغلال المترسبة في باطنه، والعملِ الدؤوب على اكتشاف منابع إلهام الحُبّ وتنميتها. ومن أثرى هذه المنابع النظر لما هو مضيء في مَنْ تتعامل معه، والعفوُ، والصفحُ، والغفرانُ عن الإساءة، والانهمامُ بالذات، وعدمُ الانشغال بالغير وشؤونه وأحواله، والكفُّ عن التدخلِ في الحياة الخاصة للناس وانتهاكها، ومطاردتِهم بالأحقاد،كما يفعل البعضُ الذي ينصّب نفسَه وكأنه وصيٌّ على الناس، يترصد كلَّ شيءٍ يصدر عنهم فيحاسبهم عليه. وهو لا يعلم أن كلَّ فعلٍ يرتدُّ على فاعله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
الحُبُّ أنجعُ دواءٍ تحمي فيه نفسَك وتحمي فيه غيرَك من آلام وشرورِ البشر. الحاجةُ للحُبّ من أشدِّ الحاجات العاطفية للإنسان، غير أن اشباعها لا يتحققُ بسهولة. الاستثمارُ في الحُبّ أثمنُ استثمار في إنتاج معنىً للحياة. العفو والصفحُ والحُبُّ أيسرُ دواءٍ يشفي الإنسانَ من آلامِ القلبِ وجروحِ الروح، مَنْ يجرّب العفوَ والصفحَ في المواقف المتنوعةٍ يجدهما كثيرًا ما يتغلّبان على حنقِ الناس، والشفاءِ من أحقادهم.كان وما زال العفوُ والصفحُ والحُبُّ أنجعَ دواءٍ لشفاء الإنسان وشفاء علاقاته في المحيط الاجتماعي من الأمراضِ التي تتسببُ بها الضغينةُ والبغضاءُ والكراهية. يُنسب للقديس أغسطينوس القول: "الكراهيةُ كمَنْ يشرب السُمَ على أمل أن يموتَ الآخرَ، فأول مَنْ يتسمَّم بالكراهية صاحبُها".
أعترف أني جرّبتُ العفوَ والصفحَ مع بعض الناس الذين لا يعيشون إلا بالضغائن والأحقاد ففشلتُ، وجربّتُ العفوَ والصفحَ معهم ثانيةً وثالثةً ورابعةً وخامسةً وسادسةً وسابعةً ففشلتُ، وربما سأفشل لو كررتُ التجربةَ، لكني كنتُ وما زلتُ متشبثًا بقناعتي الراسخة التي تشتدّ كلَّ يوم بأن العفوَ والصفحَ هما الدواء الذي يشفي القلوبَ من الضغائن والأحقاد المتفشية في مجتمعنا، وهما الدواءُ الذي يكفل الشفاءَ من أغلب الظواهر المقيتة لسأم الناس من الحياة وجزعهم.
ترويضُ الطبيعة الإنسانية بالتربية الروحية والأخلاقية والجمالية يكفلُ احتواءَ هذا التناقض إلى حدٍّ كبير، عندما يخفض من فاعلية عناصر الشرّ، ويغذّي ويكرّس عناصرَ الخير في هذه الطبيعة. التربيةُ عمليةٌ ديناميكية وليست ميكانيكية. إنها كالمعادلات الكيمياوية التي تختلفُ نتائجها تبعًا لاختلاف كيفيات وكميات عناصرها، فقد تكون ثمرتُها الاستعباد، كما هو نمط تربية أكثر المؤسسات في مجتمعنا الوارثة لتقاليد الاستبداد وثقافته، وقد تكون ثمرتُها الحرية، وهذه قليلًا ما نعثر عليها في مجتمعنا. التربيةُ إن كانت ترتكز على معطيات العلوم والمعارف الانسانية، والقيمِ الأخلاقية والروحية والجمالية، فإنها تكون تربيةً خلّاقة، تثري الرأسمالَ البشري الذي هو أثمن رأسمال في العالم. وحين تغيب في التربية القيمُ والمعايير والاستراتيجيات والأساليب العلمية، وتجهل روحَ عصرها، فإنها تصير كجرعة السمّ التي تقوّض الحياةَ العقلية، وتمرض الحياةَ الروحية، وتطفئ الضميرَ الأخلاقي، وتفسد الذائقةَ الجمالية.
أحيانًا لا يعجز الإنسانُ عن الحُبّ فقط، بل يعجز عن الخلاص من كراهية الناس والحقد عليهم. تجده يتعذّب بكُرْه كلِّ الناس، ولو فرضنا أنه في يوم ما لم يجد مَنْ يكرهه فإنه يعود إلى نفسه ليكرهها. بعضُ الناس عاجزٌ عن إنتاج الحُبّ، على الرغم من حاجته الشديدة إليه، ربما يكون عاطفيًّا بلا حدود، ربما يمتلكُ حساسيةً فائقةً يفتقر إليها كثيرٌ من الناس. غير أن عجزَه عن إنتاج الحُبّ يعود لعقدٍ نفسيةٍ وعاهاتٍ تربوية، وجروحٍ غاطسة في البنية اللاشعورية في أعماقه، تفرض عليه حياةً خانقة كئيبة، لا يمكنه الخلاصُ منها أو تخفيفُ وطأتها إلا بمراجعة مصحّ نفساني.
ما دام هناك إنسانٌ فإن حاجتَه لمعنىً لحياته تفوق كلَّ حاجة معنوية، لا يستطيع الإنسانُ العيشَ بسلامة نفسية من دون معنىً لحياته، ولا معنى للحياة أثرى وأجمل من الحُبّ والعطاء، صلة الحُبّ بالعطاء صلة عضوية، الحُبّ أحد أعذب أشكال العطاء المعنوي. لغةُ الحُبّ لغةُ القلوب، لغةُ القلوب لا تخطئ، لغةُ القلوب لا يمكن التشكيكُ في صدقها، يتذوقها بغبطةٍ وابتهاج مَنْ تفيض عليه حُبّك، ولا ينجذب إليك مَنْ لا يتذوقها منك.كلّما استثمر الإنسانُ المزيد في الحُبّ كلّما امتلك المزيدَ من القلوب، وتنامت ثقةُ الناس فيه وثقتُه فيهم.
الحُبُّ كالضوء يكشفُ عن نفسه، وينكشفُ فيه كلُّ شيء ويظهره بجلاء. الحُبُّ لا يحتاج إلى من يكشفه ويظهره، بوصفه أوضحَ وأظهرَ من كلِّ شيء، وإن حاول أحدٌ تفسيرَه فهو عصيٌّ على التفسير. الحُبُّ حالةٌ، والحالاتُ أشياء وجودية. كما أن مفهومَ الوجود واضحٌ، وحقيقتَه عصيةٌ على الفهم، هكذا الحُبّ مفهومُه واضحٌ كنهُهُ مبهمٌ. مثلما يُعرفُ الوجودُ بآثاره ومظاهره وتجلياته وتعبيراته، يُعرفُ الحُبّ بآثاره ومظاهره وتجلياته وتعبيراته وثمراته في حياة الكائن البشري.
