يُسَدِّد الرفاعيُّ سهامَه أيضًا إلى فكرةٍ تراها جماعاتٌ دينيّة كثيرة أصلًا محوريًّا من أصول الديانة؛ نبع عنها كثيرٌ من العنف الدينيّ في شتّى أنحاء العالم، ما وضع الدِّين في مأزق، وجعله محلّ اتِّهام دائمٍ؛ ألا وهي فكرة الخلافة والدولة الدينيّة، فيرى القائلين بها أسرى الماضي البعيد، ولا يملكون قدرةَ تخطِّي حدود التراث الفقهيّ والعقديّ المرهون بالتاريخ في هذه المسألة، إذ لا يستطيعون فهمَ «المواطنة» فهمًا يتناغم والعصر الحديث، ولا يعرفون فكرةَ العقد الاجتماعيّ بين الحاكم والمحكوم، إلى غير ذلك من وهمٍ طوباويّ، واستدعاء للماضي في الحاضر، وكأنّ الزمان لديهم مفهومٌ جامد قد توقّف هنالك منذ قرون بعيدةٍ دون أن يجري.
يرى الرفاعيُّ محاولاتِ تديين السياسة وخلع أنماط دينية على السُّلطة السياسيَّة توظيفًا للدين وإظلامًا له، إذ يعني حضورُ الدينيّ في السياسيّ - لدى نظامه الفكريّ - دولةً دينيّةً تنتمي إلى «ما قبل الدولة الحديثة؛ دولةً يَعْتَمِدُ تدوينُ دستورِها ومختلفُ تشريعاتها وقوانينها وبرامجها على علم الكلام والفقه وفتاوى الفقهاء» ؛ ما يؤدّي إلى استخدام «مُختلف الوسائل المشروعة كالانتخابات، أو غير المشروعة كالعنف المسلح، بغيةَ بناءِ هذه الدولة، وإغراق حياة المسلمين بأوهام الوعود الخلاصيَّة، والزَّجّ بأعداد غفيرة من الشباب إلى التضحية بمستقبلهم ومصائرهم» . ويُلفِتُ الرفاعيُّ النظر إلى: «أنَّ الإنسانَ الذي هو موضوع دولة المسلمين أمس هو الإنسان بوصفه مسلمًا بالمعنى الكلاميِّ والفقهيّ، أمَّا الإنسانُ الذي هو موضوعُ الدَّولةِ الحديثة فهو الإنسان بوصفه مواطنًا. الإنسانُ بوصفه مسلمًا هو الذي كان يحدّدُ هُويَّةَ الدولة، ويتحكَّم تعريفُه بتوصيف هويتها. كلُّ تشريع وقرار وموقف يُتَّخَذُ في إطار توصيفِ مسلمٍ ينبغي أن يكونَ معيارُه الانتماءَ للإسلام، وكلّ ما لا ينتمي إلى الإسلام يُفترض ألّا يكون مكوِّنًا لماهية هذه الدولة" .
رابط نشر المقال:
https://tafker.net/2024/08/31/%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D9%87%D9%88%D8%AA-%D9%85%D9%86-%D9%84%D8%A7%D9%87%D9%88%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84/
تحريرُ اللاهوتِ من لاهوتِ التّحرير
عبد العاطي طلبة
لا يتجاهل الرفاعيُّ الشرَّ الدينيّ الكائنَ في العالَم، فهو مهموم به انهمامَه بالإنسان ذاته في مأساته الخاصّة، لذا فإنّه يدرك أنّ المقدّس قد يكون مصدرًا جامحًا للشر الأخلاقيّ، فيقول: «مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ الحياةَ يمكنه استثمارُ الدين، كما يمكن استغلالُ الدين ممن يريد أن يُعلِّم الناسَ الموت، وهو ما تفعله الجماعاتُ المتشدّدة العنيفة في كلِّ الأديان... يمكن أن يكون التَدَيُّنُ عنيفًا، حين لا يُفهم الدين إلا بوصفه رسالةً للموت، ولا تُقرأ نصوصُه إلا قراءةً مغلقة عنيفة، ويتمثَّله الأفرادُ والجماعاتُ على أنه إعلانٌ لحرب لا تنقضي على كلِّ مختِلف في المعتقد» . ومن أجل ذلك عمل على تجفيف تلك المنابع التي يمكن من خلالها أن يتفشّى هذا النوع من الشرّ المعتمد في وجودِه أساسًا على الدِّين وفكرة المقدَّس؛ ومن هنا جاء تعبيرُه «إنقاذ الإنسانيّة في الدِّين».
يبحث الرفاعي في الكراهية والمصادر التي تشتقّ منها مفاهيمَها الخاصّة، ويرى التراثَ الإسلاميَّ الكلاميَّ والفقهيَّ منبعًا تَستقي منه، لذا دعا إلى ضرورة التحرّر من أسرِه العنيف عن طريق التعامل معه بوصفه استجابةً لمرحلة زمانيّة بعينها؛ لا يمكن تمريرُها وتسليط منطقها الخاصّ على جميع الأزمنة الإنسانيّة الأخرى، إذ ليس التراثُ إلّا «مجموعةَ الممارسات الدينيَّة والعقائد والمفاهيمِ السَّائدة في حقبةٍ مُعَيَّنَة من حياة المسلمين، وهو مفهوم ثقافيّ أنثروبولوجيّ، لذا فالمجال مفتوح أمام المُتَأَلِّهين المسلمين في كلّ زمانٍ لنقد ذلك التراث وتفكيكِه، إذ بوسعهم غربلة ونقد المسلَّمات والمسبقات والميول، ومقدّمات فهم الكتاب والسنة، والتطلّعات الدينية الموروثة من عصور سالفة» . وللمحافظة على جذوة الإيمان متّقدةً، فإنه يدعو إلى إيمان نقديّ يمتلك قدرةَ تَجَاوُزِ الكمِّ التراكميِّ من الشروح والتأويلات المُتَوَلِّدة عن مُجْريَات التاريخ وأحداثه.
كما يدعو الرفاعيُّ إلى وجوب تطهير اللغة من عنف ألفاظِها المتراكمة عبر التاريخ، والتي يستعملها آحادُنا في أحاديثه اليومية دون دراية؛ يقول: «تطهير اللغة من الكلمات والمصطلحات القدحيّة المشبعة بالتشهير بالآخر ضرورةٌ يفرضها عنفُ الواقع، الذي يضجُّ بالاحتراب والصِّراع الدينيّ والطائفيّ، وينبغي أنْ تتَّسع عمليةُ تطهير اللغة من العنف لتشمل المقررات الدراسية في سائر مراحل التعليم» . ليس الأمرُ تطهيرَ اللغة ممّا تراكم فيها من تراكيب وأساليب تتوسَّل التعبير في العنف الكامن فيها فحسب، لكن لا بدّ من التجديد فيها أيضًا، والانتقال عنها إلى غيرها، إذ يتحتّم علينا الانتقال بها من لغة الفقهاء والمتكلِّمين القديمة إلى لغة أخرى حديثة تبتعد عن ألغاز القديمة ومعمياتها، إلى لغةٍ «تستقي من المكاسب الجديدة للمعارف والعلوم والفنون والآداب، وتعبّر عن الفهم الجديد للطبيعة الإنسانية، وحقوق وحريات الإنسان» .
ولم يقف كاتبُنا عند محاولاتِه الصَّارمة تجفيف المنابع الصريحة التي يستقي منها الشرُّ الدينيُّ مفاهيمَه ومقولاته، لكنّه عمل أيضًا على رفض المحاولات المُضْمَرَة التي من خلالِها يُسْتَرَقُ الدِّينُ؛ كمحاولات أسلمة المعرفة ، والتّجاوز بالدين عن حدوده الأنطولوجيّة في أيّ نسق؛ دينيًّا كان أم فلسفيًّا. من الأفكار التي أولاها الرفاعيّ اهتمامًا بالغًا ونحن في هذا الصَّدَد موضوع ترحيل الدين عن نطاقه الأنطولوجي الرّحب إلى سياقات أخرى وظيفيّة؛ تعمل على سلبه وتكريسه لخدمة أهدافٍ ضيّقة تُمِيتُ رحمانيتَه ورحابتَه الأنطولوجيّة، فتجعله أكثر عنفًا وانغلاقًا ونبذًا للآخر. ومن هنا جاء نقدُه لعلي شريعتي وحسن حنفي اللَّذَيْنِ حاوَلَا بما يملِكان من أدواتٍ معرفيَّة ومهاراتيّة اختزالَ الدين، وتحويله من ثقافة إلى أيديولوجيا عن طريق تثويره، واستلاب رسالته الأصيلة، واستنطاق اليسارِ فيه، لذا يرفض ما سُمِّي «لاهوت التحرير»، وانتقد محاولات شريعتي العشوائيّة لأدلجة الدين، ومحاولات حنفي تخفيض أبعاده الميتافيزيقيّة على حساب الدنيويّة منها.
من مظاهر افتقار #الفلسفة لمعناها البدايةُ بمقدماتٍ فلسفية ومنطقية، بغيةَ ترسيخ اليقين بمسلمات لاهوتية. الفلسفة ضربٌ من التفكير العقلي خارج اللاهوت، لغةُ الفلسفة ومصطلحاتها تكشف عن خارطة العقل، وهي مرآةُ حدوده. لا تلتهم لغةُ الفلسفة ومفاهيمُها لغةَ ومفاهيمَ اللاهوت والمتخيَّل والمثيولوجيا واللامعقول. العقلُ معيارٌ وسلطةٌ على كلِّ ضربٍ من أنشطةِ الذهن مهما كان. واحدةٌ من مشكلاتِ التفكير الديني التفكيرُ بالفلسفة ضدّ الفلسفة، والتحدث والكتابة بلغة تحاكي لغةَ الفلسفة إلا أنها ضدّ الفلسفة. يجري توظيفُ التصوف واللاهوت في الفلسفة، والتفكيرُ في فلسفة الدين بعقلٍ كلاميّ من شأنه أن ينقض كونها فلسفة،كما نقرأ لدى مَن يفكرون في التعدّدية الدينية بعقل متكلم، أو فقيه. يتسيّد تفكيرٌ لاهوتي بالعربية يكتب الفلسفةَ برؤية علم الكلام للعالم ومقولاته، وذوقٌ صوفي يكتب الفلسفةَ بمرآة التصوف ومكاشفاته. صارت هذه صنعة جماعة من المفكرين الذين نحتوا لهم أسماء كبيرة، أُغرم بهم شبابٌ عرب نفروا من تبسيط أدبيات الجماعات الدينية، فاحتلت كتاباتُ هؤلاء المفكرين مواقعَ متقدّمة في الجامعات والدراسات العليا، على الرغم من أنهم يفكرون في الفلسفة بعقلٍ كلامي وفقهي، وأحيانًا صوفي، ويصدرون مقولات كلامية وفتاوى فقهية لا صلة لها بالتفكير الفلسفي، وإن تدثرت بلغة الفلاسفة. هذه المحاولات المتنوعة تسعى لخلع غطاء ديني على الفلسفة وتعمل على أسلمتها. أسلمة الفلسفة ضربٌ من التفلسف ضد الفلسفة، وإن كان مَن يدعو لذلك عبقريًّا. وهذا ليس غريبًا، فأحيانًا نرى إنسانًا عبقريًّا فذًّا في مجالٍ يقظٍ من عقله، وعلى الضدِّ من ذلك في مجالٍ نائمٍ من عقله. يتراجعُ العقل وينزاح بالتدريج أحيانًا، بعد أن تتسعَ المساحة النائمة للعقل فتعطّل ما هو يقظ. تدهشك قدرتُه على توظيف المغالطاتِ المنطقية لعقله اليقظ للاستدلال على أوهام عقله النائم. المراوغاتُ الذهنية والثغراتُ المنطقية في تفكير العباقرة تفسيرُها يتطلب الانتباهَ لوجود هذه الحالة الذهنية في الطبيعة البشرية. هذا هو السرّ الذي يجعل هؤلاء يبدؤون بمقدماتٍ عقلية وينتهون بنتائجَ غير معقولة .
على الرغم من أن الفلسفةَ تستعمل العقل خارجَ الوصايات، إلا أن العقلَ وقع تحت وصاية علم الكلام، حين أجهضت المقولاتُ المغلقة لبعض المتكلمين العقلَ الفلسفي في الإسلام. وتسيّد عمليةَ التفكير بكلِّ شيء هاجسُ الحرام، فصار سؤال المسلم عن كلّ صغيرة وكبيرة في كلِّ شؤون حياته، حتى في نوع العلوم والمعارف والثقافة، وفي أيّ شأن كان، عن كونه حرامًا أو ليس بحرام، وانتهى هذا المسار إلى تحريم الفلسفة. صدرت فتاوى من مختلف فقهاء المذاهب بتحريم تعاطي الفلسفة، أشهرها فتوى ابن الصلاح الشهرزوري (577 - 643 هـ/ 1181م - 1245م) التي جاء فيها: "الفلسفة رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرتُه عن محاسن الشريعة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليمًا وتعلمًا قارنه الخذلانُ والحرمانُ، واستحوذ عليه الشيطان... وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخلُ الشرِّ شرٌّ، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين، وسائر مَن يقتدى به من أعلام الأئمة وسادتها، وأركان الأمة وقادتها، قد برأ الله الجميع من معرة ذلك وأدناسه وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة وليس بالأحكام الشرعية" . عندما وقع العقلُ تحت وصاية فتاوى الشهرزوري وأمثاله، انغلق على نفسه، واستنزف التفكيرَ الديني في الإسلام التكرارُ والاجترار المملُّ، ونامت الأسئلةُ الكبرى، واضمحل حضورُ العقل النقدي الخلّاق.
لن يخرج الدين من مأزقه، ولن تخرج مجتمعات الاسلام من مأزقها التاريخي، مالم ترسم حدوداً يتكشف فيها مجالُ الدين وحدوده ومجالُ الدنيوي وحدوده، ويكف كتّابُنا عن التلفيق ولصق كل ما يغويهم بالدين. لن نكتشف طريقَ الخلاص مالم يكن الدينُ ديناً لا غير، والمقدسُ مقدساً لاغير، والدنيا دنيا لا غير، والآخرةُ آخرة لا غير، والفلسفةُ فلسفةً لا غير، والعلمُ علماً لاغير، والأسطورةُ أسطورةً لا غير، والمتخيلُ متخيلاً لا غير، والأدبُ أدباً لا غير، والفنُ فناً لا غير. لا بمعنى القطيعة الجذرية بين كلّ منها، وانما بمعنى رسم خارطة لحدود كل واحد منها، وصورة تضئ ملامحَه، وتتعرف على ماهيته، وتحدد اطار موضوعه، وتعلن عن وظيفتة. خلط الدين بكل شيء يفسد ذلك الشيء، وقبل ذلك يفسد الدين.
