لا يمكن بناءُ حياة روحية وأخلاقية أصيلة في مجتمع تتفشّى فيه ثقافةٌ يتسلط فيها التكفيرُ على الضمير الديني ويُلزِم المتديّنَ بمقاطعة المختلِف في المعتقد. لا يستطيع قلبٌ يمتلئ بكراهية الإنسان المختلِف في المعتقد، وروحٌ لا تشعر بالانتماء للعالَم، وعقلٌ ينهكه التشاؤمُ والاغترابُ والارتيابُ من الآخر، أن يؤسّس لحياة روحية وأخلاقية حقيقية، تشفق على المعذّبين، وتتضامن مع الضحايا، بغضّ النظر عن أديانهم ومعتقداتهم وثقافاتهم وإثنياتهم، وتتصالح مع العقل وقيم الحق والخير والسلام والجمال في الحياة.
#عبدالجبار_الرفاعي
#الأخلاق
#العيش_المشترك
فعل الخير في ضوء مقولة الولاء والبراء
د. عبد الجبار الرفاعي
مفهوم فعل الخير والعمل الصالح اللامشروط يتنافى مع مفهوم فعل الخير والعمل الصالح في ضوء مقولة الولاء والبراء، إذ لا يصدق فعلُ الخير والعمل الصالح فيها على المختلف في المعتقد. في إطار مقولة "الولاء والبراء" لا يكون فعلُ الخير خيريًّا أو العمل الصالح صالحًا بذاته، وبوصفه فعلًا يُسعِد الإنسان المتلقي له والمبادر به، وإنما يستمدُ فعلُ الخير قيمتَه من كونه متصفًا بالخيرية بحسب المعايير والحدود المرسومة في مقولة "الولاء والبراء"، وهذه الصفة لا تتحقّقُ إلا عندما يكون ذلك الفعلُ من أجل المشتركين في العقيدة، فيكتسب قيمتَه الخيرية وصلاحه من حكم العقيدة بأنه فعلُ خير وعملٌ صالحٌ، وليس بالضرورة أن يكون ذلك الحكمُ مطابقًا في كل الحالات لحكم العقل الأخلاقي "العقل العملي"، لأن أحكامَ العقل الأخلاقي لا تقبلُ التقييد بهوية اعتقادية أو سواها من الهويات القومية وغيرها. أحكامُ العقل الأخلاقي لا تقبل التقييد، فالكذبُ قبيحٌ والصدقُ حَسَنٌ مع كل الناس، والظلمُ قبيحٌ والعدل حَسَنٌ مع كل الناس، والأمانةُ حَسَنةٌ والخيانة قبيحةٌ مع كل الناس، بغض النظر عن معتقداهم الدينية وهوياتهم المجتمعية وغيرها.
عندما يشدّدُ من يتبنى "الولاء والبراء" على أن أيَّ فعلِ خيرٍ وعملٍ صالح يجب أن يكون لله، ولا يُشرك به أحدًا من الخلق، يريد بذلك أنّ كلَّ فعل لا يتصف بالخيرية إلا إن كانت تنطبق عليه المعايير والقيود والشروط المنصوص عليها في العقيدة كما يفهمها ويفسّرها هو، وهي تعني ألا يفعل فعلًا من أجل الإنسان بوصفه إنسانًا، بل يفعله لمن ينتمي إلى معتقده خاصة . وإن كان المقصودُ هو الإنسان في بعض الحالات فإنه مقصودٌ لسبب ما، وليس لكونه إنسانًا فقط، وهو ما تحيلُ إليه الرؤية التوحيدية السلفية الذي تتفرع عنها مقولةُ "الولاء والبراء". لذلك لا يبادر مَنْ يعتنقون هذا المعتقدَ إلى فعل الخير للناس من دون نظر لعقيدتهم، يختص فعلُ الخير لمن يشترك معهم في المعتقد دون سواه، بمعنى أن التديّنَ الذي يبتني على هذه الرؤية يرى أن الصلةَ بالله لا تتحقّق إلا من خلال ميثاقٍ خاص للاعتقاد، وما يرسمه هذا الميثاق من حدود تفصيلية دقيقة لمعتقداتِ المتديّن وسلوكِه. الميثاقُ يتضمن مقولاتٍ اعتقاديةً تمنع فعلَ الخير لمن يعتقد بمعتقد آخر في بعض الحالات، وترسم بوصلةً ترشد لخارطة الخيرية التي حدودها أهل المعتقد، داخل هذه الحدود تكون للفعل قيمة دينية تجعله مصداقًا لعنوان كونه خيريًا وصالحًا.