تعدّدت طرائقُ فهمِ الحُبّ وتفسيرِه وبيانِ آثاره المتنوعة على القلب والروح والضمير والعقل والجسد، فكلّ فن وعلم يفسّره من منظور يتطابق مع الوجهة التي يتجلى له فيها، الحُبّ لا يتجلى إلّا جميلًا مُلهِمًا. وكأن الحُبّ مرآةٌ لا يرتسم فيها إلّا ما هو رؤيوي مضيء. الحُبّ محُبوبٌ لكونه حُبًّا لا غير. الحُبّ حاجةٌ أبدية، وكلُّ شيء يحتاجه الإنسانُ بهذا الشكل لا يحتاج سببًا آخر غيرَه يدعوه للظفر به.
أشبع العرفاءُ الحُبَّ في كلّ الأديان بحثًا وتحليلًا، وما زال تحليلُهم لماهية الحُبّ هو الأجمل والأبهج والأعذب والأثرى، وهكذا أنشده الشعراءُ في قصائدهم وتغنوا فيه بغزلياتهم، وتوغل في تصوير حالاتِه وأطوارِه وثمراته ومواجعِه أعظمُ الروائيين مثل دوستويفسكي في أعماله الخالدة، ونهض بتفسيره الفلاسفةُ في علم النفس الفلسفي، واهتم بالكشف عن آثارِه المتنوعة ومظاهرِه وتعبيراتِه في حياة الفرد والمجتمع، كلٌّ من: علماء النفس، والاجتماع، والأنثربولوجيا، والأخلاق، وأخيرًا قدّم له علماءُ الأعصاب والدماغ تفسيرًا بايولوجيًّا.كلُّ علم وفن يفسّره من منظوره، الكلُّ يشددّ على عدم استغناء الإنسان عنه في أي مرحلة من مراحل حياته، وفي أية حالة يكون فيها، وفي أية محطة تصل حياتُه إليها. تظلّ الحاجةُ للحُبّ مزمنة، تولد مع الإنسان ولا تنتهي. يتطلعُ الإنسانُ كلَّ حياته إلى مَنْ يُحبّه في الدنيا، مثلما يتطلعُ إلى مَنْ يلبث يُحبّه فيُخلِّد ذكراه بعد وفاته.
https://alsabaah.iq/45595/%D8%A7%D9%84%D8%AD-%D8%A8-%D8%B9%D8%B7%D8%A7%D8%A1?fbclid=IwAR1IqO3L5UhzcWtAky1cZf_tZ1CHX27Sw5NPNulnh1OLiaZ1jqPS5J41U6Q
الدينُ كائنٌ حيٌّ يطلبُ ما يمدُّه بالحياة
د. عبدالجبار الرفاعي
يظنُ بعضُ الناس خطأ أن الإيمانَ يمكن أن يتحقق ويُعبّر عن حضوره الفاعل في حياة الإنسان بلا دين، وبلا أن يتجسدَ كسلوك. الإيمانُ في آثاره العملية هو الدينُ في أفقه الروحي والأخلاقي. الإيمانُ حالةٌ وجودية كالفرح والمحبة، وليس صورةً ذهنية مجردة،كلُّ حالة وجودية لها آثار على شاكلتها، الفرح مثلًا تظهر آثارُه في مشاعر الإنسان، وتنعكسُ آثارُه على وجهه وتعبيرات جسده. تاريخُ الأديان لا يخبرنا بوجود إيمان يمكن أن يتحقّقَ في روح الإنسان من دون أن تنعكس آثارُه في حياته، وفي الواقع الذي يعيشُ فيه. الإيمانُ يتخذُ شكلًا من أشكال الحياة الروحية والأخلاقية، وهذا النوع من الحياة الروحية والأخلاقية هو ما نعنيه بالدين.
ليس بالضرورة أن يكون هذا الدينُ نسخةً لأحد الأديان المعروفة، إذ يمكن أن يتخذ الإنسانُ لنفسه دينَه الخاص، لكن هذا الدين الخاص يعجزُ عن الإفلات كليًا من البنية اللاشعوريّة لدين أهله، ولا تختفي نهائيًا آثارُ ذلك الدين المترسبة في أعماقه. يظل الدينُ الذي ورثه من أهله ومجتمعه وبيئته المولود فيها يعبّر عن نفسه في لغته وثقافته وعاداته وعلاقاته الاجتماعية، وأوضح تعبيراته تتجلى في الوفاء للقيم الإنسانية السامية في ذلك الدين. حتى في كتابات مفكرين أعلنوا إلحادَهم لا تختفي آثارُ دين الولادة والنشأة الأولى الكامنة في أعماقهم، ويمكن للخبير أن يقرأ ما تحجبه كلماتُهم ويتوارى في نصوصهم من إشارات لما هو غاطس من الدين.
لا يمكن أن يظل الإيمانُ حالةً خاملة أو كسولةً أو مضمرةً لا أثر لها في حياة الإنسان، الإيمانُ يكرّسُ الحياةَ الروحية والأخلاقية، الإيمانُ يتجسدُ في مواقف إنسانية نبيلة. الإيمانُ تتسامى فيه شخصيةُ الإنسان فيتخذ شكلَ تديّن رحماني وأخلاقي.كلُّ إيمان يكشف عن حضوره العملي في تديِّن الإنسان،كلُّ إيمان يتحقق في تديّن، وإن لم يكن كلُّ تديّن مرآةً ينعكس فيها الإيمانُ الأصيل، التديّنُ الشكلي والشعبوي يضمحلُ فيه الإيمانُ المُلهم لأعذب معاني الحياة.
كي تظل جذوةُ الإيمان متوهجةً، ويواصل الدينُ حضورَه وفاعليته وتأثيره في الحياة يحتاجُ إلى وقود، العبادةُ هي الوقود. الدينُ كالمصباح الذي لا يضيء إلا عند اتصاله بمصدر الطاقة، في أية لحظة يتوقف وصولُ الطاقة ينطفيء ضوءُ المصباح. إنه كأصناف النباتات التي لاتعيش إلا إن كانت أرضُها مشبعةً بالماء. الدينُ كائنٌ حيٌّ يحتاج إلى ما يغذّيه، وإلى ما يوقظ نبضَ الحياة فيه على الدوام، إنه لا يستمدّ حضورَه وفاعليته وتأثيره إلا بالعبادة. في لقاءِ الله تُبهِجُ الأرواحَ المتعبَةَ السكينةُ، والقلوبَ المضطربةَ الطمأنينةُ، "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ".
العبادةُ مكونٌ أساسي في ماهية كلِّ دين، حيثما كان الدينُ كانت العبادةُ والطقسُ، لأن الدينَ يعبّر عن الحاجة للصلة بموجود لا متناهٍ في وجوده وقدرته وعلمه وكلِّ شيء. العبادةُ هي التعبيرُ الحي عن هذه الصلة. الصلةُ الوجودية مالم تظل متدفقةً دائمةَ الفيض، فإنها تتبدّد وتتلاشى، ومالم تظل مضيئةً باستمرار، فإنها لو انطفأت تصاب روحُ الإنسان بالوهن والعجز، ومالم تظل منهمرة، فإنها لن تبلغ غايتها فتروي الظمأ الوجودي.