Читать полностью…تفسيرُ القرآن وكلّ الكتب المقدّسة في الأديان، أفهمه فلسفيًّا بوصفه تحقّقًا أنطولوجيًّا لذاتٍ تمارس الفهم. الفهمُ ضربٌ من ظهور الموجود وانكشافه، إنه تحقّقٌ للذات بطور وجودي جديد. تكرارُ الفهم ذاته في كلّ زمان تعبيرٌ عن تكرارِ الموجود لذاته، وتعطّلِ حركته الجوهرية وصيرورته الوجودية. وهذا يعني توقفَ توالد المعرفة ونموّها، بعد أن يكفَّ الفهمُ عن التعدّد والتنوع. تكرارُ فهمٍ واحد لآيات الكتاب الكريم في كلِّ زمانٍ ينتهي إلى تكرار المعرفة. تكرارُ المعرفة يعني توقّفَها، وتوقّفُها يعني غيابَ آيات الكتاب عن مواكبة الواقع المتغير، وجفافَ منابع إلهام المعنى الديني الذي تتطلّبه الحياةُ في مختلف الأزمان والأحوال والوقائع.
أبديةُ معاني القرآن وعبورُها الزمان والمكان قائمةٌ على تعدّد قراءتها وتنوع فهمها، وتعدّد المعنى الذي يتلقاه القارئ لها، بالانطلاق من تساؤلات الذات الواعية لمناهج الفهم والقراءة. لا ديمومةَ لفهمٍ يدّعي الفهمَ النهائي والأبدي للقرآن.
مفهومُ الذات يتوفّرُ على إمكانٍ وجودي، يوفِّر هذا الإمكانُ الفهمَ، وعملياتِه المختلفة: التفكير، التساؤل، مكوّنات التساؤل، الأفهام العلمية السابقة لهذا الفهم، شبكة العلاقات بين مكونات الفهم، بنية الفهم، منطق الفهم، وغيرها. يبدأ الفهمُ بفهمنا لذواتنا، الذاتُ بوصفها مرآة تنكشف فيها لنفسها. هذا النحو من الانكشاف للذات هو وجودها بطورٍ جديدٍ في كلِّ عملية فهمٍ، وتحقّقها داخلَ عملية الفهم الذي تنتجه وجوديًّا، أي إن الذات تشتبك وجوديًّا مع النصّ حالةَ الفهم. الفهمُ يشاكلُ الذات، الفهمُ ضربٌ من تحقّقِها بوجودٍ جديد. هذه هي تجربةُ الفهم بما هي صيرورةٌ وجودية يعيشها قارئُ النص الحاذق.
#عبدالجبار_الرفاعي
#تفسير_القرآن
العقل يخضع لمساءلة العقل
د. عبدالجبار الرفاعي
في الفلسفة يتغلب العقل ليصير هو المرجعية في الحكم والقرار، وبتغلُّبه يتحقق التفاعل الخلّاق بين العقل والروح والعاطفة. يضع العقل الروحَ والعاطفةَ في حدودهما، وهو الذي يصحّح المسار لهما على الدوام. تنحسر مرجعية العقل في مجتمعاتٍ غير متعلّمة تتفشّى فيها العبوديّة الطوعيّة، واستعباد الوعي، والانقياد الأعمى، وتخدير الضمير الأخلاقي. العاطفة والروح تعملان بخفاءٍ للتأثير في العقل، والتحكّم بتفسيراته وصناعة أحكامه وقراراته. يعود سوء الفهم بين الفلاسفة وطرائق فهمهم إلى تأثير الذات والعاطفة والروح في تفسيرات العقل وأحكامه، على الرغم من أن الفلاسفة هم الأكثر صرامةً في اعتماد العقل والعملِ على توظيفه في كلِّ شيء. لا خلاف في الفلسفة حول كون العقل هو الذي يرسم حدودَه، ويحدّد وظيفته، ويكتشف مصادر معرفته. الخلاف بين الفلاسفة أنفسهم حول حدود العقل، وماهية هذا العقل وتعريفه، ومجالاته، وكيفية إدراكه، ونوع مدركاته.
العقل الفلسفي هو الذي أولد العقل الحديث، تَوالد هذا العقل وتشكّل في فلسفة فرنسيس بيكون وديكارت وكانط وغيرهم من الفلاسفة، فكان العقل الفلسفي الحديث باعثًا أساسيًّا على وضع التاريخ البشري في مسار جديد، غادر فيه حالتَه الرتيبة التكرارية الطويلة، بعد أن لبثت البشريةُ آلاف السنين لم تحقّق المكاسب العلمية من الاكتشافات والاختراعات والتكنولوجيات المنجزة في القرون الثلاثة الأخيرة، وتحول عبرها الإنسانُ من الآلات اليدوية إلى المحرِّكات الحديثة، ومن وسائل النقل البدائية إلى القطار والسيارة والطائرة ووسائل النقل
المتطورة. وهكذا تواصلت هذه المكاسب بقفزات على شكل منعطفات، إلى أن وصلنا إلى هندسة الجينات، وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي والروبوتات. كانت الفلسفة وستبقى تتفاعل مع النظريات العلمية والاكتشافات، تؤثر وتتأثر بها، تستجيبُ لما يستجدّ من اكتشافات في الفلك والفيزياء والأحياء وغيرهما من العلوم. لعلم الفلك الحديث، الذي بدأ مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) ونظريته في مركزية الشمس ودوران الأرض والأجرام الأخرى في المجموعة الشمسية حولها، أثرٌ مباشر على التفكير الفلسفي والميتافيزيقي في أوروبا من بعده، وهكذا تأثر هذا التفكيرُ بقوانين الحركة والجاذبية العامة في فيزياء نيوتن (1642 – 1727)، كما تأثر لاحقًا بفيزياء الكوانتم لماكس بلانك (1858 – 1947)، والنظرية النسبية لأينشتاين (1879 – 1955)، وقبل ذلك تأثر بنظرية التطور لتشارلز داروين (1809 – 1882). الفلسفة لا تنتهي ولن تتوقفَ مادام الإنسان يندهش، ويفكّر، ويتساءل، ويشكّك، ويناقش، ويتحاور، ويختلف. لا تمثل الفلسفة مرحلة من مراحل تطور الوعي، الفلسفةُ تواكب الوعي ولا تتخلّف عنه، حتى لو ساد العلم الحياة. العلم يطرح على الفلسفة أسئلتَه ومشكلاته العويصة، وما يعجز عن اكتشاف طرق الخلاص منه في فضاء المادة والمحسوس والتجربة، الفلسفة لا سواها من يجيب عن ذلك. لم يولد العلم إلا في أحضان الفلسفة، تظلّ الفلسفةُ تواكب العلم، تتغذّى بأسئلته الحائرة، ومشكلاتِه وأزماته خارج حدود المادة والتجربة، وترفده وتغذّيه بالأجوبة والحلول والرؤية لما تنتجه تطوراته من تساؤلات، ومشكلات معقدة، وأزمات روحيَّة وأخلاقيَّة ونفسيَّة ومعرفيَّة، سواء أكانت هذه المشكلات والأزمات فرديَّة أم
مجتمعيَّة.
#عبدالجبار_الرفاعي
#العقل_الفلسفي
تتمة المقال على هذا الرابط :
https://alsabaah.iq/100617-.html
ميلاد المفكّر والمعلّم
د. أحمد حميد
ليس سهلاً أن تكتبَ عن شخصٍ اسمهُ عبدالجبار الرفاعي. يصقلُ هذا الرجل أخلاقيات الدنيا في ذاته. يرتكزُ بنيوياً على أساساتٍ ثلاثة: الفضل، والنبل، والعطاء. يشتغلُ في مساحةِ العقل بيد أنهُ كانطياً في نقدهِ للعقل المحض؛ لأنّ للعاطفةِ والمعنى حضورٌ متألق في كيانهِ الشفاف.
من الغرابة أن يجتمع الاجتماع الثقافي العراقي على شخصٍ واحد. اجتماعنا اجتماعٌ حاد المزاج، متطرّفُ العواطف والخياراتِ والاتجاه. لذا، ينقسمُ مثقفونا إلى علمانيين وإسلاميين، ومن ثم تنقسمُ كلُّ فئةٍ على نفسها، حيث يصيب الغرور كلا الاجتماعينِ بمقتلةِ الحسدِ والنميمة. لكن الغرابة تكمنُ في أن يجتمع مثقفونا بمزاجهم الحادِ والمرن على علميةِ ورفعةِ المفكر الدكتور #عبدالجبار_الرفاعي.
كيف استطاع المثقف الآتي من أزقة التراث الديني أن يقنعَ جمهور ما بعد الحداثة بطروحاتهِ التجديديَّة من دون أن يُعابَ عليهِ تجواله الدائم في تلك الأزقة؟! يتجول الرفاعي في أروقةِ الماضي بوصفهِ ناقداً ومنقباً ومنقحاً للأصول؛ من أجلِّ صناعةِ حاضرٍ يليقُ بحياةٍ معاصرة، وهذا ما تجلى في إنتاجهِ لعلمِ الكلام الجديد، فضلاً عن متونٍ داعية إلى إصلاح وتجديد الخطاب الديني بشكلٍ عام.
يسير صاحب "الدين والنزعة الإنسانيّة"، بخطين متوازيين لا ينفكّان عن بعضهما البعض، وهما خطّا: العلم والأخلاق. إنّهما بحق استراتيجية حياة ناصعة، حيث من يرفضك علمياً، يتقبلك أخلاقياً، لذا تجد البعض قد يختلف معهُ فكرياً لكنهُ منبهرٌ بأخلاقهِ وسمعتهِ ورفعتهِ الذاتية. يدخل الدكتور الرفاعي في عامهِ السبعين مكللاً بإنجازاتٍ فكريةٍ أغنت المكتبة الإنسانية بخطابٍ حداثويٍّ متزنٍ وراق.كما لا ننسى أننا أمام طاقةٍ معرفيةٍ وتربويّةٍ هائلة؛ طاقة خرّجتْ الكثير من التلاميذ الذين أصبحوا من صُنّاع الرأي والفكر المديني في العراق والمنطقة. كلُّ عام والرفاعي بخيرٍ وسلامٍ وإبداع.
https://alsabaah.iq/100778-.html
عبد الجبار الرفاعي في سبعينيته: من أرض الرافدين إلى المحيط بين مسرات التنوير ومخاض بناء العقل المسلم
د. يوسف محمد بناصر
تعد المساهمة التنويرية للمفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي، المولودبالعراق سنة 1954م، إثراء وتثويرا للحوار الفكري والديني حول الإسلاموتصوراته ومكانته في العصر الحديث. وهي صيرورة وأفق مفصلي في تاريخالنسق النقدي الإسلامي المعاصر، مما جعل تجربته مميزة عن بقية المفكرينمن معاصريه. بالإضافة لكونه ساهم مساهمة جادة وملحوظة في إثراء المكتبةالإسلامية في مجالات ومسارات علمية مختلفة، كالكتابة الفكرية والفلسفيةوالكلامية، والنشر والترجمة والإشراف على المجلات المتخصصة، والتي نذكرمن أهمها (قضايا إسلامية معاصرة). وقد تلقف معظم القراء والباحثين كتاباتهبقبول حسن، لكونها تعالج معضلات فكرية حديثة بأسلوب لغوي أنيق غيرمتكلف، وبرؤية متكاملة منسجمة، أسها سعة الاطلاع على المعرفة الإسلامية معاستيعاب للمعارف الغربية.
تعرف عموم الباحثين المغاربة على كتابات الرفاعي من خلال إصدارات مركزفلسفة الدين الذي يتخذ مقره ببغداد، وله إصدارات متنوعة تهم قضايا الفكرالديني وعلم الكلام الجديد وفلسفة الدين، كما تصدر عن المركز نفسه مجلة“قضايا إسلامية معاصرة” وبذات النفس والتوجه، وهي متميزة باستكتابهاأسماء من مختلف التوجهات والحساسيات الفكرية، ليساهموا بمقالاتهموأبحاثهم في محاور المجلة المتنوعة، وهو توكيد واقعي على أهمية الايمانبالاختلاف واستيعاب الآخر، من خلالها وما تنشره من ترجمات تعرفنا كذلكعلى فلاسفة من الشرق والغرب، وبصمت بفتح نافذة للحوار والاختلاف بينالانتماءات العقدية والفقهية والفكرية في السياق الإسلامي…. وفي زمن صعبعرف الكثير من الاضطرابات وسوء الفهم والتواصل بين أبناء الثقافة الإسلاميةباختلاف توجهاتهم.
قدم عبد الجبار الرفاعي جهدا ملحوظا في تفسير الكثير من المضار التي أثرتعلى الفكر الديني في مراحله التاريخية ليفقد فاعليته،كما عَدَّدَ الأعطاب التيأصابت النهضة الإسلامية الحديثة، والتي رافقت مشاريع أغلب النهضويين منذقرن ونيف، مما جعلها تنتقل من جيل إلى جيل بما صاحبها من نواقص ورؤىوأسئلة مشوشة، لتورث تلك السمات لبقية الباحثين من اللاحقين وتشكل الكثيرمن قناعاتهم ومدار تفكيرهم من جديد، فلم يقدروا على تجاوزها أو تفكيكمثالبها.
وبحسب تتبعي لبعض كتاباته يبدو أن مشروعه مؤسس على دفتين: التنوير، ثمإعادة تشكيل العقل المسلم، وصيرورة اشتغاله على مفاهيم شائكة في الفكرالإسلامي سواء من خلال الكتب المنجزة، أو من خلال الاعتناء بمضامينومحاور بعض إصدارات مجلة “قضايا إسلامية معاصرة” التي تدور ذلكالمدار، ويبدو كذلك أن هم هذا الإصلاح والبناء الأخلاقي للمجتمع المسلم سكنوجدانه منذ بدايات إبداعه، وأشرك فيه الكثير من الأسماء بمختلف حساسياتهاالفكرية والعقدية والمنهجية، في إطار تكامل معرفي كان من السباقين لتنزيله.