إن مقولة "الولاء والبراء" وغيرَها من مقولات اعتقادية ترسم حدودًا صارمةً لفعل الخير الذي الذي ترى أنه يُرضى الله، وهو كلُّ فعلٍ مشروعٍ بالمعنى الذي تضع حدودَه مدونة الاعتقاد، وكلُّ ما لا يرضى اللهُ عنه على وفق هذا المعنى لا يكون مصداقًا لفعل الخير. وعلى هذا لا يكون الإنسانُ الذي ينطبق عليه عنوانُ ديني أو مذهبي آخر موضوعًا لفعل الخير والعمل الصالح. ولا ينظر إليه من أجل كونه شريكًا في الإنسانية أو محتاجًا لفعل الخير، لأن مثلَ هذا الفعل ليس مطلوبًا لله من منظور أكثر متكلمي الفرق.
إن العملَ الخيري لأجل الإنسانِ بما هو إنسان ليس مصداقًا لفعل الخير لدى أتباع مَنْ يحرّم حتى المبادرةَ بتهنئة مَنْ ينتمي لدين آخر في أعياده، ويحرّم تحيتَه والسلامَ عليه. يقول ابن القيّم: "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب... وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك" ، بل يحرّم بعضُهم أكلَ ذبيحة مَنْ لا يصلي، ودعوته لأية مناسبة، ويفرض مقاطعةً شاملةً عليه. فقد "سئل الشيخ ابن عثيمين، عن حكم السلام على غير المسلمين؟ فأجاب بقوله، البدء بالسلام على غير المسلمين محرم ولا يجوز" ، "البدء بالسلام على غير المسلمين محرم ولا يجوز" . و"سئل الشيخ عبد العزيز بن باز، عن حكم جواز الأكل من ذبائح تارك الصلاة عمدًا الذي لا يصلي لا تؤكل ذبيحته. هذا هو الصواب... إن الذي لا يصلي لا دين له، ولا تؤكل ذبيحته... فلا تؤكل ذبيحته، ولا يدعى لوليمة، ولا تجاب دعوته؛ بل يهجر حتى يتوب إلى الله وحتى يصلي" . وقد بلغ الأمر لدى ابن تيمية أقصى مدياته عندما منعَ الإفادةَ من خبرات ومعارف غير المسلم ومنعَ تقليدَه حتى في ما فيه مصلحة للمسلم، إذ يقول: "لا تقلدهم حتى في ما فيه مصلحة لنا، لأن اللهَ إما أن يعطينا في الدنيا مثله أو خيرًا منه، وإما أن يعوضنا عنه في الآخرة" . وهذا يعني مقاطعةَ المسلمِ للعالَم غير المسلم كلِّه، وذلك متعذر، لأن العالَم اليوم متداخلٌ ومتفاعل ومتشابك كنسيج مترابط في تواصله وتبادله وتفاعله في مختلف مجالات الحياة، وليس بوسع مجتمع يريد أن يحضر في العالَم العيش وكأنه في جزيرة يغلقها على نفسه.
"لا أرى إلا النورَ بوجه أمي، بصورتها كنتُ أرى كلَّ تجلياتِ جمال الوجود، بضوء عينيها كنتُ أرى كلَّ الأشياء جميلة، من يدها تذوقتُ نكهةَ كلّ الأشياء لذيذة، بصوتها كنتُ أستمعُ كلَّ الألحان عذبة. أمي رسمت أجملَ صورة لله في قلبي. أمي أرضعتني الإيمانَ الذي أعيشه بوصفه مكونًا أنطولوجيًا في كلِّ محطات حياتي. أمي علمتني أن الشفقةَ على خلق الله تتقدم على الغيرة على الله، لأن "اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" . عطاءُ أمي وإيثارُها البؤساء على نفسها، هو الذي علّمني أن الطريقَ إلى الله يمرّ عبر الإنسان. أتذكر أنها خلعت ثوبَها الجديد يومًا، الذي لم تكن تملك غيره، وألبسته امرأةً فلّاحة فقيرة في القرية، لحظة رأتها ترتدي ثوبًا قديمًا، ولبست هي ثوبًا تركته في الأسمال البالية".
#الدين_والظمأ_الأنطولوجي،
#عبدالجبار_الرفاعي
من الطبعة 4 المزيدة والمنقحة، تباع هي ومجموعة كتبي الخمسة الأخيرة في دار الرافدين في بغداد والنجف والبصرة، ومعارض الكتاب العربي في مختلف البلاد العربية.