العبادةُ الحقيقية تُثري رؤيةَ الدينِ للعالَم، ففي الإسلام تُثري الصلاةُ الصادقة رؤيةَ المسلم للعالَم، وتُلهمها بمعناها الروحي والأخلاقي، وتجعل من هذا المعنى أفقًا تتشكّل في ضوئه حياةُ الإنسان الخاصة وعلاقاتُه الاجتماعية المتنوعة. وحسب تعبير علي عزت بيغوفيتش: "ليست الصلاةُ مجرّد تعبير عن موقف الإسلام من العالَم، إنما هي أيضًا انعكاسٌ للطريقة التي يريد الإسلامُ بها تنظيمَ هذا العالَم".
الإيمانُ كائنٌ حيّ يقظٌ فوّار، وهو أمرٌ وجودي، لا يتحقّق ويزدهر من دون روافد يستقي منها وجودَه، وتتجدّد بها حياتُه. إنه جذوةٌ مشتعلة، وهذه الجذوةُ بلا صلاة وطقوس تظلّ تذوي شيئاً فشيئاً حتى تنطفئ. مالم تتكرّر الطقوسُ والصلاةُ في سياق تقليدٍ عباديٍّ مرسومٍ، يذبل الإيمانُ ويذوي حتى يصير حطاماً. الإيمانُ بمثابة حديقة الأزهار، مالم نواظب على سقيها تذبل وتموت وتندثر. الصلاةُ والطقوسُ كأنها ينابيعُ مياه عذبة صافية تسقي حديقةَ الإيمان، لولاها لاندثر وأصبح هشيماً تذروه الرياح.
اهتمَ كلُّ دين معروف اهتمامًا واضحًا بالعبادة، وحرصت كلُّ الأديان على رسم تفاصيلها بجلاء، وحذّرت مَنْ يتبع الدينَ من أدائها كيفما يشاء خارج رسمَها المحدّد، لأنه يهدرُ وظيفتَها ويمسخُ هويتَها. القولُ بأن لكلِّ شخص عبادته وصلاته الخاصة كلامٌ غريبٌ على منطق الأديان، وما ترمي إليه العبادةُ فيها، وأغربُ منه محاولات بعض الناس ترقيع والتقاط عناصر متضاربة من أديان مختلفة في عباداتها وطقوسها وشعائرها، وخلطها ببعضها ولصقها بصورة متناشزة مشوّهة، وممارستها بشكل يمحقُ الدينَ، وينتحلُ حالةً زائفة للإيمان.
الإيمانُ تجربةٌ روحية، كلُّ تجربةٍ روحية هي تجربةٌ وجودية تفشل اللغةُ في التعبير عنها، وإن تحدثت عنها فإنها تخون دلالتَها في التوصيل والإيضاح، لأنها لا تستطيع أن تتحدث عنها إلا بكلمات وعبارات ضبابية مبهمة غامضة. الرموزُ أشدُّ دلالةً على الإيمان، وعلى كلّ تواصلٍ وجودي مع الله والغيب، بل إن الكلماتِ والعبارات عندما تتحدث عن الله أو الغيب تستعير دلالةَ الرموز، لأنها تشير إلى ما هو مجرّد عن المادة وآثارها، الغيبُ لا يتمكن الإنسانُ أن يتواصل معه بالمعاني الظاهرة للغة القاطنة في فضاء الزمان والمكان والحواس.
الطريقُ العقلي إلى الله لا جذوةَ فيه، ولا ينتج سكينةَ الروح وطمأنينةَ القلب. لا يتمسك فلاسفةٌ مشاهيرُ بطريق العقل، ويرون أنه يخذلنا ولن يوصلنا إلى الله، أمثال: إيمانويل كانت، وسورين كيركيگورد، وغيرُهما. ولا يعبأ عرفاءُ في مختلف الأديان بطريق العقل، أمثال: محيي الدين بن عربي، وجلال الدين الرومي، ومايستر إكهارت، وغيرُهم. يقول جلال الدين الرومي: "إن قدمَ أصحاب العقل والاستدلال قدمٌ خشبيةٌ مهزوزة غير ثابتة". و"يروى أن الفخرَ الرازي مرَّ في الطريق وحوله أتباعه وتلامذته الكثيرون، فرأته عجوز مؤمنة في جانب الطريق فسألت: من هذا؟ فقالوا: هذا الفخر الرازي، الذي يعرف ألف دليل ودليل على وجود الله تعالى، فقالت: لو لم يكن عنده ألف شك وشك لما احتاج إلى ألف دليل ودليل، فلما سمع الفخر الرازي بذلك، قال: اللهم ايمانًا كإيمان العجائز".
الإيمانُ حالةٌ روحية متسامية، الإيمانُ جوهرةٌ كيفية لا تخضع لقياسات كمية مادية، إنه شروعٌ في سفر وجودي للعروج نحو الحقّ. حينما لا يحيا الإنسانُ الدينَ كصلة حيّة متوثبة بالحق، بل يُقدّم للمرء بوصفه مقولات ومفاهيم وأفكارًا وشعارات، يجب أن يعتنقَها الكلُّ، ويحفظَها الكلُّ، ويتطابقَ فيها الكلُّ، فلن يرتوي القلبُ بالإيمان ولن يبتهج بلذة وصال الحق. يصير العقلُ مستودعًا يختزن مجموعةَ محفوظات، هي بمثابة مومياءات محنطة مفرّغة من أية شعلة روحية متوهجة. يكتب محيي الدين بن عربي: "إن الإيمان نور شعشعاني، ظهر عن صفة مطلقة لا تقبل التقييد، والمؤمنون فيه على قسمين: مؤمن عن نظر واستدلال وبرهان، فهذا لا يوثق بإيمانه، ولا يخالط نورُه بشاشةَ القلوب، فإن صاحبَه لا ينظر اليه إلا من خلف حجاب دليله، وما من دليل لأصحاب النظر إلا وهو معرّض للدخل فيه والقدح ولو بعد حين، فلا يمكن لصاحب البرهان أن يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وهذا الحجاب بينه وبينه. والمؤمن الآخر الذي كان برهانُه عينَ حصول الإيمان في قلبه، لا أمر آخر، وهذا هو الإيمان الذي يخالط بشاشة القلوب، فلا يتصور في صاحبه شك، لأن الشكَ لا يجد محلًا يعمره فإن محله الدليل".
الإيمانُ لايتحقّق بالنيابة، خلافاً للفهم والمعرفة، ففي عملية الفهم يمكن أن يتلقى الإنسانُ معارفَه من شخص آخر، أو يقلّد غيرَه في آرائه، الإيمانُ تجربةٌ تنبعثُ في روح الإنسان، إنه صيرورةٌ تنبعثُ بها الروحُ وتتوهجُ.