ويسائل الرفاعي مدونتنا الأخلاقية التي يعتبرها شحيحة مقارنة بالكثير منمدوناتنا الأخرى، ويفكك الثنائيات الضدية التي تسكن تراثنا، والتي تراكمتعلى مدى قرون كاملة، وجعلت مجتمعنا مضطربا غير مستوعب لذاتهواختلافاته، إنه منهك بذاته وبسوء فهم التنوع وسوء تدبير الاختلاف، الذي هوجزء من كينونته، لتنفجر بؤر العنف واللاتسامح هنا وهنالك في أطرافه لتصللمراكز المدن، وتتمدد لتغتال المفاهيم السامية التي زخرت به ثقافتنا. إن هذاالمأزق الثقافي والاجتماعي والديني بدأ في تفكيك المعنى الوجودي للدين، ليفقدآفاق الارتفاع بالإنسان والتسامي به، ويوقعه في دوامة اللامعنى، وهو ماأحدث شرخا كبيرا وجروحا غائرة في المجتمعات العربية والإسلامية، والتيلايزال تأثيرها مستمرا إلى الآن.
يتطلع الرفاعي لإعادة بناء شبكة المفاهيم التي تؤطر تصورنا للحياة بخلفيةدينية، لتجاوز هذه الإشكالات التي تحصر الدين في الغلبة ومصادرة الانسانلخيرية أخيه الانسان، مقابل الأيديولوجيا، واختزال معنى الانسان في ضيقالانتماء. ويعترف الرفاعي في كثير من كتاباته باعتزازه بمواقف ورؤية الشيخالأكبر محيي الدين بن عربي على - بوجه الخصوص - للتدين، الذي كانيصرح، قائلا:”أن الشفقةَ على عباد الله أحقّ بالرعاية من الغَيْرَةِ على الله”،واستمد منه شيئا من رؤيته لسعة الدين وعلاقة الانسان بالإنسان، ليرى أنالدين له نزعة إنسانية عالية، وينقل بذلك الدين من ضيق التفسير السلفيالسني/ الشيعي. ويرافع لإعادة تعريف الدين وكذلك الانسان وفق هذا المنظور. ليستعيد الدين دوره فيشكل أفق المعنى من جديد، ويبعث على الطمأنينةوالسكينة، ويمد الوجود الإنساني بمعاني جديدة للأخلاق والجمال والحياة،لتتجاوزه ككائن له “ظمأ وجودي” للدين لتشكل بعدها امتدادات عظيمة تلامسالحضارة والثقافة والمجتمع.
حسن الكعبي: الاغتراب والقلق الوجودي
مفهوم (الظمأ الأنطولوجي) من المفاهيم التي اجترحها المفكر العراقي #عبدالجبار_الرفاعي للتعبير عن ظمأ الانسان الى ما يثري وجوده، وهو بتعبيره "الظمأ للمقدس، أو الحنين للوجود، لأنه ظمأ الكينونة البشرية، باعتبار أن وجود الإنسان وجود يحتاج إلى ما يثريه. فظمأ الانسان في بعده الانطولوجي متجذر فيه ومهمين على وجوده بالكامل، وهو المفهوم الوحيد الذي بإمكانه أن يجيب عن تساؤلاتنا حول سيادة ظاهرة الإرهاب وتفشيها بين الشباب في الغرب وغيره، ممَّن هم في كفاية معاشية، وبعضهم يعيش ترفاً مادياً، وفي هذا الإطار يتساءل "فما الذي يدفعهم للهجرة إلى ولائم الذبح، وحفلات الرقص على أشلاء الضحايا في بلادنا. والتسابق على الانخراط في وحشيّة عبثيّة، تتلذَّذ بالدم المسفوح، وتتهافت على مغامرات مهووسة في العمليات الانتحاريّة؟". ويجيب "إنَّ ذلك يعود إلى ما يعانونه من ظمأ أنطولوجي للمقدَّس، وبسبب رتابة الحياة، وذبولها وانطفاء المتعة التي تمنحها لهم الملذَّات الحسِّية". والظمأ بما هو تعبير عن الحاجة والنقصان والفقر، فهو ينطلق بالأساس من مفهوم الاستلاب والاغتراب بأنواعه والتي تنبع بالأساس من الاغتراب الميتافيزيقي - الديني، لكن بمنظور يغاير تصورات فيورباخ الذي يرى "أنه لا يوجد تباين واختلاف بين الطبيعة الإلهيّة والطبيعة البشريّة أي أنّ الإنسان نزع عن نفسه صفاته وتنازل عنها لله - أي أن الله أنموذج ذهني من تصورات الانسان ذاته - ونتج عن ذلك اغترابه وضعفه وعجزه واستلابه وقد ربط فيورباخ الاغتراب بالدين واعتبره المصدر الأساس للاغتراب، حيث أن فكرة الله تسلب الإنسان ذاته وذلك لاعتقاده بوجود قوة مفارقة له متميزة ومختلفة، وبذلك فالاغتراب الميتافزيقي هو غير أشكال الاغتراب الأخرى. يقول الرفاعي: "الاغتراب الميتافزيقي كما أصطلحُ عليه، هو اغتراب وجودي عن العالَم الميتافيزيقي. وهو ضربٌ من الاغتراب يختلف عن اغتراب الوعي والاغتراب الاقتصادي والاغتراب الاجتماعي والاغتراب النفسي والاغتراب السياسي. ينشأ هذا الاغتراب عندما يحبس الإنسانُ وجودَه بالوجود المادي الضيق، فيختنق باغترابه عن الوجود الميتافيزيقي. وينتج عن ذلك تمزق الكينونة الوجودية للإنسان وضياعها بتشرّدها عن الأصل الوجودي لكلِّ موجود في عالَم الامكان. يفتقرُ الإنسانُ في وجوده المتناهي المحدود إلى اتّصالٍ بوجودٍ غنيّ لا نهائيّ لا محدود، وعندما لا يتحقّق له مثلُ هذا الاتّصال الوجوديّ يسقطُ في #الاغترابِ_الميتافيزيقيّ. الاغترابُ الميتافيزيقي يعني أنَّ وجودَ الذَّات البشرية وكمالَها لا يتحقّقان ما دامتْ مغتربةً في منفى عن أصلها الذي هو الوجود الإلهي". نقطة الاختلاف تكمن في أن الخلاص من الاغتراب في الأنواع الأخرى لا يعني الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي، والى هذا يشير الرفاعي: "على الرغم من الآثار الموجعة لاغتراب الوعي والاغتراب الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والسياسي، لكن الخلاص من الاغتراب في هذه الأنواع لا يعني الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي". ويرجع الرفاعي أسباب عدم القدرة من الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي "لأن الاغتراب الميتافزيقي اغتراب لكينونة الكائن البشري عن وجودها، وهذه الحالة من الاغتراب تنتج القلق الوجودي إذ بعد أن يفتقد صلته بإلهه يفتقد ذاته". بمعنى أن الكائن البشري لا يمكنه الخلاص من اساس اغترابه، الا إذا استطاع ان يجد تلك الصلة بينه وبين إلهه فيصل الى حالة من التسامي والتصالح مع الذات وحبها. وطبعاً قد تختلف رؤية الانسان للإله فقد يكون الإله عند البعض هو المال او المادة المشبعة لأنواع الغرائز أو هو شخص ما أو عقيدة ما أو رمز ما، لكن ما يقصده الرفاعي بالإله هنا هو الله تعالى كحقيقة مطلقة يصعب إدراكها؛ لذلك فإن البحث عنها يظل دائماً هو الهدف من خلق الانسان للارتقاء بذاته وتساميها في رحلة البحث هذه، ولذلك فهو يقول بخلاص الانسان من أنواع الاغتراب من دون التمكن من الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي إلا في حالة الاقتراب من الحقيقة المطلقة حيث يتحول المنظور"الى الإله من منظور عدائي الى منظور قائم على الحب" بمعنى أن الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي يكمن في الدين بتجلياته الروحية والأخلاقية والجماليّة.
الإنسان كما يشير الرفاعي "كائنٌ متعطِّشٌ على الدوام إلى ما يرتوي به، ومن خلال البعد الأنطولوجي في تصوراته: يمكنه العبور إلى جوهر الدين، وبه يرتوي #الظمأ_الأنطولوجي للمقدَّس، وبه يتذوَّق الأبعاد الجماليّة، ويدرك ما يفيضه الدينُ على مشاعر المتديِّن في عالمنا، من جمال"، ومحبة وتسامح نابعة من منظومة تيولوجية مترشّحة عن الدين كحقيقة انطولوجية لها تجلياتها الجماليّة التي تروي ظمأ الانسان الى الكمال، وهي بذلك تختلف عن حقيقة الدين في طابعها الايديولوجي الذي يسيس وجودنا دون أن يثريه.
رابط نشر المقال :
https://almothaqaf.org/qadaya/976887-حسن-الكعبي-الاغتراب-والقلق-الوجو
"مفهوم الوحي في علم الكلام الجديد عند عبد الجبار الرفاعي وحيدر حب الله"، رسالة ماجستير قدمتها: سرى مقداد شاكر. ونوقشت بكلية الأداب في جامعة بغداد، وحازت على تقدير جيد جدا، في 24-6-2024.
Читать полностью…شخصيات طفيلية بثياب قديس
د. عبد الجبار الرفاعي
عندما كنت طالبًا ببغداد سنة 1973تعرفت على زميل من جيلي. هذا الزميل غريب الأطوار، فائق الذكاء،كان من الأوائل في المرحلة الثانوية على العراق، صامت قلما يتكلم، لو تكلم كلماته قليلة مركزة، تارة يتحدث بلغة قديس، وأخرى يتحدث بلغة شرير، لا تدري من هو الحقيقي في داخله ومن هو الزائف. أظن أن كليهما حقيقي، الطبيعة الإنسانية لا تتنكر للقاء الشخصيات المتضادّة داخل إنسان واحد، الإنسان لا ينجو من تناقض مختبئ بداخله، غير أن الإنسان السوي يمكنه التحكم بمواقفه وكلماته إلى حد معقول، إلا في حالات الغضب والانفعال الحاد فأحيانًا يغلبه غضبُه.
غرابة هذا الزميل في تعبيره عن مواقفه المتضادّة في العلن، في أوقات متقاربة أو متزامنة، وهو في حالة هادئة، بلا أن يتعرض لأيّ مثير خارجي، وبلا أن يظهر عليه أيّ توتر أو اضطراب أو سخط، ففي الوقت الذي يعلن فيه الشفقة يعلن أماني متعطشة لنكبات تبيد البلاد والعباد. ينجذب إلى هذا الطالب زملاؤه العاطفيون من أبناء القرى أكثر من أبناء المدن، يوم كانت المدينة مدينية والقرية ريفية. بهرني بمهارته ومقدرته على التمثيل المدهش، في إخضاع مجموعة من الطلاب، وأنا أولهم، لعبودية طوعية بتلبية ما يرغب، ولو بإشارة يلوّح بها من بعيد، تواصل انصياعنا له باختيارنا عدة سنين.كان حين يظهر الشفقة على البؤساء والمعذبين، يكرّر التمني بحدوث زلزال مهول يفني كلَّ إنسان في الأرض. لحظة يظهر الشفقة والتفجع على البؤساء لا يسعف بؤسهم بشيء سوى الكلمات الشحيحة الحلوة. ظلّ يهدّد أحدَ الأصدقاء، عاش معه لمدة أنه سينتحر، يحلو له أن يثير هذا التهديد كلّ ليلة قبيل النوم، ما يضطرّ الرجل الذي يسكن الغرفة ذاتها لحراسته ليلًا، يلبث زميله يتجرع النعاس والارهاق لئلا يباغته بانتحاره، وهو كما يقول زميله ينام فورًا حتى الصباح بلا قلق أو أرق أو ارهاق.
كنت والأصدقاء الذين يعطفون عليه نقدّم له كلَّ شيء بحوزتنا يمكننا تقديمه في ذلك الوقت، وهو صامت لا يكرمنا حتى بكلمة امتنان، ربما يكسر صمته بكلمة تشي بالتذمر والآهات من الحياة والبشر. واصل إخفاء مواقفه بوجهه الباكي وإعلانه الشفقة على الجياع في الأرض، وإظهار التقوى بممارسات توهم من يراه بقداسته، وكان لإظهار فرط ورعه يبالغ في التطهر كما يتطهر المصاب بوسواس قهري. المفارقة أنه في حين يبدي شفقة على البؤساء، يعلن حنقه وكراهيته لكلّ إنسان يعرفه أو لا يعرفه. لبثت بضعة سنوات أتجرّع بمرارة مواقفه المتضادّة، أخيرًا عندما تأملت تناقضاته، وتذمره وتأففه ومرواغاته، شعرت بأني كنت ضحية شخصية ماكرة. لحظة تحسّسَ ما يشي باكتشافنا أنا وقليل من الأصدقاء لزيف شخصيته صار يحذر ويحاول أن يتهرب منا جميعًا لئلا ينفضح أمام الجميع. لم تنقطع به السبل لحظة تحرّرنا منه، إذ كان سرعان ما اصطاد سلسلة بديلة، ممن عواطفهم متعطشة لرعاية الإنسان الذي يوهمهم بأنه ضحية، وهو يجيد تمثيل هذا الدور على المسرح الاجتماعي.