موضة القراءة السريعة لا يمكن أن ينضج بها تفكير. التباهي بتكديس عدد كبير من عناوين كتب يدعي بعضهم أنه قرأه بسنة أضحت من الاستعراضات المبتذلة. المهم في القراءة التأمل والاستيعاب الدقيق. النصوص العميقة تحتاج قارئا يقرأ بيقظة ذهن، ويفكر أكثر مما يقرأ. حتى روايات دوستويفسكي يتطلب التوغل معها في أعماق النفس الإنسانية تفكيرا صبورا لا يتحقق إلا بقراءة ما وراء الكلمات. أعرف أحد الشباب ذكي متأمل بتفكيره، يقرأ 3 ساعات ويفكر فيما قرأه 4 ساعات، هذه القراءة الصبورة والتفكير المتواصل جعلت ذهنه يلتمع باستبصارات مضيئة، أصغي إليه وهو يتكلم فأستمع عبارات كأنها شذرات عارف عظيم كالنفّري.
#عبدالجبار_الرفاعي
#القراءة
#القراءة_السريعة
أهمُ السير الذاتية التي قرأتُها وتعلّمت منها هي ما يعترفُ كاتبُها بطبيعته البشرية، ويبوحُ بأخطائه، بموازاةِ حديثه عن مزاياه ومنجزاته. بعضُ الكتّاب يتنقل في محطات أيديولوجية وعقائدية وسياسية متنوعة وأحيانًا متضادة، ويواصل الكتابةَ كلَّ حياته، من دون أن نعثرَ على جملة واحدة تشير إلى أنه أخطأ يومًا ما في اعتناق أيديولوجياته أو آرائه، أو اتخاذ مواقفه. كأنه لا يدري أن كلَّ مَنْ يفكر يخطئ، لا يخطئ إلا مَنْ لا يفكر. الخطأ ضرورة تفرضها طبيعة الإنسان، لا يتحررُ الإنسانُ من الخطأ غالبًا إلا بعد أن يقعَ فيه، ويعترفَ بكونه خطأ، ويعملَ على الخلاص منه. مَنْ يمتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ، يمتلك القدرة على تغيير ذاته. الخوفُ من الاعتراف بالخطأ خوفٌ من التغيير.
#عبدالجبار_الرفاعي
#التربية_والتعليم
#الاعتراف_بالخطأ
#تغيير_الذات
#الكتابة
فعلُ الخير ليس مشروطًا
د. عبد الجبار الرفاعي
الإنسانيةُ غيرُ المشروطة منبعُ كلِّ خير يقدمه الإنسان لكلِّ مخلوق. طاقةُ الإنسانية غيرُ المشروطة تضيء العالَم بأجمل ما يمتلكه الانسان. الإنسانيةُ غير المشروطة على الضد من إنسانية مشروطة تحصرها بهوية أو معتقد أو دين أو أيديولوجيا أو قومية أو جغرافيا أو ثقافة محلية، وأمثالها من شروط وقيود وأوصاف تسجنُ استعدادَ الإنسان لفعل الخير وتضعه في حدودها. مَنْ هو محتاجٌ للإغاثة والحماية والدعم والرعاية والرحمة يستحقها، بغض النظر عما تفرضه الهويات الاعتقادية من حصر فعل الخير ووضع أسوار تحدده في اطارها. في الإنسانية غير المشروطة يُنظَر إلى حاجة المخلوق ويغاث تلهفه، ولا ينظر إلى مَنْ هو المخلوق ولا إلى هويته.
مَنْ يعتنقُ عقيدةً انحصارية، تحصرُ النجاةَ في الدنيا والآخرة بمعتقده، ولا ينجو من النار ويدخل الجنة في الآخرة أيُّ إنسانٍ لا يعتقدُ بعقيدته، يكون لديه فعلُ الخير مشروطًا، بنحو لا يصدقُ عنوانُه وفقًا لمعتقده إلا على مَنْ ينتمي إلى هويته الاعتقادية. هذا الإنسانُ الذي لا يصدق عنوانُ فعل الخير لديه على أيِّ إنسان لا يعتقدُ بعقيدته، لا يجدُ حافزًا دينيًا يدعوه لفعل الخير من أجل إنسان مختلف في المعتقد. فعلُ الخير في نظره يصدقُ على عنوان الهوية الاعتقادية لا غير، لا على الإنسان بوصفه إنسانًا. العقيدةُ الانحصاريةُ تفرض على كلِّ مَنْ يعتقدُ فيها أن يعيشَ وذهنُه وضميرُه الأخلاقي ومشاعرُه مسجونةٌ داخلَ هويته الاعتقادية. لا يكون الإنسانُ في هذه العقيدة إلا أداة تُستخدم لأجل العقيدة، كما تُستخدم الأشياء أداة لتحقيق غرض معين.