كما أن القلبَ هو الطريقُ إلى الله، هو أيضًا بوصلةُ بناء وترسيخ أثرى العلاقات الإنسانية في الحياة وأخصبها، وأغناها بالحميمية والتراحم،كعلاقات الأمهات والآباء بالأبناء، وكلِّ العلاقات الإنسانية في إطار العائلة الواحدة.كلُّ علاقة إنسانية أصيلة لا يمكن أن تنمو وتتغذّى وتتجذّر إلا بعواطف ومشاعر نبيلة تستقى من القلب.
https://alsabaah.iq/44701/%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%84%D8%A8-%D9%87%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82?fbclid=IwAR3Z_pANqJGgQCwT9B7TT2Kw4LzOWQZQQiJEhAkhGSGQR2o2qlqN2hEJNqI
المحبّةُ اللامشروطةُ طاقةٌ تُلهم الإنسانَ تذوقَ أجمل ما في العالم. المحبّةُ أقلُ بكثير من الكراهية، عواملُ صناعة الكراهية شديدةٌ ومختلفةٌ داخل النفس وخارجها، لا تصنعُ المحبّةَ اللامشروطةَ إلا الأنفسُ النبيلة. عددُ الناس الذين يحبون الإنسانَ بلا شروط قومية واعتقادية وأيديولوجية وسياسية وجغرافية أقل بكثير من أولئك الذين يقتاتون على الأحقاد في مختلف محطات حياتهم، ممن توطنت الكراهيةُ المزمنةُ قلوبَهم.
#عبدالجبار_الرفاعي
#المحبة
ينجمُ مما مرّ، أنّ تجربةَ الدكتور الرفاعيّ تقومُ على فهمٍ جديدٍ للدين، وأنّ هذا الفهمَ يشكّلُ أصلاً مرجعياً في منجزه، وقد انبجسَ، بدءاً، من مساءلة مفهومي العقل والوحي، والعلاقة بينهما، في المدوّنة الفلسفيّة، والكلاميّة القُدمى، وكانَ للنزعة العرفانيّة دورٌ في تشكّل هذا الفهم.
شيءٌ آخر يضاف، أنّ الرفاعيّ توصلَ إلى هذا الفهم، بوصفه أصلاً مرجعياً، بعد خبرةٍ في قراءة ودراسة التراث الدينيّ والإنسانيّ، وتجربة روحية في تأمل عوالم الغيب، والشعور بتجلياته، إضافةً إلى شغفه بمتابعة ما تنتهي إليه مناهج العلوم الحديثة، وهو يرى، قبلاً، أثرها الفاعلَ في سياقِ التجربة البشرية.
ختاماً، أنّ هذا الكتابَ يعدُ تعريفاً بالرفاعيّ أثراً ومنجزاً، وانجازه وفاءً واحتفاءً.
والحمدُ لله أولاً وآخرَ.
#اسامة_غالي
#عبدالجبار_الرفاعي
#الدين_حياة_في_أفق_المعنى
https://thaqafat.com/2022/12/101710
عبد الجبار الرفاعيّ: الأثر والمنجز
أسامة غالي
يُلفي مَن يطالع هذا الكتابَ «عبد الجبار الرفاعي: الدين حياة في أُفق المعنى» أنّ تجربةً فكريّةً قد تناولتها اطروحات ورسائل دراسات عليا في عدة جامعات، ودراسات، ومقالات، ومراجعات، وشهادات، لأكثر من عقدين، وفي مناسبات مختلفة، ولدواعٍ شتى، وبتنوع ثقافيّ بين الشرق الإسلاميّ وغربه، واتفقَ، اختياراً وجمعاً، أن يوضعَ شيءٌ منها في كتابٍ، وعلى ثلاثة محاور: شهادةً، ومقالاً، ودراسةً؛ كشفاً عن نسقِ التجربةِ الظاهرِ والمضمرِ معاً، وتعريفاً بها وفاءً لأثرها. وما كانَ لهذه التجربةِ أنْ تنال هذه العنايةِ لولا غناها، وتنوّعها، وعمقها، وتميزها، واختلافها أيضاً.
الرفاعيّ أثراً
وقفَ الكتّابُ ـ في غير مظنّةٍ ـ عند أثر الرفاعيّ، وتناولوا ما هو شخصي قامَ على صلةٍ، أو موقفٍ، وما هو عام قامَ على قراءة منجزٍ، وفي الحالين يتجلى الأثرُ؛ محرضاً على أنْ أفتتحَ التقديمَ بشيء من الصلةِ بالأستاذ الرفاعي؛ لأصلَ بعدها إلى المنجز، ولا يعدمُ في التعريف بالمنجز شيءٌ مما هو ذاتي.
حينَ دخلتُ النجفَ دارساً للمعارف الدينيّة، وكان سناً مبكراً، تعرّفتُ إلى الدكتور الرفاعيّ، وكانَ التعرّفُ في ضوءِ المنجزِ، لاسيما في شرحي أصول الفقه والفلسفة، وبين هذين الكتابين كنتُ أطالعُ مجلة «قضايا إسلاميّة معاصرة» التي تصلُ النجفَ بموادٍ غنيّة: طروحات جديدة، وترجمات تفتحُ كوةً لنفاذ فكر الآخر المختلف. ولا تعدمُ أحاديث أساتذة عن الرفاعيّ، سيرةً وموقفاً وثقافةً، ومع كلّ هذا يزدادُ حضور الرفاعيّ في أفق الوعي، ويتماد الفضولُ بالتعرّفِ إليه عن كثبٍ.
توثقت الصلةُ بالرفاعيّ مفكراً ومترجماً، وكانَ ما أسسه في بغداد، مركزاً لفلسفة الدين، رافداً معرفياً مهماً، إذ قامَ بنشرِ نتاج مفكرين إيرانيين لم يطالع عربيّاً، إضافة إلى ما ينجزهُ الرفاعي شخصياً، مراجعةً، ونقداً، وسجالاً، وفكراً. وكانَ يحرصُ، في كلّ هذا، على شيعوعةِ الاستنارة في العالم العربيّ، وفي العراق تحديداً.
لم تكن طروحات الرفاعيّ تفارقُ نبعين إلاّ ما ندر: الأولى القرآن الكريم، والنزعة العرفانيّة. غير أنّ تكأة الرفاعيّ على هاتين النبعين لم تعد تكأة القُدامى، فهو يبتكرُ لنفسه آليات اشتغال أخرى، ومنظوراً مختلفاً، ومراساً جديداً ينجم عن استجابةِ راهنٍ، ولا يبعدُ، في ما ينجزُ، عن طرح الإشكاليات الكبرى في الثقافة الإسلامية، وهو صانع الأسئلة الأمهر.
شيءٌ آخر يضاف، أنّ الرفاعي لا يرى تعارضاً، أو انفصالاً، بينَ العلوم الحديثة، إنسانيةً، واجتماعيةً، والمعارف الدينيّة القُدمى؛ وإنما يرى ثَمَّ نسغاً يتماد بينها، وتخادماً يقضي بفهمٍ جديدٍ للدين، إلا أنه يفارقُ بينَ معطيات تيك المعارف أو العلوم الإنسانيّة وبينَ العلوم الصرفة؛ طبيعيةً أو غيرها.