بعد 51 عامًا من تعرفي عليه سمعت الشهر الماضي 2024 أنه مازال يواصل تمثيله ومراوغته بذكاء، في بلاد قصية، مع مغفلين من أمثالنا بالأمس. لم ينكشف لي بوضوح تمثليه إلا بعد أن استنزفني وأنهكني تنكره وتشكيه وتأففه المزمن.كان يمارس كلَّ ذلك بوعي كامل، ويؤسّس علاقاته ويديرها باحتراف ومهارة. لا ينجذب لبناء علاقات مع البؤساء على الرغم من تباكيه على بؤسهم، ينتقي الأشخاص بعناية بالغة، لا تهمه إلا العلاقات النوعية، بمَن يدرك جيدًا أنهم حساسون نفسيًا وعصبيًا، يمكن التأثير على عواطفهم وإيقادها بمجموعة كلمات، وتعبيرات مموهة للوجه، ونظرات زائغة للعينين، وحركات تبدو عفوية في غاية البراءة، وإن كانت تخفي تعبيرًا ذكيًا لاستجداء الشفقة. يتجنب البخلاء، ينتقي الكرماء لتلبية احتياجاته، يُظهِر لنا أنه ليس متهافتًا على المال، ولا تواقًا للشهرة، وهي مزايا يحرص على كشفها لتعزيز الثقة به.كنت مستعدًا، لفرط قدرته على تنويمي، أن أمضي سنوات أكثر مغفلًا، لولا مراجعتي لمواقفه الغرائبية وعجزي عن تفسيرها استنادا إلى لما تعلمناه من تطبيق مبدأ "حسن الظن" خارج موارده. ساعدتني قراءاتي لعلم النفس والتربية والعلوم الإنسانية، وما كان يصلني من معلومات عن كيفية عيشه، من خلال صديقي اليقظ الملاحظة الذي عاش معه لأشهر في غرفة واحدة. يقول عنه: أنه في كلّ ليلة قبل أن ينام يكرّر أمنيته بأن يستفيق على زلزال مدمّر يفني الأرض ومَن عليها.
الإنسانيَّة الإيمانيَّة عند عبدالجبار الرفاعي
د. رنا إبراهيم البهوتي
الأمر الأكثر خطورة في الأنسنة المغالية هو نزع الصوت الإلهي في القرآن الكريم، وإن لم يصرح بذلك روادها، إلا أنهم سلكوا كل الطرق المؤدية لذلك. وهنا يأتي الدكتور عبد الجبار الرفاعي أول المعترضين على انكار الحضور الإلهي في القرآن، وإهدار الطاقة الرمزية في الشعائر والطقوس والعبادات ويرفض تفسيرها بمناهج العلوم التجريبية، مما انتهى إلى “إنهاك الدين وتفريغه من محتواه الروحي والأخلاقي والجمالي، واستنزاف الدلالات الرمزية للنصوص الدينية”. يدافع الدكتور عبد الجبار الرفاعي عن الدين، وعن طاقة المقدس المتجددة في العطاء والصلاحية، ليبين أن “المقدس مستمر متواصل أبدي، غير أنه ليس ساكنا أوقارا أو ثابتا بل هو متحرك، ومتغير إنه موجود دائما، لكن أشكاله وأنماطه شديدة التنوع وعادة ما يتعرض المقدس للتلاعب من قبل البشر، ويجري توظيفه في المعارك ويستخدم كقناع وذريعة في الصراع الاجتماعي، ويخضع لمختلف أنواع التفسير والتأويل والقراءات المنبثقة عن الفضاء البشري الحاضن له”، وهو يقصد أنه على الرغم من الصوت الإلهي في النصوص الدينية إلا أنها لا تتسم بالصلابة والجمود، وإنما هي مرنة في فهمها تتناغم مع الأفكار والعقول، ما يهدر مضمونها التفسير وفقا للأهواء والمزاجات والمصالح…
#عبدالجبار_الرفاعي
#الإنسانية_الإيمانية
تتمة المقال على هذا الرابط:
https://altanweeri.net/12697/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%8E%D9%91%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%8E%D9%91%D8%A9-%D8%B9%D9%86%D8%AF-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A8/
ومن هنا تأتي خطورتُها بشتى أنواعها وأنماطها وتجلِّياتها – في نظر الرفاعي- من أنّها «نسق مغلق، يُغَذِّي الذهنَ بمجموعةِ معتقداتٍ ومفاهيم ومقولاتٍ نِهَائِيَّةٍ، تعلنُ الحرب على أيّة فكرةٍ لا تشبهها، فتنتهي إلى إنتاج نسخٍ متشابهةٍ في الظَّاهر من البشر، وتجييش الجمهور على رأيٍ واحدٍ، وموقفٍ واحدٍ»[37]، وفيها «يفتقدُ الدينُ رسالتَه، بوصفه حياةً في أفق المعنى، عندما ينزلقُ فيهجر مجالَه الروحيّ والأخلاقيّ والجماليّ ويسقطُ في فخِّ الأيديولوجيا. يتحوَّل الدينُ الذي تفترسه الأيديولوجيا إلى أداةٍ للصِّراع على السُّلطة والمال والثروة، وينتهي مصيرُه إلى البؤس الذي انتهتْ إليه الأيديولوجياتُ اليسارية والقومية والأصولية في بلادنا»[38].
… المقالة طويلة تقرأها على هذا الرابط كاملة:
https://altanweeri.net/12720/الد%D9%90ّينُ-في-رداءٍ-رحمانيّ؛-الانهمام-ب/
من المكتبات الشخصية الثمينة مكتبة د. رضوان السيد،كنت أزوره في بيته ببيروت، في زياراتي المتواصلة لهذه المدينة العشرين سنة الماضية.كان رضوان ومازال من أكثر الأصدقاء العرب دراية بالكتب والكتّاب باللغات العربية والألمانية والإنجليزية، ظل يلاحق كلَّ جديد، ويشتري أكثر من نسخة من الكتاب غالبًا، فضلا عن الهدايا التي تصله من دور النشر والمؤلفين والدوريات في لبنان والبلدان المختلفة. رأيته من أكرم الناس بالكتب، في كل زيارة يهديني ويهدي أصدقائه مجموعة من الكتب والدوريات الممتازة. بيته يضيق على الرغم من سعته بما يضيفه من كتب بلغات يتقنها، قبل أكثر من عشر سنوات أخبرني بأنه اشترى مكانًا ببناية في بيروت ليأوي مكتبته. عرض عليّ في أحد زياراتي مشاهدة مكتبته في محلها الجديد، بهرتني المكتبة بتميزها وفرادة ما استوعبته من مؤلفات نوعية، مكتبة نادرة انتقاها عالم وباحث متمرّس في التراث الإسلامي والعلوم الإنسانية، وهو يواصل شغفه بتزويدها بما يستجدّ. بلغ رصيدها من الكتب والدوريات 120000 كتابًا ودورية،كما أخبرني رضوان في اللقاء الأخير بمسقط في المؤتمر الفلسفي لبيت الزبير الثقافي بمسقط شهر أبريل 2024. حكى لي المصير المؤلم لمكتبته الفريدة، بعد ما حدث لبيروت في السنوات الأخيرة من تآكل بنى الدولة المدنية، وانهيار الاقتصاد والنظام المصرفي، واضطراره للهجرة والإقامة في أبوظبي. يقول رضوان: تعرضت المكتبة إلى تسرب شيء من مياه الأمطار إثر تشققات في السطح، فتضررت بعض الكتب، حاولت إنقاذها بترميم سطح البناية، لكن غيابي وإهمال المكتبة، جعلها ضحية تسرب مياه مرة أخرى، فقررت إهدائها إلى مكتبة الجامعة الأمريكية ببيروت وعرضتها عليهم، غير أنهم اعتذروا عن تسلمها على الرغم من نفائسها، لعدم توفر الفضاء الكافي في مخازن الكتب لاستيعاب مكتبة بهذه الضخامة. عرضتها على مكتبة جمعية المقاصد الإسلامية ببيروت فاعتذروا للسبب ذاته. وأخيرًا عرضتها على مكتبة جامعة القديس يوسف "اليسوعية" ببيروت فاعتذروا كذلك. كلهم قالوا: لا يتوفر المكان الذي يتسع لاستيعاب هذه الكمية من الكتب، فضلا عن تراجع استعمال الكتاب الورقي، ما دعاني لعرضها أخيرًا على مكتبة إحدى الجامعات في أبوظبي. هذه المكتبة من أندر المكتبات في نوعية كتبها المنتقاة بخبرة عارف بالكتب والمؤلفين، ولمعرفتي بالتكوين الأكاديمي الرصين لرضوان، وولعه بالقراءة والكتب والكتابة، ومواكبتي السنوات العشرين الأخيرة لنمو هذه المكتبة وتطور رصيدها، وحرصه الدائم على إثرائها. المصير الذي آلت إليه هذه المكتبة، دعاني للتفكير طويلًا بمصير مكتبتي، وهي تعادل ربع مكتبة رضوان.
رابط النشر:
https://alsabaah.iq/99841-.html
لا يترك الرفاعيُّ مفهومَه عن «الأيديولجيا» عائمًا غائمًا لا يمكن الوقوف عليه، لكنّه يؤكِّد على أنّه لا يعني بها - في أي كتاب من كتبه - «علم الأفكار، أي دراسة الأفكار دراسةً علميّة... [وإنّما يعني بها] نظامًا لإنتاج المعنى السياسيّ، يصنع نسيجَ سلطة متشعِّبَة لإنتاج حقيقة متخيّلة، وفقًا لأحلام مسكونة بعالم طوباويّ موهم، [وهي بهذا المعنى] تزييف للحقيقة، وطمس لمعناها عبر حجب الواقع» ، فـ «الأيديولجيّ يُزَيِّف اللغةَ؛ يُحْدِثُ انقطاعًا بين الدالِّ والمَدْلُول، بين القول وبين الواقع الذي يتكلّم عليه» . ومن هنا تأتي خطورتُها بشتى أنواعها وأنماطها وتجلِّياتها – في نظر الرفاعي- من أنّها «نسق مغلق، يُغَذِّي الذهنَ بمجموعةِ معتقداتٍ ومفاهيم ومقولاتٍ نِهَائِيَّةٍ، تعلنُ الحرب على أيّة فكرةٍ لا تشبهها، فتنتهي إلى إنتاج نسخٍ متشابهةٍ في الظَّاهر من البشر، وتجييش الجمهور على رأيٍ واحدٍ، وموقفٍ واحدٍ» ، وفيها «يفتقدُ الدينُ رسالتَه، بوصفه حياةً في أفق المعنى، عندما ينزلقُ فيهجر مجالَه الروحيّ والأخلاقيّ والجماليّ ويسقطُ في فخِّ الأيديولوجيا. يتحوَّل الدينُ الذي تفترسه الأيديولوجيا إلى أداةٍ للصِّراع على السُّلطة والمال والثروة، وينتهي مصيرُه إلى البؤس الذي انتهتْ إليه الأيديولوجياتُ اليسارية والقومية والأصولية في بلادنا» .
تحت ظلال تعريفه الأثير للدين من أنّه «حياةٌ في أُفُقِ المعنى»، يُعْمِل الرفاعيُّ مَعَاوِلَ هَدْمِه ويُلَاحِق كلَّ فكرة تتجاوز بالدين طبيعتَه وغاياتِه الموضوعة له من كونه «نظامًا لإنتاج معنى روحيّ وأخلاقيّ وجماليّ للحياة، تفرضه حاجةُ الكائنِ البشريِّ الأبديَّةُ للمعنى في حياته الفردية والمجتمعيَّة» . ومن ذلك محاولاتُ استراقِه واستلابِه عن طريق أدلجته لدى علي شريعتي، أو تثويره فيما سُمِّي «لاهوت التحرير» لدى حسن حنفي وغيرِه. يشرح الرفاعيُّ «لاهوتَ التحرير»، فيقول إنّه «مصطلح تداوله الباحثون في الستينات من القرن الماضي، وإنْ كان مدلولُه يواكب الأديانَ في مُخْتَلَفِ العُصُورِ، فالأديانُ تسعى إلى مناهَضَةِ الظُّلْمِ والتَّسَلُّط والاستبداد والطغيان... وفي السبعينيّات من القرن العشرين اهتمَّتْ مجموعة من المفكّرين بصوغ رؤيةٍ للمقاومة، تتخطَّى الفقه، وتعمل على الاستناد إلى العقيدة كمنطلقٍ للثورة، بتحليل المدلولِ الاجتماعيِّ لأصول الدين، واستلهام الثورة من العقيدة» .
يُحَدِّثُنَا الرفاعيُّ عن علاقته بحسن حنفي وما أُطْلِقَ عليه «اليسار الإسلامي»، ومن ثَمَّ يُحَلِّلُ أفكارَ مشروعه الأساسية ومنطلقاته الفكريَّة؛ منتهيًا إلى نقدها. يقول: «لاهوت التحرير عند حنفي وشريعتي يختزلُ الدِّينَ في أيديولوجيا المقاومة والثورة، ويطمس الوظيفةَ المحوريَّةَ للدِّين. الدين أعمق من الأيديولوجيا. الأيديولوجيا مظهر وتعبير اجتماعيّان للدين. تحويل الدين إلى أيديولوجيا يعني: اختزال الإنسان في بُعْدٍ واحد، واختزال الروح في القانون، والعقيدة في الثورة، والله في الإنسان، والإلهيّ في البشري، والسماء في الأرض، والغيب في الشهادة، والميتافيزيقا في الطبيعة، والآخرة في الدنيا... وحين يتحوّل الدينيُّ إلى دنيويّ تختلط الحدودُ بينهما، فيجري تعميمُ الفهم الدينيّ لكافَّة حقول المعارف البشرية، وتديين المعرفة في خاتمة المطاف يُفضي إلى التَّضحية بالعَقْلِ والخبرة البشرية المستقلَّة عمَّا هو ديني» .
ورغم ما وجّهه الرفاعي إلى شريعتي من نقد قد يبدو عنيفًا إلّا أنّه لم يُخْفِ إعجابَه بروحه وإيمانه وحسّه الفنيّ، وكان يدرك أنّه ينتقد فيه هذا البُعْد الأصيل من فكره، والخيط الممتدّ في أعماله من ترحيل للدين من سعة الأنطولوجيا إلى ضيق الأيديولوجيا، وأنَّ له أبعادًا أخرى كثيرة قد يقبلها ولا يرفضها. يقول الرفاعي: «تتجلّى في شخصية علي شريعتي أبعادٌ عديدة؛ تتمثّل في: المثقف الرسولي، الداعية النبوي، الأخلاقي، المؤمن، الإنسان، النبيل، الغيور، الشهم، الشاعر، الفنان، الرؤيويّ، الأديب، الناقد، العاطفيّ، العاشق، المتمرد، القَلِق، المُتَبَرِّم، الحالم، الثائر، الفدائيّ... تتداخل في تفكيرِ ومشاعرِ وأحاسيسِ شريعتي عقليةُ الفنَّان، حساسيّات الشاعر، مشاعر العاشق، غيرة المؤمن، ذوق المتصوف، ذوق العارف، أشواق العارف، بوح الشجاع، جسارة المتمرّد، تهوُّر المغامر. وهي أبعاد تبدو متنافرةً؛ ذلك لأنَّها عادةً لا تجتمع كلّها وتتوحَّد في شخصيَّة واحدة بإيقاع كأنَّه متناسق، إلّا في حالات نادرة» .