مَنْ يتمسك بمعتقد انحصاري يجعل الغايةَ معتقده، الإنسانُ ليس غايةً، الإنسانُ أداةٌ لتحقيق ما تفرضه عليه هويتُه الاعتقادية، لذلك لا يفعل خيرًا من أجل الإنسان بما هو إنسان، وإنما يفعل الخير من أجل المعتقد الذي يحدد له مَنْ ينطبق عليهم عنوانُ فعل الخير من البشر، وهم كلُّ مَنْ يعتقد بمعتقده خاصة من دون غيره من الناس.كلُّ شيء يفعله لا يأخذ الإنسان بوصفه إنسانًا موضوعًا للتكريم والاهتمام والاحترام، وإنما يأخذ الإنسان بوصفه إنسانًا يعتقدُ بمعتقدٍ معين موضوعًا، فالتكريم والاهتمام والاحترام يبدأ بالإنسانِ الذي يشترك معه بمعتقده، وينتهي عندما لا يكون الإنسانُ مشتركًا معه في الهوية الاعتقادية. يكتب ابن تيمية: (وأمّا الكفار فلم يأذن الله لهم في أكل أي شيء، ولا أحلّ لهم شيئًا، ولا عفا لهم عن شيء يأكلونه، بل قال: "يا أيّها الناس كلوا ممّا في الأرض حلالًا طيبًا"، فشرط فيما يأكلونه أن يكون حلالًا، وهو المأذون فيه من جهة الله ورسوله، والله لم يأذن في الأكل إلا للمؤمنين به، فلم يأذن لهم في أكل شيء إلا إذا آمنوا، ولهذا لم تكن أموالُهم مملوكةً لهم ملكًا شرعيًا، لأنّ الملك الشرعي هو المقدرة على التصرف الذي أباحه الشارع صلى الله عليه وسلم، والشارع لم يبح لهم تصرفًا في الأموال إلا بشرط الإيمان.. والمسلمون إذا استولوا عليها فغنموها ملكوها شرعًا، لأنّ الله أباح لهم الغنائم ولم يبحها لغيرهم) . الغريبُ أن الخطابَ في الآية القرآنية التي استدل بها "يا أيّها الناس كلوا ممّا في الأرض حلالًا طيبًا" يشمل كلَّ الناس، ولم يختصّ بالذين آمنوا، فكيف يُستدلّ بها ويحصرها بالمؤمنين خاصة. الاستدلالات من هذا النوع الغريب الذي يقرأ الآيات في ضوء معتقد المفسّر والفقيه في مدونة التفسير والفقه لمختلف المذاهب ليست قليلة.
في ضوء مفهومي لـ "الإنسانية الإيمانية" يصدق فعلُ الخير على كلِّ عملٍ يساهمُ في حماية كرامة الإنسان بوصفه إنسانًا بغض النظر عن معتقده ورعايته وإسعاده، ويحرصُ على حقوق كلِّ فرد، إلى أي جنس، أو أي دين، أو أية ثقافة، أو أية هوية ينتمي. فعلُ الخير هو كل مسعى يعمل على بناء الحياة، باستثمار قيم الخير والحق والعدل والسلام، وتكريس ما يسعد الإنسان ويجعل العالَم أجمل، ويحرص على نفع الناس وحل مشكلاتهم، بغض النظر عن الاتفاق أو الإختلاف مع هؤلاء الناس في المعتقد أو الهوية أو الثقافة، وغيرها. عندما تكون الإنسانية هي المنطلق والغاية يصدق حينئذ على كلِّ مسعى من أجل إسعاد الإنسان أنه فعلٌ للخير.
8. يتفرّدُ الإنسانُ في أنه الوحيد الذي لديه إمكانية الخلافة الأرضية نيابة عن الله، وذلك من الآثار الوجودية لتكريم الإنسان، وهو ما نصّت عليه الآية: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً". (البقرة، 30).
#عبدالجبار_الرفاعي
#تفسير_القرآن
#الإنسان_في_القرآن
القرآنُ الكريم كتابٌ واقعي
عبد الجبار الرفاعي
القرآنُ الكريم كتابٌ واقعي يتحدث عن طبيعة الإنسان كما هي، لا يخفي المواقف والاستجابات المختلفة للإمكانات والقدرات والأبعاد المتنوعة في شخصيته. يكشف لنا القرآنُ مواطنَ الهشاشة وغيرها من حالات ضعف الإنسان، كما يكشف مواطنَ القوة والتفرد والتفوق على كل المخلوقات، بخلقه في أحسن تقويم، وتكريمه، واستخلافه في الأرض، وغيرها من حالات وخصائص استثنائية ينفرد فيها. نرى صورتين متقابلتين للإنسان القرآني، وهما:
أ. إنسان يتصفُ بأنه مخلوقٌ ظلوم، جهول، يئوس، كفور، وغير ذلك. يعرض القرآنُ الإنسانَ في صورة غالبًا ما يقترن ذكرُه فيها بحالات وصفات تكشف عن ضعفه، ولا تخفي آياتُ القرآن هشاشة هذا الكائن بطبيعته، إذ تعلن عن ألمه، وغروره، وطغيانه، ويأسه، وقنوطه، وسأمه، وغير ذلك من توصيفات، مثل: "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" ، "وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا" ، "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ" ، "فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ" ، "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ" ، "قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ" ، "بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ" ، "وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا" ، "وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعًا" ، "خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ" ، "وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا" ، "وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" ، "أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ" ، "إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا" ، "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ" ، "كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ" ، "إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ" ، "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ" ، "وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا" ، "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً" ، "وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ" ، "خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ" ، "وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا" ، "وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" ، "لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ" ، "نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ" ، "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي" .