لا جرمَ، أنّ الأثر تمادَ أبعدَ من المنجزِ، وصارَ إلى صلةٍ مباشرةٍ، تواصلاً ولقاءً وحواراً، فتعرّفتُ إلى المفكر الرفاعيّ شخصياً، وكانَ ما يطرحُه ذات ما يتمثلُ في شخصيته، تقبلاً للاختلاف، وانفتاحاً واصغاءً للآخر، وتدفقاً فكرياً وروحانيّاً واخلاقيّاً، ونأياً عما يتركُ في الروح صدأً، وبذلاً، بلا جزاءٍ، لأي سؤالٍ.
لم تنقطع الصلةُ، ولم تخفت، ولا يعكرها الحاحٌ بطلبٍ، فكانَ يبادرُ بالسؤالِ دوماً، متفقداً الغياب، أو مواسياً لحظة فقدٍ، أو فرحاً بإنجازٍ، محفزاً إليه، ومتابعاً تفاصيل تأديته، داعماً ومحتفياً، ولقد مدَّ بالصلةِ إلى شخصيات أُخر، عراقيّاً، وعربيّاً، وإيرانياً، معرّفاً، أو قاضياً لمسألة تعسرت.
هكذا تعرّفتُ إلى الدكتور الرفاعيّ، ولقد أًبقي على هذا الأثر؛ لأنه مما يأملُ ويعلّمُ، ويفتحُ آفاقاً، ويمنحُ الطمأنينة.
الرفاعيّ منجزاً
اتفقَ أنْ أعنى بالفلسفةِ والعرفانيّة جرّاء الدرس الديني في النجفِ، ثُمَّ أنْ أواصلَ هذه العنايةَ أكاديميّاً في الدراسة العليا، وكانَ النظرُ في الفلسفة والعرفانيّة، دراسةً وتحقيقاً، يقدمُ معالجةً لمشكلٍ منهاجيّ، ألا وهو العلاقة بين العقل والوحي، ثُمَّ سؤال الدين، وكانَ قد شاعَ، بلا أصلٍ، أنّ ثَمَّ قطيعةً بينهما، أو قل إنّ ثَمَّ تهافتاً خفياً قد سوّغ العلاقةَ الذهنية، وربما هذا ما أدّى بـ «أبي حامد الغزالي» إلى إشهار «تهافت الفلاسفة»، ثُمَّ جاءَ رداً «تهافت التهافت» لـ «ابن رشد»، وبقي هذا السجالُ مفتوحاً على هامشِ المدوّنتين الفلسفيّة والعرفانيّة، واتخذ شكلاً آخر في النظر المعرفيّ الحديث «الابستمولوجيا»؛ إذ صارَ السجالُ إلى ثنائية الدينيّ والبشريّ، ومعاينة الحدود الفاصلة بينهما، ومدى التقارب والتقاطع.
يسعدني حضوركم حفل توقيع مؤلفاتي الخمسة الصادرة عن دار الرافدين ببيروت ومركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، اليوم السبت 10.12.2022 من الساعة 4 ونصف الى الساعة 8 مساء بجناح دار الرافدين في معرض الكتاب ببغداد.
Читать полностью…أعرفُ أحدَ الأشخاص المعقدين المغرورين المشاكسين، كان لا يطيقه الأقرباءُ والأصدقاءُ وجميعُ الناس الذين يتعامل معهم،كلُّ شيء يراه أو يسمعه من غيره ينقلب قبيحًا لديه. طالما سمعته يذم كلَّ شيء، لا يرى الجميلَ عند غيره إلا قبيحًا، وإذا استمع حديثًا من صديق، يعقّب عليه بقوله: "هذا خطأ، أنت تجهل هذه الأشياء"، وإذا قرأ نصًا لغيره سَخِرَ منه، بلا أن يفكِّر ويتثبت ويدقّق في مضمونه، ومتى رأى شيئًا جميلًا يزدريه. لا يبادر في العطاء، وعندما يتلقى هديةً جميلة يفتّش بعناية عن أيّ نقص أو عيب فيها، وإن لم يعثر على عيب يفتعل عيبًا كي يذمها.كان يترقب على الدوام أن يُقدِّم له الناسُ كلَّ شيء، ويمدحه الناسُ على كلِّ شيء، من دون أن يفكِّر يومًا أن يقدم شيئًا لأحد، أو يمتدح أحدًا على فعل حَسَن. انتهى مصيرُ هذا الإنسان في شيخوخته إلى أن يعيش منفيًّا في داخله، منبوذًا من الكلِّ، بعد أن نفر الكلُّ منه حتى أقرب الناس إليه.
سألني أحد تلامذتي: ما أجملُ لغة ومواقف أكسب بها قلوبَ الناس، وتترسّخ بها صلتي بهم، ويستطيع الإنسانُ من خلالها أن يعزّز الصدقَ والثقة والسلام والمحبة بين الناس؟ قلت له: الحُبُّ شفاءٌ للقلب من الغِلّ والضغينة، الحُبُّ عطاءٌ يسمو بمَنْ يحِبّ على مَنْ يعجز عن الحُبّ. إن أردت أن تعيشَ سلامًا في داخلك، وتعيشَ سلامًا في علاقاتك بالناس، حاول أن تمنحَ الإنسانَ أعذب ما يبهجه، حاول أن تكتشفَ الجميلَ في كلِّ إنسان ممن تتعامل معه، وتعرب له عن جماله.كلُّ إنسانٍ يعيشُ سلامةً عقلية ونفسية وعاطفية نعثر على صفاتٍ حَسَنة في شخصيته ومواقفَ جميلة في سلوكه، وحين نترجم حضورَها لديه في كلماتنا بصدق نهديه أعذبَ ما يتمنى أن يسمعه منا. الإنسانُ بطبيعته يفرحُ كالأطفال حين يرى أو يستمع إلى ما يكشف له عن جماله، ويتمنى أن تفرحَ الأرضُ وتحتفلَ بفرحه.
مادامت الطبيعةُ الإنسانية ملتقى الأضداد، فليس من السهل أن يعفو الإنسانُ عن إساءة الغير إليه. لأنه يتطلب أن يعملَ الإنسانُ سنواتٍ طويلةٍ بترويض نفسه على العفو، وإن كان هذا الترويضُ شديدًا مزعجًا مريرًا شاقًا مُنهِكًا، وليس سهلًا أبدًا. الترويضُ على العفو والصفح هو الأشقّ، خاصةً مع الأعداء المتطوعين، لا يمكن تجرعُه في بعض المواقف إلا كعلقم، إلا أنه كان وما زال يطهّر الإنسانَ من سمومِ الكراهية، وينجي من بعض شرور هؤلاء الأعداء، الذين هم كأشباح لا ملامح واضحة لهم."فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ".
لا دواءَ يخفضُ الآثارَ الفتاكةَ للشرّ، ولا سبيلَ لتخفيفِ آلام الكراهية، ولا وسيلةَ لتقليل النتائج المرعبة للنزعة العدوانية في أعماق الكائن البشري سوى المزيد من الاستثمار في العفو والصفحِ والحُبِّ، بالكلمات الصادقة، والمواقف الأخلاقية النبيلة، والأفعال المهذبة الجميلة، والإصرار على تجرّع مراراتِ العفو والصفحِ والغفران، على الرغم من صعوبتها، ونفور المشاعر منها.