يصعب جدًّا فهمُ الفلسفة الغربية الحديثة بعقلية أرسطية،كلُّ محاولةٍ للفهم تفكر في إطارٍ معرفي لا ينتمي لعالم مفاهيم الفلسفة الحديثة تفضي إلى نتائجَ تفرضها مقدماتٌ تصورية وبراهين وأشكال قياسات المنطق الأرسطي. وهو ما سقطتْ فيه محاولاتُ جماعة من المهتمين بهذه الفلسفة في معاهد التعليم الديني وغيرها من مؤسّسات التعليم التقليدي والحديث، ممن أتقنوا المنطقَ الأرسطي وتشبّع ذهنُهم بمقدّماته التصورية وبراهينِه وأشكالِ قياساته، وتمرّسوا في استعمالِ أدواتِه في محاججاتهم الفلسفية والكلامية والفقهية والأصولية. هناك خبراءُ ممن يمتلكون تكوينًا أكاديميًّا جادًّا في الفلسفة والمنطق الحديث، لديهم معرفةٌ جيدة باللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية، يتسيّدون المشهدَ الفلسفي في بعض البلدان العربية، ويحتفي بكتاباتهم الغزيرة جامعيون متديِّنون، غير أنهم يتفلسفون على طريقة الغزالي وابن تيمية، فيقدّمون قراءاتٍ موهِمةً ومضلّلة للفلسفة الحديثة، تُلوّنها بألوان مشوّهة، وتُقَوِّلها ما لا تقول، القارئُ الخبير يدرك أنهم يتفلسفون ضدَّ الفلسفة. #عبدالجبار_الرفاعي
https://alsabaah.iq/101765-.html
نفيُ الفلسفة ضربٌ من التفلسف
د. عبد الجبار الرفاعي
عمليةُ التفكير وظيفةُ العقل، العقلُ لا غير هو الحاكمُ على صوابِ أو خطأ نتائجِ أيِّ تفكير. لا العلم ولا اللاهوت ولا الأدب ولا الفن يضع حدودًا للعقل، لا يضع الحدودَ للعقل إلا العقل، إن كانت للعقل حدود. أيةُ محاولةِ نفي للفلسفة تتضمن التدليلَ على حضورِ الفلسفة في النفي مثلما تحضر في الإثبات. نفيُ الفلسفة ضربٌ من التفلسف، حتى الغزالي الذي حاول في "تهافت الفلاسفة" نفيَ الفلسفة أخفق،كما اعترف تلميذه أبو بكر ابن العربي بقوله: "شيخنا أبو حامد بلع الفلسفة، وأراد أن يتقيأها فما استطاع". الفلسفةُ لا تموت ولن تموت مادام هناك إنسانٌ يتساءل الأسئلةَ الكبرى حول المبدأ والغاية والمصير، ولا يجد جوابًا نهائيًا لها.
إيقاعُ التقدّم المتسارع للذكاء الاصطناعي والروبوتات، والتكنولوجيات المتعدّدة التي تتحدث لغةَ #الذكاء_الاصطناعي وبرمجياته، والهندسة الجينية، وتكنولوجيا النانو، يخلقُ طورًا وجوديًّا بديلًا تعيد تكوينَه الأنماطُ المختلفة لصلاتِ الإنسان بالأشياء في المحيط الذي يعيش فيه، وصلاتِ الإنسان بالكائنات الحيّة المتنوعة في الطبيعة، وصلاتِ الإنسان بالإنسان. ينتجُ التقدّمُ المتسارِع حالةَ لايقين شاملة، تطول: القيمَ، والمعتقداتِ، والثقافاتِ، والاقتصاداتِ، والنظمَ السياسية، والسياساتِ المحلية والإقليمية، والعلاقاتِ الدولية، والعلاقاتِ الاجتماعية، وكلَّ شيء في حاضر الإنسان ومستقبله.كلّما تضخّم اللايقينُ واتسعت مدياتُه اتسعَت الحاجةُ لحضورٍ فاعلٍ للعقل الفلسفي. الأسئلةُ الوجودية الكبرى، وأزماتُ العقل والروح والعاطفة ليست من اختصاص العلم، ولا تقع في فضاء المادة والتجربة.
التشديدُ على العلم، واختزالُ العقل والمعقولات والتفكير بحدوده، يشاكس العقلَ الفلسفي، وينتهي إلى افتقار العلم إلى إجاباتٍ لأسئلته الحائرة ومشكلاته العويصة، وكلِّ ما لا يجد له حلًّا في فضائه وسياقاته وحدوده. تختنق المعرفةُ حين توضع في الفضاء الذي يخضع لحدود العلم الطبيعي ومجاله الحسّي خاصة، وحين تعتمد مقاييسَه وأدواته التجريبية ووسائله ومنطقه ولغته وأحكامه. تلك هي أدلجة العلم عندما يتحول العلمُ إلى "أيديولوجيا علموية" تعطّل العقلَ الفلسفي. حدود العلم الطبيعي وحقله يتمثلان في كلّ شيء في الطبيعة والكون المادي، الفلسفة لا حدودَ لها، بوصفها فعلَ تفكير عقلي يتجاوز الظواهر للبحث في حقيقة العلم وماهية المعارف والموجودات.
الفيلسوف يجيب عن سؤالِ المبدأ والمصير، والحياة والموت، وغيرها من الأسئلة الوجودية الكبرى، ويجيب عن كلِّ سؤال خارج العلم بالمعنى التجريبي. لا نهاية للفلسفة، يظلّ الإنسانُ يتفلسف مادامت الحياةُ والموت، وما دامت الأسئلةُ الوجودية التي لا تجيب عنها العلوم. العلم غير الميتافيزيقا، كلُّ سؤال وجواب ميتافيزيقي بالإثبات أو النفي هو تفلسف خارج حقل العلم. عندما يقدّم أحدُ علماء الطبيعية أجوبةً عقلية للأسئلة الوجودية الكبرى، ينتقل تفكيرُه من حقل العلم إلى حقل الفلسفة بهذه الأجوبة. علاقةُ الفلسفة باللاهوت ديناميكية، فمثلما يتغذّى ويتجدّدُ اللاهوتُ بالفلسفة تتغذّى الفلسفةُ وتتسعُ آفاقُها وتتنوّعُ حججُها بالسؤال اللاهوتي. السؤالُ اللاهوتي يبحثُ عن يقينيات لا يظفر بها مهما توالدت الأجوبةُ وتواصلت الاستدلالات، إنه سؤالٌ مفتوح، وكلُّ سؤال مفتوح مَنجمٌ ثمين للتفلسف.كلّما ابتعد اللاهوتُ عن الفلسفة وقع فريسةَ تفشِّي اللامعقول وتغوّل الأوهام. لا يضع اللاهوتَ في حدوده ويمنع تغوّلَ الأوهام إلا الفلسفة، ولا يتجدّد اللاهوتُ إلا عندما يعيد النظرَ في الحقيقة الدينية ويتأملها بعيون فلسفية. لا تداوي الفلسفةُ جروحَ الروح والقلب، العقل الفلسفي مشاغب لمن يمتلك قدرةً ذهنية على إيقاظه بالتساؤل العميق حتى في البداهات. التاريخ والواقع يشهدان بأن الأذكياء جدًّا والعباقرة تعذِّب وعيَهم الأسئلةُ الوجودية الكبرى التي لا جواب نهائي لها، حياة كثير من الفلاسفة كانت تقلقها الأسئلة وتوالدها المتواصل من الإجابات.
شخصيات طفيلية بثياب قديس
د. عبد الجبار الرفاعي
وقعت ضحية عواطفي الحارة وشفقتي الشديدة بالتضامن مع الإنسان الذي يبدو لي سلوكه معذبًا،كان هذا الشعور العميق وما زال يباغتني، وهو شعور تسلّل منه أكثر من واحد من الطفيلين لحياتي الخاصة، واستهلك وقتي الثمين، وأتعبتني نفسيًا مخاتلاته. هذه الحالة كما أنها أحد ثغرات شخصيتي، أعرف أنها واحدة من مزاياها، فلولا الشفقة على الإنسان والعواطف النقية تفتقر الحياة لأحد معانيها الملهِمة، وإن كانت الشفقة الطاغية ثغرة يترصدها الصعاليك الطفيليون بذكاء فيصطادون صاحبها. لا أتحدث عن ضرورة تأمين احتياجات المساكين والبؤساء والضحايا الذين يفرض علينا الضمير الأخلاقي رعايتهم، أتحدث عن الصعاليك والشخصيات الطفيلية في زماننا وليس في العصور السابقة. الصعاليك في عصرنا هم الطفيليون المتسكعون الذين يعتاشون على غيرهم، ويعلنون اغترابهم ونفورهم من الإنسان، والأشياء الجميلة من حولهم، ويكرهون العالم الذي يعيشون فيه، بل يكرهون حتى أنفسهم. الصعاليك مصطلح ظهر في الجزيرة العربية قبل الإسلام، مثّله شعراء تلك الفترة وما تلاها في العصر الإسلامي المبكر، عرفوا بتنكرهم للتبعية لشيخ القبيلة ولقيمها، وهجاء الأغنياء والأشحاء.كانوا يقومون بغارات أوقات الغفلة فينهبون أموال الأغنياء ويوزعونها على البؤساء. اشتهر من هؤلاء الشَّنْفَرَى . عرفوا بالصبر على مرارات الجوع والحرمان، والهروب والعدو السريع عندما يداهمهم خطر، حتى قيل: "أعدى من الشَّنْفَرَى". شخصيات الصعاليك الطفيلية متذمّرة، وجوهها باكية، لا تتفاعل مع أيّ شيء، ولا ترضى بأيّ شيء، تتنكر عاجلًا لكلّ ما يقدّمه الإنسان لها. يتميزون ببراعة استثنائية في إشعار الإنسان الذي يتطوع لرعايتهم مجانًا بالخطيئة، مهما قدّم لهم من طعام وشراب ومأوى ومال ورفق وعطف، يرتاحون عندما يظلّ مَن يكرمهم يشعر بالتقصير والألم، بل يتوقون لأن يشعر بذنب عدم الوفاء بحقوقهم المستلبة من الأهل والمجتمع، ومنه شخصيًا حسب توهمهم. ينفردون بمقدرة لافتة على الابتزاز العاطفي لمن يتحسّسون سرعة تأجيج مشاعره، إن كان هشًّا عاطفيًا يثيرون مشاعره ويوقدونها بغية الإشفاق عليهم، إلى الحد الذي تصرع عاطفتُه عقلَه فيقع في شباكهم، ويصير فريسة لهم، ولو كان ذكيًا. هم من أشطر الناس باستعمال لغة الجسد، وإتقان تعبيرات الوجه، وتوظيف نوع اللباس وكيفيته، وأساليب الحديث الموجز المقنع. ينجذب شديد العاطفة لهم، ويتفننون في استغفاله لسنوات، استمرار العلاقة بهم تورث الاكتئاب. لا يفلت منهم إلا ذوو العقل التساؤلي الذين لديهم خبرة علمية وعملية بهذا النمط من الشخصيات. مثلما يتفق الصعاليك بمشتركات، يختصّ كلّ واحد منهم بعاهاته الشخصية. ليس بالضرورة أن يختلف أو يتفق كليًا في المشتركات العامة هؤلاء الصعاليك في عصرنا مع صعاليك عاشوا في الجزيرة العربية قديمًا، بل كلّ واحد منهم تنفرد شخصيته بما لا يشبه غيره من البشر، حتى من أمثاله الصعاليك. كانت علاقاتي قبل أكثر من 40 سنة واسعة متنوعة عشوائية، حاكمت نفسي أكثر من مرة بصرامة على هذه الفوضى في العلاقات، غير المنتِجة روحيًا وأخلاقيًا ومعرفيًا، فقمت بشذيبها منذ ذلك الوقت بالتدريج من الصعاليك والشخصيات الطفيلية، التي كانت تستنزف وقتي وطاقتي، وتعكر مزاجي بتوهمها أني وغيري مخلوقون لخدمتها مجانًا. منذ ذلك التاريخ لم أعد أتحمس لبناء أية علاقة جديدة بأيّ إنسان من هؤلاء، إلا إذا كان هذا الإنسان شخصية أخلاقية، يتميز بعواطفه الصادقة وذوقه وتهذيبه ومعرفته. العلاقات بالصعاليك والشخصيات الطفيلية كنت أتورط فيها بشبابي فتورطني، تستنزف وقتي وتشتّت ذهني وتعطلني عن أعمالي. بمرور الزمن أصبحت إرادتي أصلب وشجاعتي تتغلب على خوفي من الناس وتوهمي أن المجتمع يعاقبني عندما أكون حازمًا أحمي ذاتي من اختراق هؤلاء المتسكعين. لم تعد أية علاقة بأيّ إنسان من أمثال هؤلاء تغويني، وفشلت محاولات المتطفلين والمشغولين بالثرثرة في مصادرة حياتي.