ما نستفيده من هذه الآيات هو أن اتصافَ الإنسان بهذه الحالات يعني أن لديه إمكانيةَ الاتصاف بأضدادها. وأن القرآنَ هنا في مقامِ تعريفِ طبيعة الإنسان وتوصيفها، والإخبارِ عن طبائعه وقدراته وإمكاناته وأحواله، والكشفِ عن عجزه، وليس في مقام إنشاء إهانةٍ أو توبيخٍ أو ازدراء، ولا في مقام إنشاء معايير، أو إصدار أحكامٍ قدحيةٍ عن الإنسان.
توصيفاتُ القرآنِ لهشاشة الإنسان واقعية، يتحدث القرآن الكريم بصراحة عن عجز الإنسان بأساليب شديدة الايقاع، في أكثر من 25 موردًا نرى عرضًا مدهشًا لغُربة الإنسان وغرابته في العالَم، وقصوره وغروره وطغيانه ووهنه . وبموازاة ذلك يرشدنا القرآن على أنه لا يمكن أن يتخلص الإنسانُ من قصوره ووهنه، وغربته واغترابه الوجودي إلا بالإيمان. القرآنُ ينبوعٌ لن يجفَ، يتدفقُ كالشلال ليستمد منه الايمانُ جذوتَه الحية، إنه أحدُ أغزر منابع المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي، لمن يمتلك مفاتيح اكتشاف كنوز المعنى فيه، لا تنضب طاقة قيم القرآن، ولا تنتهي حاجة الإنسان إليها.
لو توفرت كلُّ حاجاتِ الإنسان المادية والبيولوجية، مثل حاجته للهواء والماء والطعام، والنوم والجنس وكل الأشياء الأخرى المماثلة، كما نرى في حياة الأثرياء المتخمين بتكديس الأشياء والإفراط في استهلاكها، فإن كلَّ هذا الاستهلاك لا يضمن لهم توفير طمأنينةَ القلب وسكينةَ الروح. يظلُ الإنسانُ محتاجًا إلى ما يؤمِن له سلامًا داخليًا، ولن يتحقّقَ ذلك إلا ببناء صلة وجودية بالله. القرآنُ مفتاح بوابة العبور إلى عوالم الملكوت وبناء صلة يقظة بالله.
البخلُ ليس استثناءً في حياة الإنسان، استعدادُ الإنسان للعطاء أقلُ من استعداده للشُحّ. أسوأُ أنواعِ البخل العجزُ عن إكرام الإنسان بكلمةِ محبةٍ صادقة، وتجاهلُ الاعتراف بمواهبه ومنجزاته. كلمةُ المحبة الصادقة بصمةٌ مضيئة في القلوب، لا تصدر مثلُ هذه الكلمة إلا عن ضمير أخلاقي يقظ.
#عبدالجبار_الرفاعي
#الأخلاق
#الكلمة_الطيبة
يتحدث مساء اليوم د. عبد الجبار الرفاعي عن: "الدين بوصفه حياةً في أفق المعنى". على منصة مركز مسارات تنوير.
تقديم: د. مريم ناريمان نومار
مداخلة: د. إيمان مخينيني
مداخلة: د. محمد همام
الموعد مساء اليوم الساعة 6 بتوقيت بغداد وعمان، الساعة 4 بتوقيت بلدان المغرب، والساعة 3 بتوقيت Cranage.
يأتي عنوان المحاضرة: "الدين بوصفه حياةً في أفق المعنى" بمناسبة الإصدار الجديد لمؤلفات الرفاعي الخمسة الأخيرة، بطبعه مزيدة ومنقحة عن دار الرافدين في بيروت، ومركز دراسات فلسفة الدين في بغداد. وصدور كتاب: "عبد الجبار الرفاعي: الدين حياة في أفق المعنى"، عن دار الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة في بغداد.