العفو والصفح شديدان على النفس عندما تتكرّر الإساءة، ربما يجد الإنسانُ نفسَه يتلقى طعناتٍ غادرة متكرّرة ممن لم يتعامل معهم على الدوام إلا بالإحسان إليهم. الصفحُ عن هؤلاء صعب، ومحبتُهم أصعب، محبتُهم أشقُّ وأقسى المواقف وأشدُّها مرارةً في النفس، لا يطيقها الإنسانُ إلا في بعضِ الحالات الاستثنائية التي يرى فيها تحوّلًا في سلوكهم، وتلك حالات نادرة. طالما أشفقت على مثل هؤلاء، لحظةَ أكتشف أن حاجتهم للكراهية تفوق حاجتهم للمحبة، وأنهم لا يعيشون إلا بكراهية من حولهم، بل حتى كراهية أنفسهم، أثر اعتلالِ صحتهم النفسية، وانهيارِ حياتهم الأخلاقية، إنهم كحالة بعض الكائنات الحية التي لا تعيش إلا في الظلام أو في الأماكن القذرة.
الحريقُ لا يمكن إطفاؤه إلا بالماء، الحربُ لا يمكن إطفاؤها إلا بالسلام، الكراهيةُ لا يمكن شفاؤها إلا بالعفو والصفح والغفران، الصفحُ ممكنٌ وإن كان شاقًّا. المحبةُ أشقّ، وأحيانًا ليست ممكنةً، غير أن العملَ على إثراء منابع إلهام المحبة وتكريسها غيرُ مستحيل عبر الحرص على تغذية هذه المنابع باستمرار. أثرى منابع المحبة أن تكون صادقًا مع نفسك، صادقًا مع الناس، صادقًا مع الله. عندما تكون صادقًا في كلِّ كلماتك ومواقفك تكون معلِّمًا للأخلاق، وملهمًا للمحبة في هذا العالَم الموحش.
https://alsabaah.iq/46050/%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B4%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B3-%D9%86%D8%AD%D8%AA%D8%A7%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%84%D8%A8-%D8%A7%D9%83%D8%AB%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D9%84?fbclid=IwAR0WV5lrzwiNwmDoBjq99W4NVD6tzooc0I2OPelDJV6f6kSoEtS6Nvsta34
الحُبُّ عطاء
د. عبدالجبار الرفاعي
سألني أحدُ تلامذتي:كيفَ يمكنني أن أكونَ معلّمًا للأخلاق والمحبّة؟
قلت له: لا تكون معلّمًا للأخلاق والمحبّة إلا أن تكون صادقًا مع نفسك أولًا، صادقًا مع الناس ثانيًا، وصادقًا مع الله ثالثًا. الحُبّ يبدأ بحُبّ الذات أولًا، ثم حُبّ الناس ثانيًا، ليصل إلى حُبّ الله ثالثًا. مَنْ لا يحُبّ ذاتَه لا يحُبّ الناس، ومَنْ لا يحُبّ الناسَ لا يحُبّ الله. الحُبّ هو إسعادُ الناس، الطريقُ إلى الله يمرُّ عبر الناس، مالم يكرّس الإنسانُ جهودَه من أجل سعادةِ الناس، والعملِ على أن تكون حياتُهم أجمل، وعيشُهم أسهل، لن يصل إلى الله. إسعاد الناس أقصر الطرق إلى الله. الحُبُّ عطاء، إسعاد الناس لا يتحقّق إلا بالعطاء، العطاء بمعناه الأشمل، سواء أكان ماديًا أو معنويًا، بحسب ما يحتاجه مَنْ يستحق العطاء. مَنْ يحتاج خبزًا ودواءً وإغاثةً يُعطى الخبز والدواء والاغاثة. مَنْ يحتاج المعنى يُعطى المعنى، إشباعُ حاجة الإنسان للمعنى تنقذه من الشعور المرير باللاجدوى والضياع والقلق والكآبة.
كلُّ إنسان هو أثرُه، الأثرُ النبيل لا يُمحى وإن أصرّ الكلُّ على محوه. العطاءُ يُحدِث أثرًا مضاعفًا، فهو في الوقت الذي يُسعِد مَنْ يُعطَى يُسعِد المُعطي أيضًا، وربما يكون إسعاده للإنسان المُعطي أكثر من إسعاده لمَنْ يُعطيه. أخلاقية الإنفاق والعطاء تظهر ثمرتُها المباشرة في تسامي الإنسان، وإثراء حياته بالسلام الداخي، وشعوره الدائم بالسعادة، "مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ". الآيةُ تؤكدُ على نفي الخوف والحزن، والسعادةُ في أبسط معانيها تعني نفيَ الخوف والحزن. الخوفُ والحزنُ سجنٌ مظلمٌ يُنهِك القلبَ. مَنْ يستبدُ به الخوفُ والحزنُ يموتُ قبلَ موته.
بعضُ البخلاء يعوّضون عجزَهم عن الإنفاق والعطاء المادي والمعنوي بالغرق في صلوات وعبادات خارجَ الفرائض، ودعاء وذكر. الصلواتُ والعبادات والدعاء والذكر تهدفُ إلى تنمية وترسيخ أخلاقية الإنفاق والعطاء، إلى أن تصيرَ هذه الأخلاقيةُ حالةً يتصف بها الإنسانُ، وسلوكًا ينعكس على مواقفه وعلاقاته الاجتماعية المتنوعة، "لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ".
تعرّفت على أغنياء بخلاء لا هدفَ لهم في الحياة إلا تكديس المال ومراكمته، أشحةً على أنفسهم وأهليهم والناس، تنمو أموالُهم في البنوك أرقامًا صامتة، وأسهم وسندات وأوراقًا مالية مكدسة. لا ينتفعون من الأموال في حياتهم، يصرعهم الموت بغتةً، وهم غارقون في سكرة فائض الثروة. فجأة يختفي كلُّ شيء، لا بصمةَ تُخلِّد الذكرَ في الدنيا، لا نورَ يضيء الآخرة.
مَنْ يعجزُ عن حُبّ ذاته يعجزُ عن حُبّ غيره مهما كان، سواء أكان بشرًا أو إلهًا. في القرآن الكريم إشارةٌ واضحة إلى أن اللهَ يبدأ بحُبّ الإنسان ليحُبّه الإنسان: "يُحبّهُمْ وَيُحبّونَهُ". يقول محيي الدين بن عربي: "إن الله هو الذي بدأنا بالمحبة تفضلًا منه فخلقنا، هو لا يخلق إلا ما أحب، ومِن حُبِّه لنا: بعثَ الرسل إلينا، لتعلِّمنا الأعمال التي تؤدي إلى سعادتنا، ثم أخبرنا أن رحمته سبقتْ غضبه، وأن أشقى الأشقياء مشمول بالرحمة والعناية وإلا هلك". شاقٌّ جدًا أن يكون الإنسانُ معلّمًا للأخلاق والمحبّة، بل يتعذّرُ على الناس المصابين بأمراض نفسية ذلك، وإلا لأصبح كلُّ الناس معلّمين للأخلاق والمحبّة. الأخلاقُ والمحبّةُ يتمناها الناسُ جميعًا، إلا أن مُعظمَهم لا تطاوعه نفسُه للظفر بذلك، ويشقُّ عليه قهرُ نفسِه لتتجرّع ما يؤذيها. النفسُ تستفزُّها نجاحاتُ الآخرين، وتثيرُها منجزاتُهم، وتنفرُ من تفوقهم، وتؤذيها سعادتُهم. الأخلاقُ تحثّ على الاحتفاء بنجاحات الآخرين، الحُبُّ يهب الإنسانَ السعادة بكلِّ ما يُسعِد الآخرين. هنا يقعُ التناقضُ بين ما يرغبُ فيه الإنسانُ ويتمناه، وما تنفر نفسُه منه، وما تفرضه عليه طبيعتُه بوصفها ملتقى الأضداد.