#عبدالجبار_الرفاعي
#الصداقة
#الشخصية_الطفيلية
تتمة المقال على هذا الرابط:
https://alsabaah.iq/100219-.html
فيلسوف المعنى عبد الجبار الرفاعي؛في ضوء كتابه “مقدِّمة في علم الكلام الجديد”
د. كوثر فاتح
تقدم هذه الورقة البحثية قراءة مركبة للمشروع الفكري لعبد الجبار الرفاعي كما جاء في كتابه: “مقدمة في علم الكلام الجديد”، إذ تنطلق الورقة من فكرة أنّ هذا الكتاب هو أكثر كتابات الرفاعي إفصاحًا عن ثورته الناعمة على التحجر والانغلاق في الفكر الإسلامي. بعد وقوف الرفاعي عند الحاجة الانطولوجية للإيمان، وتأكيده على الأسس الميتافيزيقية للوجود الإنساني، ودعواه إلى “أنسنة إيمانية” جديدة، وبناء مشروع تأويلي معاصر؛ يذهب الرفاعي في كتابه هذا إلى زعزعة ثوابت عِلْم ميّز الفكر الإسلامي وابتنى عليه وهو علم الكلام، يفسّر من خلال ذلك الرفاعي الانتكاسة الفكرية للحضارة الإسلامية. عندما نقرأ للرفاعي هذا الكتاب وغيره نراه يقوم بانتفاضة تأويلية بأدوات إبستيمولوجية وغايات إيمانية لتحقيق “ثورة المعنى”، الذي يشدد الرفاعي على ضرورة استحضاره في التفكير الديني اليوم. نكتشف من خلاله أن الرفاعي “فيلسوف معنى”، كما يعبر كتابه هذا عن ذلك، وما يؤسس له في تعريفه الذي ينفرد فيه للدين. الشغف باكتشاف المعنى في الدين هو الهمُّ الذي يتحكم في منهج الرفاعي لفهم رسالة الدين في الحياة، وتفسير القرآن الكريم وكل النصوص الدينية. في بحثنا هذا، نميل للقول ان الرفاعي يسعى لاكتشاف “المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي” حيث وجده في الدين ونصوصه. ويجعل من هذا المعنى منطلقًا للفهم، ويضعه ميزانًا لكل ما يقبله من الموروث؛ ذلك هو رهان كتابه: “مقدمة في #علم_الكلام_الجديد”… تحضر عند الرفاعي لغة السرد بقوة أيضا، ويستسلم كثيرا للاعتراف، دون أن يغرق كتاباته في بحور التبشير الديني، بل على العكس من ذلك، تحضر النزعة العقلانية النقدية بقوة أحيانًا، إذ تستنفرنا في كتاباته انتفاضة ومقارعة للأطروحات المتحجرة والآراء الراكدة. على هذا الأساس لا يمكن أن تقرأ كتابات الرفاعي إلا ضمن ازدواجية الدين والفلسفة. قد يكون للمرجعية التكوينية للرفاعي سبب في ذلك، فهو يجمع في زواج سعيد بين الفكر اللاهوتي والفلسفي، والدراسة الحوزوية والأكاديمية، وقد تكون لمهنة التدريس دورها أيضا في انصرافه غالبا إلى أسلوب الحوار الذي يتيح له التحرر من سيولة الكتابة الأكاديمية، باتجاه بينذاتية الخطاب المتبادل، لذلك تبدو كتابات الرفاعي سلسة بنكهة عذبة، وإن تكررت بعض الأفكار هنا وهناك. إنّ قلق العقل وكثافة السؤال إذن أهم ما يميز فكر الرفاعي.
الرفاعي مسكونٌ باكتشاف المعنى في الدين أكثر من شغفه بالعقل. يبدو أن الخيط الناظم في كتاباته هو الإنسان وليس الدين،كما قد توحي بذلك قراءة أولى لما يكتبه، فما الدين عنده إلا ما ينشده من المعنى الذي يثري به حياة الإنسان. نقرأ ما يقوله في كتابه الأخير الدين والكرامة الإنسانية: “هذا الكتابُ محاولةٌ في فهمِ الإنسان أولًا، ومعرفةِ شيءٍ من طبيعته، واكتشافِ احتياجه لمعنى وجوده، والوقوفِ على شيءٍ من الدوافع المتضادّة لسلوكه ومواقفه. لا يمكن أن نفهمَ الدينَ قبلَ أن نفهمَ الإنسانَ، وحاجةَ الإنسان لمعنى لحياته، وحاجتَه للكرامة… في كل هذا الكتاب وغيره من أعمالي، اعتمدت المعيار الذي أفهم فيه الدين بوصفه حياة في أُفق المعنى، تفرضه حاجة الكائن البشرية الوجودية لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي لحياته الفردية والمجتمعية”… إن #عبدالجبار_الرفاعي “فيلسوف معنى”، وفيلسوف المعنى يختلف عن “فيلسوف المنهج”. يحضر السعي لاكتشاف المعنى في الدين في كل كتاباته بكثافة، ففي تعريفه للدين يحيل اليه بوصفه: “حياة في أُفق المعنى” حسب فهمه، مثلما يحيل إلى “المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي” لوظيفة الدين، وأن المعنى هو الأُفق لانتظار الإنسان من الدين، ويضع الرفاعي الكشف عن هذا المعنى غاية كل عملية تجديد للدين، كما يضعه معيارًا لاختبار قيمة وراهنية أي فهم للدين وتفسير لنصوصه يواكب الحياة وتقدمها.
تتمة الورقة على هذا الرابط:
https://altanweeri.net/12837/%d9%81%d9%8a%d9%84%d8%b3%d9%88%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d9%86%d9%89-%d8%b9%d8%a8%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%a8%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%81%d8%a7%d8%b9%d9%8a%d8%9b%d9%81%d9%8a-%d8%b6/
في الدين الحقيقةُ واحدةٌ في ذاتها، إلا أنها نسبيةٌ في معرفتها. نسبيةٌ بمعنى تنوعِ وجوهها، وتتعدّدِ الطرقُ إليها، ويختلفُ تصوّرُها باختلاف الطرق الموصلة إليها. يحتكرها مَنْ يقول بأن الطريقَ إليها واحدٌ لا يقبلُ التعدّد، عندما يرى كلَّ طريق آخر، خارج ما يؤمن به، لا يوصلُ إليها. يعودُ هذا الموقفُ إلى فهمٍ لا يقبل التنوعَ في إدراك صور الله. التصوّرُ المتعدّد لإدراك الحقيقة الدينية ينشأ من القولِ بتنوع إدراك صور الله، وعدمِ احتكار طرق الوصول إليه بطريق واحد. يرى هذا القولُ الأديانَ طرقًا تتكشف فيها تجلياتٌ متنوعة للحقيقة الدينية، يقرأ فيها كلُّ دينٍ تعبيراتٍ متنوعة لوجوه هذه الحقيقة، ويتخذ أساليبَه الخاصة للتعبير عنها. على أساس هذا الفهم يمكن القولُ بتنوع طرق الوصول إلى الله. هذا هو معنى الاعتراف بحقّ الاختلاف في المعتقد، الذي هو أساسُ قبول التعدّدية الدينية والعيش المشترك.
تفسيرُ القرآن وكلّ الكتب المقدّسة في الأديان، أفهمه فلسفيًّا بوصفه تحقّقًا أنطولوجيًّا لذاتٍ تمارس الفهم. الفهمُ ضربٌ من ظهور الموجود وانكشافه، إنه تحقّقٌ للذات بطور وجودي جديد. تكرارُ الفهم ذاته في كلّ زمان تعبيرٌ عن تكرارِ الموجود لذاته، وتعطّلِ حركته الجوهرية وصيرورته الوجودية. وهذا يعني توقفَ توالد المعرفة ونموّها، بعد أن يكفَّ الفهمُ عن التعدّد والتنوع. تكرارُ فهمٍ واحد لآيات الكتاب الكريم في كلِّ زمانٍ ينتهي إلى تكرار المعرفة. تكرارُ المعرفة يعني توقّفَها، وتوقّفُها يعني غيابَ آيات الكتاب عن مواكبة الواقع المتغير، وجفافَ منابع إلهام المعنى الديني الذي تتطلّبه الحياةُ في مختلف الأزمان والأحوال والوقائع. تتمة المقال على هذا الرابط: https://marasid.net/ar/articles/207
إن الرفاعي يسعى لإعادة تشكيل فهمنا للدين، ويحاول حصار التأويلات التيتفضلها المجموعات المتطرفة، والتي تدعو للموت وتقيم دعوتها على النصوصالمقدسة، ويبين من خلال كتاباته المتنوعة؛ قدرتنا على مزاحمة هؤلاء بتأويلاتأخرى ممكنة، ليمد فيها الدين الإنسان بمعنى مرن وواسع وجديد للحياة، بدلتمجيد ثقافة الموت.
والجدير بالذكر أن عبد الجبار الرفاعي انتقد بشدة تناولنا لمفاهيم الوحيبذهنية كلامية قديمة، واعتبر في الكثير من مقالاته أننا بحاجة إلى إعادةاكتشاف مفاهيم الوحي خارج الذهنية التقليدية، والرجوع للحس التاريخي فيالتعامل مع الكثير من المقولات الكلامية التي تأسست في ظل الصراعالتاريخي بين الفرق الكلامية الإسلامية، واعتبرتها عقائدا نهائية، وفي غايةالدوغمائية، وحقائق كاملة لا تقبل النقاش لدى المؤمنين بها، والسبب الأساسفي ذلك أنهم لم يستوعبوا تدخل الصراعات السياسية والنزعات النفسيةوالثقافية في تشكلاتها وتفعليها. فهؤلاء يرونها وحيا مقدسا، وسنة متبعة، وفهماصحيحا، ويقفز هؤلاء على بقية الجزئيات الأخرى. ولا يهم في الأخير لتحققهذا الفهم المأساوي للدين وعقائده، لأي معسكر ينتمي هذا المؤمن أو كيفتشكلت طائفته.
ختاما وباختصار، يعكس عبد الجبار الرفاعي من خلال عمله ومناقشاتهالفكرية التزامه بتحقيق التجديد في فهم الإسلام وتطبيقاته في العصرالحديث، من خلال البحث عن حلول تجمع بين القيم التقليدية والتحديثية، لبناءمجتمعات إسلامية مزدهرة ومتقدمة، وعقل إسلامي متسم بالنقد، وقادر علىالتفاعل والإبداع والمنافحة عن التصور الإسلامي عن الكون والحياة. ربما بهذاالفهم - وهذا البناء إن تحقق- يستعيد العقل المسلم الإرادة لينخرط كجزء فاعلفي هذا العالم، وليس جزءا منفعلا وفقط، قادرا العطاء والمنافسة على الخير،يقدم شبكة من المفاهيم والتصورات التي تعيد للإنسانية كرامتها، وتنميالضمير الأخلاقي الإنساني باتزان مسدد بالوحي، دون هيمنة للرؤية الماديةعلى كينونته، ليسمو الفرد والمجتمع، متدرجا في سلم الكمال، وهو ما يعبر عنهالباحث بالحيز العمودي نحو الله سبحانه وتعالى، وما يصدر عنه من عطاياومعاني ودلالات، بدل الانزلاقات التي وقعت فيها الفلسفة المعاصرة بحداثتها،والتي حشرت الوجود الإنساني في حيز أفقي ضيق، حتى أضحى الإنسان إلهنفسه، شكله بذاته في لحظة ذهول عن الحقائق الميتافيزيقية، وهذا ما يفسرتيهه المستمر واضطرابه الفلسفي والعقدي والسلوكي.
https://altanweeri.net/12773/%d8%b9%d8%a8%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%a8%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%81%d8%a7%d8%b9%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d8%b3%d8%a8%d8%b9%d9%8a%d9%86%d9%8a%d8%aa%d9%87%d8%9b-%d9%85%d9%86-%d8%a3%d8%b1%d8%b6/
عبــد الجبــار الــرفاعي ووعيه الاعتدالي لمعادلة الوطن والدين
د. محمد نعناع
هو "كائــن ميتــافيزيقي"، لذلك عنده المعنى أهم من الحس، ولهذا يعيشهادئاً، ليس منزويا بل هادئا في خارجه وعاصفا في داخله، ومنبع عواصفهالداخلية يأتي من إدمانه القراءة وشغفه بها حد الظن بأنه يساويها مع العبادة،هو متطور في فكره بموازاة ثباته في التزامه بدينه، مضيء في فكره أيضا،لذلك يُحب أن يرى الله نورا على نور، يعشق العمق لأنه يُنتج الجرأة، وكارهللرثاثة، لإنها تُشوه العلم وتُعزز الكراهية.
هو أحد الرافضين للمنبهرين بالزبد، لأنه يهتم بما يمكث في الأرض، وأكبرالمعترضين على مروجي الدوغما، فهو يمقت التبعية والطاعة العمياء، وبهذاانتقل من كونه مفكرا دينيا عبر تحولات موضوعية إلى أن يكون منظرا إنسانياخلّاقا، وإن صيرورته منصة إبداعية ذاتية تحفيزية وليست تلقينية، جاء بسببحساسيته من الواقع واستجابته لمتغيراته، وهذا ما سيجعل منه حالة فريدة فيالفكر الإسلامي، وفي معادلة الوطن والدين، أو ثنائية الجغرافيا والمعتقد.
أبدع الرفاعي في مجال التطور الاعتدالي بين أن يرسخ "الظمأ الانطولوجي" ويغادر "الاجترار الفقهي" التقليدي، لقد أثبت لنفسه ثم للآخرين بأن التفوقيمر عبر التطور المعرفي، فهو يُضيف ويعدل باستمرار على كل ما يكتبه، وكلطبعة جديدة من كتبه تجد فيها تغييرا وإضافة بما نسبته أكثر من 20% منمضمون الكتاب، وهذا ما سيجعل منه مفكرا ديناميا مؤثرا، وما بدأه من (الدينوجوديا) فقد أنهاه بانصهار (الدين في الكرامة)، وما بينهما رفدنا "بـــــــالغربةالميتافيزيقية" و"بـالنزعة الإنسانية"، فهذا هو الدين في وعيه، وهو ما يجعلهيتطور ويعتقد بأنه يُطور الآخرين، على الرغم من أنه ليس تبشيريا بل منطقياإقناعيا.
في بواكيره كان متعلما على سبيل نجاة، وأصبح الآن باحثا على سبيل نجاة،ولذلك أراد أن يصنع [علم كلام جديد] فهو يعتقد بأن الكلام القديم ليسإنسانيا بل لاهوتيا محضا، وفي (مفارقاته وأضداده) و(مسراته ومخاضاته)،وهما خواتيمه الفكرية والشخصية، انبعث منه دفق اعتدالي يمكن وصفه بأنهفتحُ لأفق أوسع، أرحب من الأيديولوجيا.
حاجة الواقع المليء بالمنغصات المعيشية المهيمنة على العقليلة الشبابية لمفكرٍكالرفاعي ستبدو حاجة في صميم الوعي، وإن أي محاولة لصناعة رأي عاممعتدل متجاوز للمقولات الطوائفية ومفارق للتبعيات الدوغمائية يجب أن نجد فيقلبها عبد الجبار الرفاعي وأمثاله، فهم الضرورة المُطورة لأجيال المتحفزينالمقيدين بقيود المجتمع وللمحبطين المتلكئين في منتصف الطريق.
https://altanweeri.net/12799/%d8%b9%d8%a8%d9%80%d9%80%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%a8%d9%80%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%80%d8%b1%d9%81%d8%a7%d8%b9%d9%8a-%d9%88%d9%88%d8%b9%d9%8a%d9%87-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b9%d8%aa%d8%af%d8%a7/
الإشعاع الإيماني تذوق جمال واستغراق في حب
عبداللطيف اقويدر، كاتب جزائري.