Join Zoom Meeting
https://us06web.zoom.us/j/82596192923?pwd=OTNIdWxvSjJncDZxWTl1bllxLzlpdz09
Meeting ID: 825 9619 2923
Passcode: 936582
#عبدالجبار_الرفاعي
#الدين
#التدين
تورّطت أكثرُ الأديان المعروفة بالتكفير في مرحلة من مراحل تاريخها، ولم ينفرد فيه دينٌ واحد فقط، على تباين في درجة التكفير واختلاف في أنواعه وآثاره وحدوده. التكفيرُ مأزق الأديان، التكفيرُ يُفشِّل كلَّ محاولة جادّة للحوارٍ والتعايش بين الأديان. يتنكّر أكثرُ أتباع الأديان للتكفير في أديانهم وتراثهم وتاريخهم، وينزعج كثيرون من الحديث عن التكفير لدى الفرق والمذاهب في تراثنا، وعادة ما يُتهَم مَنْ يكشف ذلك بأنه يُشهِّر بالدين والمذهب الذي ينتمي إليه. وكأنهم لا يعلمون أن التكفيرَ يتفشى في مقولات علم الكلام القديم لكل الفرق.
تحولت مقولةُ "الولاء والبراء" بوصفها رديفة للتكفير إلى سلطة تغلغلت في ضمير المسلم المعتنق لها، بنحو كان معه ومازال المسلمُ الذي يتبناها عاجزًا عن بناء ضمير أخلاقي إنساني حرّ، يسمح له ببناء علاقات إنسانية إيجابية مع أتباع الأديان الأخرى، بل كثيرًا ما عجز المسلم المعتنِق لها عن بناء علاقات ثقة مع المسلم الذي ينتمي لمذهب آخر، لأن عقيدة "الولاء والبراء" تفرض عليه أن يتخذ موقفًا عدائيًّا مع الغير، وهو ما يشدّد عليه بعضُهم بقوله: "واعلم أنه لا يستقيم للمرء إسلامٌ ولو وحّد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين" .
الاقتصارُ على إيراد الأقوال والفتاوى السلفية هذه لا يعني شذوذَها ولا أنها الوحيدةُ التي تشدّدُ على ذلك في تراثنا، بل لأنها مازالت مؤثّرة وفاعلة في مواقف أكثر مَنْ يعتقد بها. الواقعُ الذي يعيشه أكثرُ المسلمين غير السلفيين فرض عليهم تجاوزَ تلك المقولات والأحكام في تعاملهم مع المختلِف في المعتقد. تفرض قوةُ الواقع منطقَها لتتغلب على حجج الذين يعاندون صيرورةَ التاريخ مهما كانت. تحدّثنا صيرورةُ التاريخ عن أنَّ مَنْ يمكث في خصومةٍ حادة مع الواقع لن يلبث طويلا في مواقفه ولن يستطيع الصمودَ في مواقعه مهما فعل،كما رأينا ذلك يتكرّر في كلّ الأديان والمعتقدات والهويات والثقافات.
التكفير يمزق أواصرَ العيش المشترك في المجتمع، ويزجّ المجتمع الواحد في حروب مفتوحة. فضحُ أرشيف التكفير ضرورة لاستئناف حضور قيم القرآن الكريم الروحية والأخلاقية والجمالية في حياة المسلم، وتحرير ضمير المسلم من التراث التكفيري المظلم.
#عبدالجبار_الرفاعي
#الإنسانية_الإيمانية
#الولاء_والبراء
#العمل_الصالح
https://alsabaah.iq/69090-%D9%81%D8%B9%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%8A%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%B6%D9%88%D8%A1-%D9%85%D9%82%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%A1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%A1.html?fbclid=IwAR2HD1W9Q2zeoYYC0h0vzHml2aBnZB-AmTE3QxG-uXxxiP9CXaGMiM4MdgI
لغة الكتابة يفرضها نوع مفاهيمها، وكيفية تفهيمها. تبسيط المعارف والعلوم الذي يتولاه خبراء في كل حقل ضرورة لفهمها وتنمية الوعي المجتمعي. التدريس مثلا ضرب من التبسيط، إشاعة المعرفة تتطلب تبسيطًا يتولاه المتخصص في كل حقل معرفي. تبسيط غير المتخصص لأي علم ومعرفة يزيّفها. تبسيط غير المتخصص للفلسفة يزيّف الفلسفة. الفلسفة تخصص دقيق يتطلب إنسانًا مثابرًا صبورًا، يمكث سنوات طويلة في دراستها الجادة، ويواصل المطالعات المكثفة في مختلف الحقول، ولا يتوقف عن التفكير النقدي كل حياته. أتحدث هنا عن الذي يكتب في الفلسفة أوهامًا لا صلة لها بالفلسفة، يكتب وهو لم يدرس يومًا واحدًا في حياته فلسفة، ولم يتعمق بمطالعة النصوص الفلسفية.