اللهُ في القرآن الكريم
رابط المحاضرة هذه الليلة التاسعة بتوقيت بغداد.
https://www.facebook.com/groups/1436965506512132/?ref=share
إن تاريخ الأديان الطويل ينبؤنا بأن العبادات تشكِّل رافدًا يغذي الصلة الوجودية الحيّة بالوجود المطلق، الذي يتجلى في كلِّ دين على شاكلة شريعة أتباعه. وأن ما تتميز به العباداتُ يكمن في اشتراك ماهيتها وصورتها بين أتباع الدين الواحد. ولم يصادف أن نجد دينًا أتاح لمعتنقيه أن يختاروا عباداتهم خاج اطار شريعتهم، أو يلتقطون عناصرها من أديان متنوعة كيفما يشاؤون.
في ضوء هذا المفهوم للعبادة في الأديان، نجد الهندوسي يؤدي طقسَه وعبادتَه الخاصة في معبده، وفي المسيحية يؤدي المسيحي قدّاسَه في كنيسته، وفي الإسلام يؤدي المسلمُ صلاتَه في مسجده.كيفيةُ القداس الذي يؤديه المسيحي في الكنيسة، تختلفُ عن كيفيةِ طقس الهندوسي في معبده، وتختلفُ عن كيفيةِ صلاة المسلم في مسجده، وهكذا الحالُ في الأديان الأخرى.
لا ننكر التشابه في بعض عناصر العبادات والطقوس والشعائر في الأديان، الذي يعبر عن مشتركات الأديان والثقافات في المجتمعات المختلفة، إلا اننا لم نجد تطابقًا وتماثلًا كليًا بينها، لكلٍّ عبادة بصمتها الخاصة ولونها الذي يعكس صورةَ الديانة المشتقة منها. لكلِّ إنسان حياته الروحية، روحُ الإنسان تتغذّى من العبادات المشتركة في ديانته. صلاةُ الحلاج والبسطامي والنفري وابن عربي وجلال الدين الرومي ومحمد حسين الطباطبائي، وغيرهم من العرفاء، هي صلاةُ الإسلام ذاتها، غير أنهم تهذبوا وتسامت أروحهم بنور الله، وابتهجوا بمحبّته.
الحياةُ الروحية تتحقّق في سياق شريعة محدّدة، الحياةُ الروحية تتطلب أن تستقي على الدوام من العبادة الخاصة بهذه الشريعة، بوصفها من سنخها وترتسم فيها صورةُ الديانة، وينعكس فيها شيءٌ من عناصر البنى اللاشعورية للديانة الراسخة في باطن الإنسان. فلو ركّبَ الإنسانُ على ديانته تقليدًا عباديًا مستعارًا من ديانة أخرى،كما لو أن مسلمًا كان يمارس تقليدًا طقوسيًا هندوسيًا أو العكس، سيفضي ذلك إلى التناشز بين طقس ترتسم فيه صورةُ ديانة غير ديانته، والحياة الروحية في أفق ديانته. لكلِّ ديانة طقسٌ خاص من جنسها، بمعنى أنه مشتقٌّ من طبيعة البنى اللاشعورية للديانة الراسخة في باطن الإنسان، وكيفية رؤيتها للعالَم، وبصمة الحياة الروحية فيها.
الحياةُ الروحية للأديان في مختلف المجتمعات تُدلّل على ذلك، ففي المجتمعات الغربية التي يُمنَح الأشخاصُ فيها حريةً دينيةً واسعة، لا تسودها ظواهر، مثل: مسلم يصلي في معبد هندوسي، أو هندوسي يؤدي طقسَه في المسجد. وقلّما نعثر على أشخاص يتخبطون في تجريب الأديان وطقوسها، بغيةَ إرواء ظمئهم الأنطولوجي، وعادةً ما يعيش مثل هؤلاء ضياعًا وتمزقًا وقلقًا واضطرابًا، ذلك أنهم كشارب ماء البحر، كلّما شرب منه اشتدّ ظمؤه.
يُشاع أن العرفاء يبلغون مقامًا في سلوكهم الروحي يهجرون فيه العبادةَ، وهذا غير صحيح، لأن ذوي البصائر من العرفاء يشددون على أن: الشريعةَ توصل إلى الطريقة، إلا أن الشريعةَ لا تتعطّل عند بلوغ الطريقة، وأن الطريقةَ توصل إلى الحقيقة، إلا أن الشريعة لا تتعطّل عند بلوغ الحقيقة. لا طريقةَ بلا شريعة، لا حقيقةَ بلا طريقة. الشريعةُ غطاءُ الطريقة، الطريقةُ غطاءُ الحقيقة. هذا ما فسّروا فيه ما هو منسوب للنبي الكريم "ص": "الشريعةُ أقوالي، والطريقةُ أفعالي، والحقيقةُ أحوالي". "الشريعةُ أمرٌ بالتزام العبودية، والحقيقةُ مشاهدةُ الربوبية، وكلُّ شريعةٍ غيرُ مؤيدة بالحقيقة فأمرها غير مقبول، وكلُّ حقيقةٍ غيرُ مقيدةٍ بالشريعة فأمرها غير محصول. والشريعةُ جاءت بتكليف من الخالق، والحقيقةُ إنباءٌ عن تصريف الحق. فالشريعةُ أن تعبده، والحقيقةُ أن تشهده. والشريعةُ قيام بما أمر، والحقيقةُ شهود لما قضى وقدّر، وأخفى وأظهر". حسب تفسير أبو القاسم القشيري. ويقول أحمد زروق: "الشريعةُ أن تعبده، والطريقةُ أن تقصده، والحقيقةُ أن تشهده. أو تقول: الشريعةُ لإصلاح الظواهر، والطريقةُ لإصلاح الضمائر، والحقيقةُ لإصلاح السرائر".
https://alsabaah.iq/45133/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D9%83%D8%A7%D8%A6%D9%86-%D8%AD%D9%8A-%D9%8A%D8%B7%D9%84%D8%A8-%D9%85%D8%A7-%D9%8A%D9%85%D8%AF-%D9%87-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9
القلب هو الطريق
https://afkaar.center/2021/04/17/%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%84%D8%A8-%D9%87%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82/
القلب هو الطريق
د. عبدالجبار الرفاعي
مسارُ القلبِ غير مسارِ العقلِ التساؤلي التشكيكي الذي لا يهدأ. طريقُ القلب أقصرُ وأسهل وأجمل الطرق إلى الله، وأسرعُها حضورًا في ملكوته، طريقُ القلب يجعل الدينَ مُلهِمًا للمحبة والنور والفرح. هذا طريقٌ يعرفه ذوو التجارب الروحية، وهو منبعُ طمأنينة القلب وسكينة الروح والسلام الذي يعيشونه في حياتهم.