يُبْنَى الإشعاعُ الإيماني الإنساني في مشروع #عبدالجبار_الرفاعي على دعائم ثلاثةٍ: تذوق جمالٍ، واستغراق في حب، وتعبير بفنٍّ، ويُعْلِمُك أنَّ ضميرِه الديني قائمٌ على دعائم ثلاثة "إيمانٍ وأخلاقٍ وإنسانية"… يسعى الرفاعي إلى أن تكون غايةُ مشروعه: "تحقيقَ السعادة" للإنسان، وتكمنُ سعادة الإنسان في شعوره بأنَّه محبوبٌ لذاته، وأغلبُ ما يكون شقاءُ الإنسان نابعاً من الإنسان، لا عن تعمُّدٍ بل عن غفلةٍ وأحياناً عن قلَّة ذوقٍ، فتتوتَّر العلاقات وتتشنَّج وتتصلَّبُ بلا سببٍ وجيه، لذا يحدثك الرفاعي ويستثمر في مثل هذه الحال في "الذكاء العاطفي"، يراه عقلاً ذكيّاً في إدارة العلاقات، بما لا يُزعج الآخر، وـ يعلِّمك ـ إتقان الكلمات الدَّافئة، والمواقف الأخلاقية في التعامل مع الناس (10)، ويُصحح الرفاعي بالذكاء العاطفي حقيقة الإنسان العاطفي الذي هو ليس بالضَّرورة الذَّكيُّ العاطفي، فقدْ يكونُ العاطفي فجّاً سليطَ اللسان (11)، بخلاف الذكيِّ العاطفي الذي له اللَّباقةُ العفويَّةُ، والكلمةُ البلْسمُ... يحدِّثُك عن هذا عبد الجبار الرفاعي رجلُ الدين، أو المثقفُ الديني كما يرتئي أن يسمِّيه، يحدثك بسلاسةٍ وتمكُّنٍ كأحدِ الاختصاصيين النَّفسانيين ثمَّ في الوقت نفسه يحدثك كأحد رجال القانون، فهو وإنْ أطلق العنان لتنمية المشاعر والعواطف وتشذيبِها عبر الذكاء العاطفي، فإنَّه أيضاً يستحضرُ وعيَهُ الصَّارم في المواقف الحادَّة التي تتطلَّبُ الكيَّ، فيقول: "لا تتأسَّسُ المجتمعاتُ والدول على الحبِّ وحده، أو الرَّحمة وحدها، أو الشفقة وحدها، أو العطاء وحده. لا تعني الدعوة للحب إلغاء النظم التربوية والتعليمية والإدارية والقضائية والسياسية، ولا النظم والقوانين لبناء الدول.. لا تعني الدعوة للرحمة إلغاء القوانين الجنائية والجزائية"(12)، فهو يتماهى مع العاطفة الإنسانية، ويريدُها أصلاً في العلاقات الإنسانية، لكنَّه واعٍ بالطبيعة البشريَّة التي تجنح للتمرّد، فيُلجمها حينئذٍ بالشريعة والقانون والأنا الأعلى.. هذا هو الأنموذج الجديد النادر ندرة المعادن النادرة؛ ولذا فقد ارتفعت شهاداتٌ واعترافاتٌ لأساتذةٍ وأكاديميين ومثقفين تُقرُّ بأصالة منجز عبد الجبار الرفاعي، فهذا الأستاذ الدكتور عبد الجبار عيسى السعيدي يقول: وقد كتبت للرفاعي ذات مرة منوهاً بقدراته الإبداعيّة: (لعلِّي لا أبالغ إن قلت بأن عملكم الكبير"الدين والظمأ الأنطولوجي" يتمثل في كونه واحداً من أهم تمثلات الحكمة والعقل المعاصرين. إن لكل زمن تمثلاته الفذة، هذه القاعدة التي لا يريد البعض، لضعف أو لحسدٍ، أن يقبل بها، فالحكمة لم تنتهِ عند ابن عربي أو ابن رشد أو ملا صدرا) (13)، وهذه الدكتورة حميدة القحطاني تقول عن قراءتها كتب الرفاعي: "تنعش روحي وتلامس قلبي وتثير فكري وتساعدني على إيقاظ ذهني"، وتقول: "أقرأ كتب الرفاعي على الدوام كي أرفع مؤشر المعنى في أيامي" (14)، ويرى الأستاذ مشتاق الحلو أنَّ منجز الرفاعي ومشروعه يمثل منهجاً متكاملاً وطريقاً ثالثةً مستقلَّةً في الرؤيا، يقول: "الرفاعي صاحب التفسير الثالث والبديل الديني المختلف عن تفسير الحوزة، وتفسير الجماعات الإسلامية للدين" (15)، أما الدكتور محمد حسين الرفاعي، فشهد بأنَّ منجز عبد الجبار الرفاعي ثورة فكريَّة في الخطاب الديني، من داخل الخطاب الديني، وشبَّهه بِـ "ابن حيان التوحيدي" في التصوف العقلي أو العرفان الفلسفي (16)، وأما الدكتور ياسر عبد الحسين فقد خلع عليه لقب "سبينوزا" في مقال له بعنوان: "سبينوزا العراقي: إعادة بناء مفهوم الوحي عند الرفاعي"…
تتمة المقال على هذا الرابط:
https://alsabaah.iq/100382-.html
وقعت ضحية عواطفي الحارة وشفقتي الشديدة بالتضامن مع الإنسان الذي يبدو لي سلوكه معذبًا،كان هذا الشعور العميق وما زال يباغتني، وهو شعور تسلّل منه أكثر من واحد من الطفيلين لحياتي الخاصة، واستهلك وقتي الثمين، وأتعبتني نفسيًا مخاتلاته. هذه الحالة كما أنها أحد ثغرات شخصيتي، أعرف أنها واحدة من مزاياها، فلولا الشفقة على الإنسان والعواطف النقية تفتقر الحياة لأحد معانيها الملهِمة، وإن كانت الشفقة الطاغية ثغرة يترصدها الصعاليك الطفيليون بذكاء فيصطادون صاحبها.
لا أتحدث عن ضرورة تأمين احتياجات المساكين والبؤساء والضحايا الذين يفرض علينا الضمير الأخلاقي رعايتهم، أتحدث عن الصعاليك والشخصيات الطفيلية في زماننا وليس في العصور السابقة. الصعاليك في عصرنا هم الطفيليون المتسكعون الذين يعتاشون على غيرهم، ويعلنون اغترابهم ونفورهم من الإنسان، والأشياء الجميلة من حولهم، ويكرهون العالم الذي يعيشون فيه، بل يكرهون حتى أنفسهم. الصعاليك مصطلح ظهر في الجزيرة العربية قبل الإسلام، مثّله شعراء تلك الفترة وما تلاها في العصر الإسلامي المبكر، عرفوا بتنكرهم للتبعية لشيخ القبيلة ولقيمها، وهجاء الأغنياء والأشحاء.كانوا يقومون بغارات أوقات الغفلة فينهبون أموال الأغنياء ويوزعونها على البؤساء. اشتهر من هؤلاء الشَّنْفَرَى . عرفوا بالصبر على مرارات الجوع والحرمان، والهروب والعدو السريع عندما يداهمهم خطر، حتى قيل: "أعدى من الشَّنْفَرَى".
شخصيات الصعاليك الطفيلية متذمّرة، وجوهها باكية، لا تتفاعل مع أيّ شيء، ولا ترضى بأيّ شيء، تتنكر عاجلًا لكلّ ما يقدّمه الإنسان لها. يتميزون ببراعة استثنائية في إشعار الإنسان الذي يتطوع لرعايتهم مجانًا بالخطيئة، مهما قدّم لهم من طعام وشراب ومأوى ومال ورفق وعطف، يرتاحون عندما يظلّ مَن يكرمهم يشعر بالتقصير والألم، بل يتوقون لأن يشعر بذنب عدم الوفاء بحقوقهم المستلبة من الأهل والمجتمع، ومنه شخصيًا حسب توهمهم. ينفردون بمقدرة لافتة على الابتزاز العاطفي لمن يتحسّسون سرعة تأجيج مشاعره، إن كان هشًّا عاطفيًا يثيرون مشاعره ويوقدونها بغية الإشفاق عليهم، إلى الحد الذي تصرع عاطفتُه عقلَه فيقع في شباكهم، ويصير فريسة لهم، ولو كان ذكيًا. هم من أشطر الناس باستعمال لغة الجسد، وإتقان تعبيرات الوجه، وتوظيف نوع اللباس وكيفيته، وأساليب الحديث الموجز المقنع. ينجذب شديد العاطفة لهم، ويتفننون في استغفاله لسنوات، استمرار العلاقة بهم تورث الاكتئاب. لا يفلت منهم إلا ذوو العقل التساؤلي الذين لديهم خبرة علمية وعملية بهذا النمط من الشخصيات. مثلما يتفق الصعاليك بمشتركات، يختصّ كلّ واحد منهم بعاهاته الشخصية. ليس بالضرورة أن يختلف أو يتفق كليًا في المشتركات العامة هؤلاء الصعاليك في عصرنا مع صعاليك عاشوا في الجزيرة العربية قديمًا، بل كلّ واحد منهم تنفرد شخصيته بما لا يشبه غيره من البشر، حتى من أمثاله الصعاليك.
كانت علاقاتي قبل أكثر من 40 سنة واسعة متنوعة عشوائية، حاكمت نفسي أكثر من مرة بصرامة على هذه الفوضى في العلاقات، غير المنتِجة روحيًا وأخلاقيًا ومعرفيًا، فقمت بشذيبها منذ ذلك الوقت بالتدريج من الصعاليك والشخصيات الطفيلية، التي كانت تستنزف وقتي وطاقتي، وتعكر مزاجي بتوهمها أني وغيري مخلوقون لخدمتها مجانًا. منذ ذلك التاريخ لم أعد أتحمس لبناء أية علاقة جديدة بأيّ إنسان من هؤلاء، إلا إذا كان هذا الإنسان شخصية أخلاقية، يتميز بعواطفه الصادقة وذوقه وتهذيبه ومعرفته. العلاقات بالصعاليك والشخصيات الطفيلية كنت أتورط فيها بشبابي فتورطني، تستنزف وقتي وتشتّت ذهني وتعطلني عن أعمالي. بمرور الزمن أصبحت إرادتي أصلب وشجاعتي تتغلب على خوفي من الناس وتوهمي أن المجتمع يعاقبني عندما أكون حازمًا أحمي ذاتي من اختراق هؤلاء المتسكعين. لم تعد أية علاقة بأيّ إنسان من أمثال هؤلاء تغويني، وفشلت محاولات المتطفلين والمشغولين بالثرثرة في مصادرة حياتي.
#عبدالجبار_الرفاعي
#الصداقة
#الشخصية_الطفيلية
رابط نشر المقال:
https://alsabaah.iq/100219-.html
رجلٌ يلوّحُ بالحلول؛ تحيَّة للدكتور عبد الجبار الرفاعي في عامه السبعين
د. عبد الحميد الصائح
كأني اكتشف رجلاً يحمل بيده حدائق ملونة ويلوّح بالحلول، في أكثر منطقة وعرة محرمة مقفلة في حياتنا على الاطلاق، أزمة العقل وأزمة الدين في عالمنا العربي تحديدا، منطقة النزاع الذي لم ولن يحسم بين الايمان والالحاد بين المادية والمثالية، بين الدين اليومي ودين الرهبان. وهي معادلات حكمت طروحات كثيرة في سياق محنة الحوار وتراكم الأدلة والمعلومات والخلافات التي تقع بين حقلين متلاصقين متباعدين!
يقدم #عبدالجبار_الرفاعي رؤيا جديدة لفلسفة الدين، تعتمد العقلَ في بحث وتحليل المقدسات والمعتقدات والظواهر الدينية وتفسيرها، بدل قطعان التوحش والتطرف التي بدأت تخرج لنا من النصوص وتفسيراتها العنيفة. ليقرر بشجاعة أنّ الدين لا يمكن أن يكون ايديولوجيا، وانه خيار بشري، وسعي ذاتي يبدأ من الانسان باتجاه الغيب وليس العكس. انه خيار وجودي وليس انتساباً غرضياً، وهو ينطوي على تمجيد للحياة والخير، أكثر من الفهم المغلوط الذي يرى الدين دائما حديثاً في الموت. تصبح مهمة الرفاعي هنا البحث تحت مظلة (معنى الوجود في هذا العالم)، وليس (البحث عن سبب الوجود في العالم) وهما مظلتان مختلفتان بين طاقة الابداع والحب الالهي العميق في فضاء الاولى، وقيود الجدل الوجودي المستهلك المغلق مع شحة الأدلة عن الاثبات والنفي تحت المظلة الثانية.