#عبدالجبار_الرفاعي
#الفلسفة
#تعليم_الفلسفة
فعلُ الخير في "الإنسانية الإيمانية" موضوعُه الإنسانُ من حيث هويته الإنسانية لا غير، يبدأ بالإنسان وينتهي بالإنسان بوصفه إنسانًا، بلا تصنيفات إضافية أيديولوجية واعتقادية وعرقية وثقافية وجغرافية تتعالى على هويته الإنسانية. الإنسانيةُ وحدها هي مناط التكريم والاحترام، الاهتمام بالإنسان بوصفه إنسانًا بذاته، إنسانًا قبل كل شيء وبعد كل شيء. عندما تكون الغاية هي الإنسان من حيث هو إنسان، وليس الإنسان من حيث هو أداة من أجل عقيدته أو هويته أو إثنيته، حينئذ يكون فعلُ الخير من أجل الإنسان، لا من أجل عقيدة الإنسان. في "الإنسانية الإيمانية" العقيدة هي الأداة والإنسان هو الغاية، العقيدة أداة من أجل احترام كرامة الإنسان وحماية حرياته وحقوقه واسعاده.
في "الإنسانية الإيمانية" يقترن الإيمان بالعمل الصالح، فقد وردت كلمة الصالحات 180 مرّة في القرآن الكريم، وجاء العمل الصالح ملازمًا للإيمان في 75 موردًا في القرآن، وذلك يشي بأن الأثر الطبيعي للإيمان هو العمل الصالح، ففي "المواضع التي يذكر فيها القرآن الذين آمنوا يقرن بينهم وبين العمل الصالح بشكل صريح، فيما يقرن الإيمان بألوان من الرؤى والقصد والسلوك في المواضع الأخرى، يجسد العمل الصالح روحها، ويمثل مادتها التي تتقوم بها، فإن أركان الايمان، وثمراته في الدنيا، وثوابه في الآخرة، كلـها تأتلف مع العمل الصالح متواشجة في منظومة واحدة، يكتسي ظاهرها وباطنها بالعمل الصالح. ويتجلى لنا ذلك بوضوح عندما نتأمل الآيات التي اقترن فيها الإيمان بالله بالعمل الصالح، فقد ارتبط العمل الصالح ارتباطًا عضويًّا بالإيمان، وبدا العمل الصالح كمعطى للإيمان" . الإنسان يكون صالحًا بقدر جهوده وأثره وثمراته الطيبة في الحياة، وبما يقدمه من عطاء يجعل العالَم أجمل. العمل الصالح معنى عام يصدق على كل جهد يعمل على بناء الحياة، وكل ما ينفع الناس ويحل مشكلاتهم ويسعدهم، بغض النظر عن الاتفاق أو الإختلاف معهم في المعتقد والهوية والثقافة، "وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ"، الرعد، 17.
#عبدالجبار_الرفاعي
#الإنسانية_الإيمانية
#العمل_الخيري
#العمل_الصالح
https://jabbaralrefae.com/%d9%81%d8%b9%d9%84%d9%8f-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d9%8a%d8%b1-%d9%84%d9%8a%d8%b3-%d9%85%d8%b4%d8%b1%d9%88%d8%b7%d9%8b%d8%a7/
منذ نصف قرن وأنا أقرأ، يتسع شعوري بجهلي وتتوالد أسئلتي كلما اتسعت قراءاتي وازدادت وتنوعت مطالعاتي.
Читать полностью…مالم يتحسَّس الإنسانُ صوتَ الله في داخله لن يتخلص من الاغتراب الوجودي، عندما يموتُ صوتُ الله داخل الإنسان يموت الإنسانُ. وإن كانت "هناك فكرة شائعة، ليس فقط عند عامة الناس بل عند الكثير من العلماء أيضًا، مفادها أنَّ الإنسان هو آلة تعمل طبقًا لشروط بعينها، فهناك الجوع والعطش والحاجة للنوم وللجنس ولأشياء أخرى. لابد إذن من تلبية الحاجيات الفيزيفية والبيولوجية. وإذا لم تشبع هذه الحاجات فإن الإنسانَ يصبح عصابيٌّ أو يموتُ كما هو الشأن في حالة الجوع، وإذا أُشبعت فإن كلَّ شيء يكون على ما يرام. والظاهر أن هذا غير صحيح، فقد يحصل أن تشبع كلُّ الرغبات الفيزيفية والبيولوجية، وعلى الرغم من ذلك لا يشبع الإنسان، بمعنى أنه لا يعيش في سلام مع نفسه، بل يكون لظروف معينة جدًّا مريضًا، حتى وإن كان يمتلك ظاهريًّا كل ما هو في حاجة إليه. ما ينقصه إذن هو منشط يمكن به إيقاظ نشاطه".