الإيمانُ نورٌ يكشفُ للإنسان وجودَ الله ويوصله به، ويشكّلُ المنبعَ الأغزرَ لمعنى وجود الإنسان ولحياته ومصيره وأمله بالخلود، وهو حالةٌ يعيشها الإنسانُ وحقيقةٌ يتذوقها، هذه الحقيقة أمرٌ وجوديٌ، وهي تختلف عن التصور الذهني أو الشعور النفساني. الإيمانُ نورٌ ينعكس فيه تجلي الإلهي في البشري، وشهودُ البشري للإلهي، "وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ". يقول خافيير زوبيري: "كلُّ وجود انساني هو تجربةٌ للألوهية... العقلُ يعجز لوحده عن الادراك المباشر لله، فلا يُتمثَل اللهُ عن طريق العقل وحده، لكن أيضا عن طريق التجربة". "أقوى برهان على وجود الله هو إمكانُ تجربته وإدراك حضوره. الله معطى تجريبي، ومضمون محسوس للتجربة، وحالة روحانية"، حسب تعبير المتصوّف الهندوسي رادها كريشنان.
الإيمانُ ليس فكرةً نتأملها، أو معرفةً نتعلمها، أو معلومةً نتذكرها. الإيمانُ حالةٌ للروح نعيشها، وتجربةٌ للحقيقة نتذوقها، ثمرةُ الإيمانِ تُعرف بمقدار إثرائه للسلام الباطني. تبتهجُ للإنسانِ الأرضُ لحظةَ يبتهجُ قلبُ الإنسان بأنوار الإيمانِ. الإيمانُ يختزنُ كنوزَ الله في القلب، أجملُ وأرقّ لغة يتجلى فيها الإيمانُ هي لغةُ القلب. لغةُ القلب تتسعُ لحالاتٍ لا تتسعُ لها الكلماتُ، إنها أعذبُ لغة مشتركة بين كلِّ الناس في كلِّ زمان ومكان.
يحتاج الناسُ إلى من يتعلمون منه كيف يستمعون الى نداء قلوبهم. القلبُ هو الطريقُ إلى الله، مادام القلبُ يحتضنُ الإيمانَ فلا جدوى من تكرار محاججات المتكلمين غير المنتجة لطمأنينة القلب وسكينة الروح.كلُّ دليلٍ على الله لا يمكن أن يوصلنا إلى الله بالشكل الذي يوصلنا فيه القلبُ إلى الله، يعجز الدليلُ خارج القلب عن كشف الصلةِ الوجودية للخلق بالحق، ولا تنكشفُ في مثل هذا الدليل تجلياتُ جمال الله في الوجود، ولا يمكن أن تشرق بواسطته أنوارُه على القلوب.
ورد في دعاء عرفة المروي عن الإمام الحسين "ع": "اِلهى تَرَدُّدى فِى الآثارِ يُوجِبُ بُعْدَ الْمَزارِ، فَاجْمَعْنى عَلَيْكَ بِخِدْمَة تُوصِلُنى اِلَيْكَ، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فى وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ اِلَيْكَ، اَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ، حَتّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ، مَتى غِبْتَ حَتّى تَحْتاجَ اِلى دَليل يَدُلُّ عَليْكَ، وَمَتى بَعُدْتَ حَتّى تَكُونَ الاْثارُ هِىَ الَّتى تُوصِلُ اِلَيْكَ". مَنْ يحاول الاستدلالَ على الله بمخلوقاته، كمَنْ يحاول الاستدلالَ على النور خارج النور، النورُ يكشفُ عن نفسه، وينكشفُ فيه كلُّ شيء غيرَه. "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، "أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ". اللهُ هو الدليلُ على اللهِ، لا دليلَ أجلى منه عليه، ولا طريقَ أقرب منه إليه، هو القريبُ في بُعده، البعيدُ في قُربه. الكلُّ مدعوون للقاءِ الله، لا البُعد يُقصيهم، لا القُرب يُدنيهم. ما أكثف شذرة النفري وأغناها وهي تكشف للإنسان عن توهمه بوجود مسافة وبُعد مكاني يبعده عن الحقّ: "القُربُ الذي تعرفه مسافةٌ، والبُعد الذي تعرفه مسافةٌ، وأنا القريبُ البعيدُ بلا مسافة". ويرسم جلال الدين الرومي صورة بهيجة لشهوده لله: "هو الذي توطّن مدينةَ القلب فأين أُسافر. هو الذي سكنَ حدقةَ العين فإلام أنظر". أما عبد الحق بن سبعين فيوبخ الإنسانَ المستريب: "يا هَذَا، غُضّ بَصَرَ إدراكِكَ عن غيرِ اللهِ، ثم قُلْ لنفسِكَ: يا خَسِيسَةَ المنزلة، متى ثَبَتَ سِوَاهُ حَتَّى تستريبي فيه، وتَغُضِّي بَصَرَكِ عنه؟! هو الله! فلا هو إلا هو، ولا يمكن غيرُ ذلك".
اللهُ هو الدليلُ على اللهِ، يُعرَف هذا الدليل على وجود الله ببرهان الصِّدِّيقين. أول مَنْ صاغ هذا البرهانَ ابنُ سينا، وهو من أطلق عليه هذه التسمية، وأعاد بيانَه فلاسفةٌ مسلمون، وفلاسفةٌ مسيحيون، مثل: توما الأكويني، وفلاسفةٌ يهود، مثل: موسى بن ميمون. وأخيرًا أعاد بيانَه بتصويرٍ جديد ملا صدرا الشيرازي، وواصل بيانَه ملا هادي السبزواري، ومحمد حسين الطباطبائي.
الإيمانُ كما يعيشُهُ ويتذوقُهُ أصحابُ التجارب الروحية المضيئة مسعىً أبدي لاستبصارِ تجلياتِ الحبِ والخير والجمال في كلماتِ الله التدوينية والتكوينية. الإيمانُ ظاهرةٌ تفشلُ وسائلُ الكشفِ العلمي المتاحة عن إدراك كنهها وتحليلِ جوهرها، وإن كانت تدرسُ آثارَها المتنوعة في حياة الفرد والمجتمع. الإيمانُ من جنس الحالات الوجودية، و"قوالب الألفاظ والكلمات لا تتسع لمعاني الحالات"، حسب تعبير محيي الدين بن عربي.
القرآن الكريم كتاب يتجلى فيه الله لعباده
د. عبدالجبار الرفاعي
https://www.youtube.com/watch?v=wywYg3Pa99c&ab_channel=%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%B9%D9%8A