وإعادة تعريف الدين الى منطقته البدائية الروحية الأولى بوصفه ارتواء بعد ظمأ، بدل مهمة تسيس الدين الذي أفلت من مداره الطبيعي ليدخل في مدار التوظيف والتخويف والعنف، حتى يكاد يكون عبئا على الانسان، لا متنفسا وسلاما داخليا له. وحقن شراسة الاختلاف بوحدة الهدف وواحدية الحقيقة، فالحقيقة واحدة في ذاتها الا انها نسبية في معرفتها حسب علم الكلام الجديد الذي يتبناه الرفاعي وينظّر له. كان الرفاعي أبعد من باحث، كان محاربا من أجل انقاذ الانسان والدين معا من القطيعة وانحراف الهدف. فلسفة الرفاعي الجريئة لم تكن دعوة دينية معتادة، بل بحث عن عقد روحي آمن، في عالم من الخيال الحر في حضرة الخالق، الخالق الذي لا يمكن لأحد كشف أسراره وعالمه…
تتمة المقالة على الرابط:
https://altanweeri.net/12740/%d8%b1%d8%ac%d9%84%d9%8c-%d9%8a%d9%84%d9%88%d9%91%d8%ad%d9%8f-%d8%a8%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%84%d9%88%d9%84%d8%9b-%d8%aa%d8%ad%d9%8a%d9%8e%d9%91%d8%a9-%d9%84%d9%84%d8%af%d9%83%d8%aa%d9%88%d8%b1-%d8%b9/
مناقشة أطروحة دكتوراه في جامعة بغداد حول النزعة الإنسانية في الفكر العربي عند: عبد الرحمن بدوي، محمد أركون، حسن حنفي، عبد الجبار الرفاعي
نوقشت يوم الخميس 26-4-2024 اطروحة دكتوراه بعنوان: "النزعة الإنسانية في الفكر العربي عند: عبدالرحمن بدوي، محمد أركون، حسن حنفي، عبدالجبار الرفاعي"، قدمها حسين علي منصور الى قسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة بغداد، وأجيزت بتقدير جيد جدا.
https://almothaqaf.org/e4/976684-مناقشة-أطروحة-دكتوراه-حول-النزعة-الإنسانية-في-الفكر-العربي
الدِّينُ في رداءٍ رحمانيّ؛ الانهمام بالإنسان في فكر عبد الجبار الرفاعيّ
عبد العاطي طلبة
لا يتجاهل الرفاعيُّ الشرَّ الدينيّ الكائنَ في العالَم، فهو مهموم به انهمامَه بالإنسان ذاته في مأساته الخاصّة، لذا فإنّه يدرك أنّ المقدّس قد يكون مصدرًا جامحًا للشر الأخلاقيّ، فيقول: «مَنْ يريد أن يُعلِّم الناسَ الحياةَ يمكنه استثمارُ الدين، كما يمكن استغلالُ الدين ممن يريد أن يُعلِّم الناسَ الموت، وهو ما تفعله الجماعاتُ المتشدّدة العنيفة في كلِّ الأديان… يمكن أن يكون التَدَيُّنُ عنيفًا، حين لا يُفهم الدين إلا بوصفه رسالةً للموت، ولا تُقرأ نصوصُه إلا قراءةً مغلقة عنيفة، ويتمثَّله الأفرادُ والجماعاتُ على أنه إعلانٌ لحرب لا تنقضي على كلِّ مختِلف في المعتقد»[28]. ومن أجل ذلك عمل على تجفيف تلك المنابع التي يمكن من خلالها أن يتفشّى هذا النوع من الشرّ المعتمد في وجودِه أساسًا على الدِّين وفكرة المقدَّس؛ ومن هنا جاء تعبيرُه «إنقاذ الإنسانيّة في الدِّين».
يبحث الرفاعي في الكراهية والمصادر التي تشتقّ منها مفاهيمَها الخاصّة، ويرى التراثَ الإسلاميَّ الكلاميَّ والفقهيَّ منبعًا تَستقي منه، لذا دعا إلى ضرورة التحرّر من أسرِه العنيف عن طريق التعامل معه بوصفه استجابةً لمرحلة زمانيّة بعينها؛ لا يمكن تمريرُها وتسليط منطقها الخاصّ على جميع الأزمنة الإنسانيّة الأخرى، إذ ليس التراثُ إلّا «مجموعةَ الممارسات الدينيَّة والعقائد والمفاهيمِ السَّائدة في حقبةٍ مُعَيَّنَة من حياة المسلمين، وهو مفهوم ثقافيّ أنثروبولوجيّ، لذا فالمجال مفتوح أمام المُتَأَلِّهين المسلمين في كلّ زمانٍ لنقد ذلك التراث وتفكيكِه، إذ بوسعهم غربلة ونقد المسلَّمات والمسبقات والميول، ومقدّمات فهم الكتاب والسنة، والتطلّعات الدينية الموروثة من عصور سالفة»[29]. وللمحافظة على جذوة الإيمان متّقدةً، فإنه يدعو إلى إيمان نقديّ يمتلك قدرةَ تَجَاوُزِ الكمِّ التراكميِّ من الشروح والتأويلات المُتَوَلِّدة عن مُجْريَات التاريخ وأحداثه.
كما يدعو الرفاعيُّ إلى وجوب تطهير اللغة من عنف ألفاظِها المتراكمة عبر التاريخ، والتي يستعملها آحادُنا في أحاديثه اليومية دون دراية؛ يقول: «تطهير اللغة من الكلمات والمصطلحات القدحيّة المشبعة بالتشهير بالآخر ضرورةٌ يفرضها عنفُ الواقع، الذي يضجُّ بالاحتراب والصِّراع الدينيّ والطائفيّ، وينبغي أنْ تتَّسع عمليةُ تطهير اللغة من العنف لتشمل المقررات الدراسية في سائر مراحل التعليم»[30]. ليس الأمرُ تطهيرَ اللغة ممّا تراكم فيها من تراكيب وأساليب تتوسَّل التعبير في العنف الكامن فيها فحسب، لكن لا بدّ من التجديد فيها أيضًا، والانتقال عنها إلى غيرها، إذ يتحتّم علينا الانتقال بها من لغة الفقهاء والمتكلِّمين القديمة إلى لغة أخرى حديثة تبتعد عن ألغاز القديمة ومعمياتها، إلى لغةٍ «تستقي من المكاسب الجديدة للمعارف والعلوم والفنون والآداب، وتعبّر عن الفهم الجديد للطبيعة الإنسانية، وحقوق وحريات الإنسان»[31].
ولم يقف كاتبُنا عند محاولاتِه الصَّارمة تجفيف المنابع الصريحة التي يستقي منها الشرُّ الدينيُّ مفاهيمَه ومقولاته، لكنّه عمل أيضًا على رفض المحاولات المُضْمَرَة التي من خلالِها يُسْتَرَقُ الدِّينُ؛ كمحاولات أسلمة المعرفة[32]، والتّجاوز بالدين عن حدوده الأنطولوجيّة في أيّ نسق؛ دينيًّا كان أم فلسفيًّا. من الأفكار التي أولاها الرفاعيّ اهتمامًا بالغًا ونحن في هذا الصَّدَد موضوع ترحيل الدين عن نطاقه الأنطولوجي الرّحب إلى سياقات أخرى وظيفيّة؛ تعمل على سلبه وتكريسه لخدمة أهدافٍ ضيّقة تُمِيتُ رحمانيتَه ورحابتَه الأنطولوجيّة، فتجعله أكثر عنفًا وانغلاقًا ونبذًا للآخر. ومن هنا جاء نقدُه لعلي شريعتي[33] وحسن حنفي[34] اللَّذَيْنِ حاوَلَا بما يملِكان من أدواتٍ معرفيَّة ومهاراتيّة اختزالَ الدين، وتحويله من ثقافة إلى أيديولوجيا عن طريق تثويره، واستلاب رسالته الأصيلة، واستنطاق اليسارِ فيه، لذا يرفض ما سُمِّي «لاهوت التحرير»، وانتقد محاولات شريعتي العشوائيّة لأدلجة الدين، ومحاولات حنفي تخفيض أبعاده الميتافيزيقيّة على حساب الدنيويّة منها.
لا يترك الرفاعيُّ مفهومَه عن «الأيديولجيا» عائمًا غائمًا لا يمكن الوقوف عليه، لكنّه يؤكِّد على أنّه لا يعني بها – في أي كتاب من كتبه – «علم الأفكار، أي دراسة الأفكار دراسةً علميّة… [وإنّما يعني بها] نظامًا لإنتاج المعنى السياسيّ، يصنع نسيجَ سلطة متشعِّبَة لإنتاج حقيقة متخيّلة، وفقًا لأحلام مسكونة بعالم طوباويّ موهم، [وهي بهذا المعنى] تزييف للحقيقة، وطمس لمعناها عبر حجب الواقع»[35]، فـ «الأيديولجيّ يُزَيِّف اللغةَ؛ يُحْدِثُ انقطاعًا بين الدالِّ والمَدْلُول، بين القول وبين الواقع الذي يتكلّم عليه»[36].
مصائر مكتباتنا
د. عبد الجبار الرفاعي
يؤلمني المصير الذي ستؤول إليه كتبي، لي مع كل كتاب ذكرى، بل الكتب بمجموعها تفيض بذكرياتي، بوصفها سجلًا للأزمنة والأمكنة والمحطات الفكرية لحياتي. نحن اليوم في العصر الرقمي إذ يتوغل الذكاءُ الاصطناعي في كلِّ شيء، ويتدفق سيل المعلومات والمعارف، إلى درجة لا يتمكن معه أيّ إنسان من ملاحقة إلا أقل القليل فيها. العصر الرقمي العاصف الذي نعيش في صيرورته، كأنه مرجل معبأ بالتيزاب يصهر كلّ صلابة في العلاقات والهويات والقيم والمعتقدات والثقافات والآداب والفنون والعلوم والمعارف والتكنولوجيا. أظن أن مفهوم الكتب والكتابة والمكتبة والقراءة على أعتاب تحول تطاله العاصفة الشاملة لتكنولوجيا الواقع الرقمي. بمرارة قررت ترحيل بعض الكتب بالتدريج إلى دار الكتب الوطنية ببغداد، ومكتبة أخرى في النجف. الصلة العاطفية المتراكمة عبر سنين طويلة بكل كتاب بوصفه سجلا ناطقًا بذاكرتي، تدعوني للتشبث بالكتب، انتزاعها من بيتي كأنه انتزاع شيء من روحي، أمتنعت من نقل الكتب مرة واحدة للمأوَيين الجديدَين، لئلا يفجعني طمس الذكريات المضيئة لها، وبدأت منذ أشهر بترحيل ما أراه فائضًا، ولا تربطني فيه وشيجة عاطفية عميقة.
مكتبتي انتخبت كلَّ كتاب فيها بعناية فائقة، لا أعتمد غالبًا على الشائعات الإعلامية حول الكتب، أحاول أن أتعرّف على الكتاب بنفسي،كي أسمح أن تستضيفه مكتبتي. أخطأت باختيار بعض الكتب، فلبثتْ مقيمة مدة على رفوف المكتبة، وإن كنت أحرص على النظر في الكتب أكثر من مرة بعد حضورها في المكتبة، لأستبعد ما أكتشف خطأي بشرائه وضمه للمكتبة. لحظة أتأمل في صفحاته ولا أراه إلا مجرد تكديس ألفاظ على ألفاظ لا أطيق بقاءه على رفوف المكتبة. منذ سنة 2010 إلى اليوم، استبعدت أكثر من 5000 كتاب ومجلة، ومازلت كلما صادفت أحد الكتب الذي أخطأت باستضافته على رفوف المكتبة أستبعده فورًا.
شغفي هو الكتاب، حيثما رأيت كتابًا أنظر لعنوانه، لو التقيت إنسانًا أعرفه أو لا أعرفه بيده كتاب أنظر للكتاب مباشرة وبسرعة بعد النظر لوجهه، أتلصص على عنوانه بعيون خجولة، وربما خرجت عن بروتوكولات التعامل فسألته عن الكتاب ومؤلفه قبل أن نبدأ الحديث. الطريف أن بعض الناس يقع الكتاب بيده هدية وهو لا صلة له بأي كتاب، لا يغويه حتى النظر لعنوانه. لحظة أسأله يعلن أنه لا يعرف شيئًا عنه، فيبادر فورًا لإهدائي الكتاب أحيانًا، وكأنه يطلب مني عدم الانشغال بمثل هذا الأمر الذي لا يستحق أن نستهلك الوقت بالحديث حوله برأيه. لم أخطط يومًا في حياتي لإنشاء مكتبة، غير أن هذا الولع بالكتاب يوقعني بمصيدة الكتب، ما وصلت لمدينة إلا وسعيت لزيارة مكتبات البيع فيها قبل كل شيء، لا أزور إلا المتاحف والمكتبات في البلدان. أزور القاهرة مثلًا فأذهب للهيئة المصرية للكتاب، وقصور الثقافة، والمركز القومي للترجمة، ودار المعارف، وغيرها.كنت مدعوًا لمعرض القاهرة للكتاب سنة 2024، لم أحمل في حقيبتي سوى 40 كغم كتبًا إلى بغداد. كنت ومازلت زائرًا مدمنًا لمكتبات شارع المتنبي ببغداد، منذ سنة 1973 حتى اليوم. لا أذهب أيام الجمعة في السنوات الأخيرة لاكتظاظ الشارع بزائريه من القراء والمهتمين بالكتاب والنزهة.كلُّ مرة أقرّر ألا أشتري كتابًا عندما أذهب للمتنبي أو لمعرض الكتاب ببغداد، الذي أحرص على الحضور فيه مساء أيام انعقاده، ينهار القرار فجأة لحظة أرى كتابًا يغويني، أعود للبيت بمجموعة من الكتب، لا تجد هذه الكتب مأوى لها على رفوف مكتبتي، ولا فوق أكداس الكتب المتناثرة على طاولة الطعام وطاولات الغرف، فتتحير زوجتي بتدبير مأوى لها، هي تظن الكتب ستطردنا الكتب من البيت رغمًا عنا، وأنا لا أطيق العيش في بيت لا يختنق بالكتب. أقول لها: لا أحتاج إلا كرسي الجلوس للكتابة وسرير النوم، مشهد الكتب وهي مكدّسة يسليني ويؤنسني. هي تتطلع لتنسيق ديكور الغرف بأثاث حديث مماثل لما تراه في بيوت الناس، والغرف معبأة بالكتب. الكتب الجديدة لا يتسع وقتي إلا لقراءة مقدّماتها ومحتوياتها وتصفحها، وأُمّني نفسي بمطالعتها لاحقًا، ولا أظن عمري يتسع لمطالعتها وغيرها من الكتب المصطفة في الدور مما أتشوق لمطالعته. هكذا تتكون مكتباتي. مكتباتي تعدّدت بتعدّد المدن التي عشت فيها، في بيت العائلة أنشأت نواة مكتبة، وأنا في الشطرة وبغداد، وفي حوزة النجف تولد مكتبات، تتسع تبعا لقدرتي على شراء الكتب وتقديمها أحيانًا حتى على الحاجات الضرورية للعائلة ولي. في الكويت تشكلت مكتبة جديدة، كان مصيرها الإحراق، في حوزة قم ولدت مكتبة تضم آلاف الكتب، كان مصيرها البيع بأكملها، لتأمين المبلغ اللازم لإصدار مجلة قضايا إسلامية معاصرة، فأسست مكتبة لاحقة تتسع لآلاف الكتب. في بيروت هناك مكتبة مودعة في شقة ابني د. محمدحسين الرفاعي، وفي بغداد ملأت الكتب غرف البيت بأسرها.