يخبرنا القرآنُ أن طبيعةَ الكائن البشري مادامت بهذا الشكل من الضعف والعجز والافتقار فهي لن تستغني بذاتها مهما كانت، إنها محتاجة للإيمانِ، وبناءِ صلةٍ وجوديةٍ بالله. وذلك ما يتحدّث عنه الحضورُ الواسعُ المهيمنُ لله في القرآن. إن خلاصةَ رسالة القرآن، تتمثّل في بيان حاجة الإنسان للدين، من خلال الكشف عن فقره الوجودي، مقابل الحديث التفصيلي عن كمالات الله، واستغنائه عن كلِّ شيء، ومنحِه الإنسانَ ما يفتقر إليه من حاجة وجودية، لا يستطيع بعقله وخبراته وتجاربه وحدها تأمينَ تلك الحاجة أبدًا، وذلك ما بحثتُه في كتاباتي المتنوعة.
عند مراجعة الكتابات العربية حول النزعة الإنسانيّة في الإسلام نراها تنسى كلَّ آيةٍ تشير إلى الإخبار عن هشاشة الكائن البشري، وغالبًا ما تهمل آياتٍ تتحدّث عن طبائعِ الإنسان وأحوالِه، وحالاتِ ضعفه وعجزه وغروره وطغيانه، فيما تنتقي تلك الكتاباتُ آياتٍ أخرى تتحدّث عن مزايا الإنسان وحقوقِه وتكريِم الله له ومسؤولياتِه.
القرآنُ كتابٌ إلهيّ لا يرسمُ صورةً مثاليةً للإنسان، كما تفعل بعضُ النصوص، ولا ينظرُ له وكأنه ملاكٌ كله محبة ورحمة وخير وحق وعطاء وسلام، وإنما يتعاطى مع الإنسان كما هو، ويتحدّث عن طبيعته كما هي، يصفها بمختلف أبعادها، ولا يختزلها في بعدٍ واحد. لا يرسمُ القرآنُ صورةً زائفةً للإنسانِ، ولا يريدُ أن يُهملَ طبيعتَه البشريةَ المتنوعة الأبعاد. القرآنُ كتابُ هداية، وهذه الغايةُ الكبيرةُ لا تتحققُ إلّا بالتعرّفِ على حقيقةِ الإنسان كما هي، والإفصاحِ عمّا لا يظهره الإنسان، أو يتعمّد إخفاءَه من مواقف متضادّة أحيانًا.
ب. إنسانٌ يتصفُ بأنه مخلوقٌ في أحسن تقويم، نفخَ اللهُ الروحَ فيه، وأمر الملائكة بالسجود له، ونص على تكريمه، وسخّر له ما في الأرض والسماء، وعلّمه الأسماء، وحمّله الأمانة، وأناط به مسؤولية الاستخلاف. وهذه صورةٌ أخرى يقترن فيها ذكرُ الإنسان في القرآن بحالات وإمكانات وخصائص تكشف عن أنه المتفوق على كل مخلوق، حيث يتفرّدُ الإنسانُ في القرآن بما يلي:
1. يتفرّدُ الإنسانُ في خلقِه فِي أَحْسَنِ صورةٍ يمكن أن يُخلَق فيها مخلوق، كما تقول الآية: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ". التين، 4.
2. يتفرّدُ الإنسانُ في أنه الكائنُ الوحيد الذي نفخ اللهُ فيه من روحه عند خلقه، فصارت هذه الروحُ مكونًا أساسيًّا لكينونته الوجودية، مما تسامى بمقامه إلى مرتبة لن يبلغها مخلوقٌ سواه في مكانته، كما تقول الآية: "فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ". (ص، 72).
3. يتفرّدُ الإنسانُ في أنه الكائنُ الوحيد الذي استحق أن تسجد له الملائكة،كما تقول الآية: "فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ". (ص، 72).
4. يتفرّدُ الإنسانُ في تكريمِه وتشريفه وتفضيله على ما سواه من الخلق،كما جاء في الآية: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ". (الإسراء، 70).
5. يتفرّدُ الإنسانُ في تسخّير الله له كلَّ ما في السّماواتِ والأرض، وذلك من الآثار الوجودية لتكريم الإنسان، وهو ما نصّت عليه الآية: "سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ". (لقمان، 20).
5. يتفرّدُ الإنسانُ في تعليم آدم الأسماء، وذلك من الآثار الوجودية لتكريم الإنسان، وهو ما نصّت عليه الآية: "وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا". (البقرة، 30).
6. يتفرّدُ الإنسانُ في تعليمه البيان، وذلك من الآثار الوجودية لتكريم الإنسان، وهو ما نصّت عليه الآية: "خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ". (الرحمن، 4).
7. يتفرّدُ الإنسانُ في أنه الوحيد الذي لديه إمكانية حمل الأمانة الإلهية، وهذا الضربُ من التكريم الوجوديّ هو الذي استحق الإنسانُ بسببه أن تُناط به مسؤوليةٌ عظمى. حملُ الأمانة الإلهية مهمةٌ جسيمة لا يقوى عليها إلّا الإنسان، كما تقول الآية: "وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا". (الأحزاب، 72).